يبدو أرييل شارون وأصدقاؤه في واشنطن في حال سباق مع الزمن من أجل تحقيق أهدافهم قبل أن تعترضهم العقبات: وهم حين يكونون في عجلة من أمرهم فإنما يصبحون في منتهى الخطورة... فأنظارهم تتجه الآن نحو سورية وإيران وربما نحو السعودية بعد ذلك بل حتى نحو مصر. ويمكنهم في سبيل أغراضهم استخدام كل الوسائل من الضغط السياسي والاقتصادي إلى العقوبات المالية إلى التدخل وتغيير النظام بقوة السلاح. كل ذلك من أجل إخضاع العرب لإرادة أميركا وربيبتها إسرائيل.
ومن المعلوم أن هدف شارون الرئيسي هو بناء إسرائيل الكبرى على حطام الحركة الوطنية الفلسطينية. ويهدف الجدار أو السياج الذي يجري تنفيذه إلى حصار الفلسطينيين وسجنهم على جزء من أرضهم وعزلهم من جميع الجوانب عن الاتصال بجيرانهم العرب. وينتظر أن يكتمل بناء هذا الجدار خلال ثمانية أشهر ولن يحول أي شيء دون تصميم شارون على إنجاز هذا العمل.
ولقد حقق هذا الأسبوع انتصاراً ديبلوماسياً كبيراً حين استخدمت أميركا حق الفيتو لمنع اتخاذ قرار في مجلس الأمن بإدانة بناء الجدار. وما كادت تمضي ساعات قليلة حتى تعرض وفد أميركي في غزة لضربة قتل فيها ثلاثة من أعضائه وجرح الرابع. ولا بد أن شارون سيستغل هذا الحادث كي يكسب تأييد الرأي العام الأميركي ضد الرئيس الفلسطيني ياسر عرفات.
شارون قد يخسر بوش
لعل السبب الرئيسي لقلق شارون وبالتالي إسراعه في تنفيذ مشاريعه هو خوفه من أن يسقط الرئيس بوش في الانتخابات المقبلة ويسقط معه كامل الفريق الموالي لإسرائيل من المحافظين الجدد الذين أعدوا الأجندة للإدارة منذ 11 أيلول (سبتمبر) 2001. وهؤلاء هم الذين مارسوا الضغط من أجل الحرب على العراق كخطوة أولى نحو إعادة تشكيل الجغرافيا السياسية للشرق الأوسط. غير أن ركود الاقتصاد الأميركي والفوضى في العراق ومشاعر النقمة على أميركا التي تجتاح العالمين العربي ولإسلامي، كل ذلك جعل الرئيس بوش في وضع حساس. وأياً كان الرئيس الديموقراطي المنتخب فلن يكون بهذا التسامح مع أطماع إسرائيل الجنونية ولن يقبل بسياسات المحافظين الجدد.
ومن ناحية ثانية هنالك أسباب داخلية أخرى لقلق شارون وهي تتعلق بالآثار السياسية للتحقيقات التي يقوم بها البوليس مع ولديه عومري وجلعاد بشأن ما ينسب إليهما من إساءة استغلال سلطة أبيهما وقبول الرشاوى، الأمر الذي يودي بشارون نفسه خارج الحكم في عام 2004. ومما يزيد في مخاوفه أن اليسار في إسرائيل، الذي بدا عاجزاً ومريضاً سياسياً منذ سنتين أخذ يستعيد نشاطه ويعود إلى الحياة من جديد.
فلقد انضم زعماء بارزون في حزب العمل، يوسي بيلين، وعمرام ميتسناع، وأبراهام بورغ إلى فريق من السياسيين الفلسطينيين يرأسه ياسر عبد ربه، ليضعوا مشروع سلام مفصل قائم على أساس وجود دولتين، سمي "اتفاقات جنيف". هذا المشروع هو نتاج سنتين من مفاوضات سرية موّلتها الحكومة السويسرية، ويفترض أن يتم توقيعه رسمياً في الشهر المقبل في جنيف، وهو يستكمل مشروع الاتفاق الذي جرى التوصل إليه في طابا، في مطلع عام 2001.
وينطوي هذا المشروع على كل ما يكرهه شارون وما قضى عمره من أجل تدميره. إذ يقضي بانسحاب إسرائيل إلى حدود ما قبل حرب 1967 (مع بعض التعديلات الطفيفة) وبقيام دولة فلسطينية قابلة للحياة مع ضم بعض المستوطنات الكبرى القريبة من الخط الأخضر لإسرائيل، والجلاء عن جميع المستوطنات الأخرى في الأراضي الفلسطينية. أما القدس، فستكون عاصمة تتقاسمها الدولتان على أساس السيادة الفلسطينية التامة على الحرم الشريف والسيادة الإسرائيلية على حائط المبكى والحي اليهودي في القدس القديمة. كما ينطوي مشروع الاتفاق على تنازل فلسطيني هام حول "حق العودة" إلى المدن والقرى التي استولت عليها إسرائيل عام 1948. وتشرف قوة دولية على تنفيذ هذا الاتفاق في حين يتم ترويض الحركات الفلسطينية المتطرفة ووقف نشاطها.
