في الوقت الذي ما زال فيه الحزب الديمقراطي منقسماً على نفسه في سباق حامي الوطيس، قد يستمر حتى مؤتمر الحزب في شهر آب المقبل، بين مرشحيه هيلاري كلينتون وباراك أوباما، فقد تُوج السناتور جون ماكين، في الرابع من آذار الماضي، بالفوز كمرشح للحزب الجمهوري في الانتخابات القريبة للرئاسة الأميركية.
وتكمن في هوية وقصة حياة ماكين كـ "حصان جامح" لا يمتثل للقواعد المتبعة، سر قوته وسحره وفي الوقت ذاته التهديد الرئيس لقدرته على الفوز في انتخابات تشرين الثاني المقبل. وقد انتهج ماكين، في سلسلة من القضايا والموضوعات، وفي مقدمتها مسألة الهجرة المشحونة (الملونة في معظمها) مواقف تتعارض مع توجهات غالبية الجمهوريين، ولا سيما معسكر المحافظين، الذين شجبوا مواقفه بلهجة شديدة ووصفوه على أنه جمهوري بالاسم فقط. ولعله لهذا السبب بالذات، يمتلك فرصة في أن يظهر في نظر الرأي العام- في مواجهة خصم/ أو خصمة تتمتع بمكانة قوية من الجانب الديمقراطي- كشخصية مستقلة، مثيرة للاهتمام ومتحررة من القيود والاعتبارات المؤسسية، وفي نظر جمهور السكان الملونين، الذين يشكلون جزءاً ذا أهمية متزايدة في الخريطة السياسية والاجتماعية للولايات المتحدة، كصديق حقيقي لقضيتهم، أخذ على عاتقه مخاطر جسيمة من أجل مواجهة مشكلة مكانة 12 مليون مهاجر غير شرعي.
في الوقت ذاته ما زال من غير الواضح- على الرغم من تعهد مايك هاكبي، مرشح اليمين الديني بالوقوف إلى جانب ماكين في سباقه للرئاسة- إلى أي حد سيكون المحافظون الجدد والمحافظون التقليديون، الذين يسيطرون على شبكات ومنظمات اجتماعية واسعة ويمتلكون قدرة على تجنيد ملايين المصوتين، مستعدين للانخراط في جهد حقيقي وعميق من أجل فوز مرشح (ماكين) يرتابون في نواياه.
هذه الصورة لماكين كشخصية شاذة، تنسجم مع سيرة حياته التي قل نظيرها في التاريخ السياسي الأميركي.
ماكين- سيرة موجزة
جون سيدني ماكين الثالث هو سليل عائلة ذات سيرة عسكرية حافلة عمرها من عمر الجمهورية... فقد كان جده أدميرال في الحرب العالمية الثانية وكذلك أبوه الذي تولى قيادة الساحة البحرية في المحيط الهادئ في فترة حرب فيتنام. ولد جون ماكين في قاعدة عسكرية أميركية في بنما العام 1938 (ويعد أكبر المرشحين عمراً في تاريخ انتخابات الرئاسة الأميركية). في إطار محطات الخدمة العسكرية لأبيه، ارتحل ماكين من ولاية إلى أخرى وأقام مع أسرته في مدن عديدة، وخلال ذلك أشتهر بكثرة تورطه في أعمال شغب وإخلال بالنظام، وعندما التحق في العام 1958 بأكاديمية الأسطول البحري الأميركي في أنابوليس، كان من بين الذين برزوا بعلاماتهم المتدنية للغاية وبسجلهم الحافل بالنقاط والملاحظات السلبية بسبب سلوكهم وتصرفاتهم.
خلال مشاركته في حرب فيتنام أسقطت الطائرة التي كان يقودها (سكاي هوك) في أثناء إحدى الغارات على فيتنام الشمالية في العام 1968، مما أدى لإصابته بكسور خطيرة في ساقه ويده، ووقع في أسر الثوار الفيتناميين، لكنه نجا من الموت بعد علاج طويل خضع له في أحد معسكرات الأسرى هناك.
في أعقاب التوصل إلى اتفاق لوقف إطلاق النار في العام 1973 أطلق سراح ماكين بعد توقيعه "في لحظة ضعف ندم عليها فيما بعد" حسب قوله (وكان قد أقدم مرتين على محاولة للانتحار في أثناء فترة أسره) على إعلان مهين يقر فيه بأنه "مجرم ارتكب جرائم... الخ". عند عودته، وكان يمشي على عكازين، فوجئ كما قال حين رأى زوجته أيضاً، كارول شاف (وهي عارضة أزياء من فيلادلفيا، تزوجها قبل سنة من خروجه إلى فيتنام) وكذلك ابنه، يمشيان على عكازين، وذلك إثر تعرضهما لحادثين منفصلين، دون أن يعلم عن ذلك شيئاً في أثناء وجوده في الأسر. غير أن لم شمل العائلة لم يستمر لفترة طويلة، إذ عُيّن ماكين بعد تماثله للشفاء من جروحه، كضابط ارتباط من طرف الأسطول مع الكونغرس الأميركي، ليتاح له هناك التعرف على المؤسسة السياسية. وبحسب ما رواه بنفسه، فقد عاش في أثناء هذه الفترة مجدداً حياة شخصية صاخبة أدت إلى انهيار زواجه (حسب رواية زوجته السابقة- كارول- فقد سعى ماكين وهو في سن الأربعين للعودة إلى حياة الشباب الطائش). تجدر الإشارة هنا إلى أن شائعات قد ترددت مراراً في أثناء حملته الانتخابية الأخيرة أيضاً عن علاقاته الغرامية. بعد فترة قصيرة من طلاقه (من زوجته السابقة كارول) تزوج ماكين مجدداً، من سيندي هنسلي، وهي ابنة صاحب أحد مصانع البيرة المشهورة في فينيكس، ثم انتقل إلى أريزونا، لينصرف هناك إلى الحياة السياسية.