بديل الحرب
قد تبدو اتفاقات جنيف في المناخ الحالي طوباوية لا تبعث الكثير من الأمل، وهي لا يمكن أن تجد سبيلها إلى التطبيق ما دامت حكومة شارون أو أي حكومة مماثلة تتولى السلطة. غير أن أهمية هذه الاتفافات تكمن في كونها تمنح الرأي العام الإسرائيلي ما ينقصه وما يرنو إليه، وهو الأمل في الخلاص من كابوس القتل والقتل المضاد. وبعبارة أخرى فإن تغيير الحكم في واشنطن وجنوح الرأي العام الإسرائيلي نحو الوسط نتيجة لطرح مشروع سلام مقبول يهددان طموحات شارون. فقد علق على "اتفاقات جنيف" بغضب صارخاً: "بأي حق يقوم يساريون باقتراح حلول لا يمكن لإسرائيل أن تقبل بها في يوم من الأيام ؟".
وقد طال ما أراد شارون الاستيلاء على كامل الأراضي الفلسطينية وهو طموح ينطوي على طرد معظم - إن لم يكن جميع - الفلسطينيين من الضفة الغربية إلى الأردن، الذي يصبح عندئذ هو الدولة الفلسطينية. ولكن بما أن العقبات التي تعترض هذا المشروع يصعب التغلب عليها اختار شارون حلا أكثر تواضعا يقضي بالاستيلاء على تسعين في المئة من أراضي فلسطين التاريخية وحشر الفلسطينيين في عشرة في المئة منها وراء الجدار المشؤوم. وهو ولا شك يحسب بأنه متى تم بناء الجدار فسيقبل به المجتمع الدولي مع الزمن، بل والفلسطينيون أنفسهم كحدود لإسرائيل.
ومن هنا تصميم شارون وأنصاره في أميركا على المضي قدماً وبأقصى السرعة في مشروعه مستغلاً المناخ الإقليمي والدولي الذي يعمل لصالحه.
ولعل الورقة الأهم في يد شارون هي الرئيس بوش نفسه. فقد تراجع هذا الأخير عن التزامه بحل النزاع العربي - الإسرائيلي تاركاً لإسرائيل التصرف في الأمر وفق شروطها ويبدو هذا جلياً في استخدام أميركا لحق الفيتو في إدانة مجلس الأمن للقصف الإسرائيلي الذي استهدف سورية ولإدانة بناء الجدار العازل، كما تجلى ذلك في سكوت الإدارة على استمرار إسرائيل في بناء المستوطنات وتوسيعها، وفي سكوتها على حملة تدمير الأملاك الفلسطينية في رفح، على الحدود المصرية، والتي أدت إلى تشريد 1500 فلسطيني وجعلهم من دون مأوى. وإذ يعد بوش بعصبية لمعركة الانتخابات في الوقت الذي ينهار تأييده في استطلاعات الرأي، فإن سقوطه قبل شارون يعتبر أكثر الصفحات سواداً في تاريخ أميركا الحديث. وقد حط ذلك من مصداقيته في أوروبا كما ولد كراهية حادة لأميركا لدى طائفة المسلمين في أنحاء المعمورة.
مع ذلك هنالك أسباب كثيرة تدعو شارون للارتياح. ففي حين لا تواجه إسرائيل أي تهديد استراتيجي فإن أعداءها في حالة رعب: فالعراق المدمر واقع تحت الاحتلال الأمريكي، وإيران تواجه ضغطاً دولياً شديداً بشأن برامجها النووية وهي ممزقة في نزاعات داخلية بين المحافظين والإصلاحيين، ودول الخليج غير مبالية وراضية تحت المظلة الأميركية، ومصر التي حيدها اتفاق السلام مع إسرائيل إضافة إلى المساعدات الأمريكية لن تجرؤ على التفوه بكلمة للدفاع عن الفلسطينيين، هذا في حين تواجه سوريا ضغوطاً وتهديدات من كل حدب وصوب سواء من واشنطن التي تعد العدة لتطبيق عقوبات اقتصادية وديبلوماسية يحتويها قانون محاسبة سوريا الذي يجري إقراره الآن، أو من قبل إسرائيل التي أرسلت طائراتها في الأسبوع الماضي لتضرب سورية والتي يمكن أن تكرر ذلك.
لا يزال شارون يعتقد أن في إمكانه إكراه الفلسطينيين على الخضوع. فاستهداف معسكر فلسطيني قرب دمشق والهجمات الوحشية المدمرة والمتكررة في رفح تعني بوضوح توجيه تحذير إلى كل من سورية ومصر بأن يوقفا دعمهما للفلسطينيين وإلا يتحملان العواقب. غير أن شارون لم يجد بعد الوسيلة للرد على عمليات الانتحاريين التي تهز الرأي العام الإسرائيلي وتهدم الاقتصاد وتقتل السياحة وتوقف أي استثمار أجنبي. هذه العمليات هي مصدر حرج كبير لشارون، لكنه مع ذلك قد يعتقد بأن مشروعه يستحق المجازفة بدفع هذا الثمن الباهظ. فالأولوية في نظره هي للأرض وليس للأمن. فالأمن في اعتقاده سيتوفر حين يتم بناء الجدار ويستسلم الفلسطينيون.
* كاتب بريطاني متخصص في شؤون الشرق الاوسط.
الحياة 2003/10/17