صقر مستقل
انتخب ماكين للكونغرس في العام 1982، وبرز منذ بداية طريقه- لا سيما فيما يتعلق بالشرق الأوسط- بتوجهاته ومواقفه المستقلة والنقدية، وبحذره فيما يتعلق باللجوء غير العقلاني للقوة العسكرية. في العام 1983 صوت ضد تمديد التفويض الذي طلبته إدارة الرئيس ريغان بالنسبة للتواجد العسكري الأميركي في لبنان (كجزء من القوة المتعددة الجنسيات)، وقد ظهرت صحة تحذيراته من الإشكاليات الكامنة في تلك المهمة وذلك في شهر تشرين الأول من نفس العام (1983) حين قتل أكثر من 240 من جنود مشاة البحرية الأميركية (المارينز) في هجوم على مقر قيادة المارينز في بيروت. مع ذلك لا بد من الإشارة إلى أن ماكين لم يعارض وقتئذٍ مبدأ استخدام القوة أو التصدي الحازم للعناصر الإرهابية، فمواقفه الأساسية في هذين البعدين متشددة جداً، ومن هنا ينبع بالذات "توجهه الإيجابي نحو التعاون الوثيق مع إسرائيل".
بعد أن أشغل فترتين عضوية مجلس النواب انتخب ماكين لعضوية مجلس الشيوخ في العام 1986. ومن بين الموضوعات التي برز فيها كسناتور، يمكن الإشارة إلى ما يلي:
•نضاله العنيد ضد الفساد وهدر الأموال على أساس "تقسيم الغنائم" بين المقاطعات الانتخابية ومجموعات المصالح المختلفة.
•ناضل ماكين بصورة منهجية وثابتة من أجل إجراء إصلاحات سياسية تحد من نفوذ أصحاب رؤوس الأموال والشركات والمنظمات المتنفذة.
•قاد ماكين بالتعاون مع أعضاء جمهوريين معتدلين ومجموعة من الديمقراطيين في الكونغرس مبادرات تشريعية في مجالات عدة، مثل حجم التبرعات المسموحة للحملات الانتخابية وموضوع تعيين القضاة وغيرها.
في عهد إدارة بوش
في العام 2000 هزم ماكين أمام حملة جورج دبليو بوش الانتخابية بعد منافسة بشعة في الولايات الجنوبية، لم يتورع خلالها أعوان بوش عن ممارسة حملات تشهير قاسية صورت ماكين كـ "ليبرالي مُقَنَّع". في فترة ولاية بوش (الأولى خاصة) وجه ماكين مراراً انتقادات شديدة ولاذعة لإدارة بوش ومواقفها، ولكن مع مرور الوقت ظهر تقارب بينهما، خاصة حين تحول الرئيس بوش إلى إتباع سياسة "مركزية" أكثر. وخلال السنة الماضية وقف ماكين بشكل حازم إلى جانب الرئيس بوش في موضوعين إشكاليين للغاية من ناحية سياسية، الأول: قضية "تعزيز القوات الأميركية في العراق" وذلك من أجل تغيير الميزان الأمني والسياسي. الموضوع الثاني: إعطاء الجنسية للمهاجرين غير الشرعيين ضمن مسار مراقب ومتعدد السنوات، غير أن هذا الموضوع أحبط في نهاية المطاف في مجلس الشيوخ، لكن ماكين (كحال المرشح الديمقراطي باراك أوباما) انتهج لهجة معتدلة حيال هذه القضية، وذلك استناداً لموقف أجهزة الأمن وجهات اقتصادية أميركية، والتي تدرك مخاطر سياسة طرد المهاجرين غير الشرعيين، وتفضل تكريس الوضع القائم.
ولعل ماكين انطلق في هذا الموقف من اعتبارات انتخابية، إذ سيصب موقفه حيال قضية المهاجرين على الأرجح في تجنيد أصوات الناخبين لصالحه في انتخابات تشرين الثاني المقبل. هناك عوامل أخرى يمكن أن تخدم ماكين مثل كبر سنه، وسيرته العسكرية في حرب فيتنام، ووقوف والدته الطاعنة في السن (95 عاماً) إلى جانبه في حملته الانتخابية، إضافة إلى ما يتمتع به من روح دعابة وسلاطة لسان..
صديق حقيقي لإسرائيل
وفيما يتعلق بمواقف ماكين في قضايا الشرق الأوسط، فهو أولاً معروف منذ سنوات طوال كـ "صديق حميم لإسرائيل"، وفي هذا السياق تبرز أيضاً حقيقة أنه الوحيد من بين المرشحين للرئاسة الذي قام مؤخراً بزيارة لإسرائيل (تبعها بزيارة إلى العراق)، بالإضافة إلى ذلك يبرز ماكين بمواقفه الحازمة والمتشددة حيال إيران وهو يؤكد مراراً على "وحدة المصالح في مواجهة إيران" وهو أيضاً صاحب المقولة الصريحة إزاء البرنامج النووي الإيراني "كل الخيارات سيئة. لكن أسوأها هو عدم القيام بشيء".
__________________________________
* الكاتب كولونيل احتياط في الاستخبارات وخبير في السياسة الدولية والعلاقات الأميركية- الإسرائيلية ويعمل مديراً لمكتب إسرائيل والشرق الأوسط في المجلس اليهودي الأميركي. المقال ترجمة خاصة بـ "المشهد الإسرائيلي". (المصدر- شبكة الانترنت).