المشهد الإسرائيلي

ملحق أسبوعي يتضمن مقالات صحفية وتحليلات نقدية ومتابعات عن كثب لمستجدات المشهد الإسرائيلي.
  • مقالات مترجمة
  • 1141

نداف شرغاي - "هآرتس"
ليس بعيدا عن حي "معاليه هزيتيم" (هذا هو الاسم الرسمي للمنطرة اليهودية في طرف حي راس العمود، في القدس الشرقية)، بجوار قسيمة قبور "السفراديم" (هتسور) في المقبرة التي على جبل الزيتون، تسكن منذ اشهر عديدة مجموعة من الشبان اليهود. انهم يسكنون في بناية قديمة فيها ثلاثة منازل آيلة للسقوط، يبلغ عمرها نحو مائة عام، محاطة بالقبور والشواهد، على بعد بضع عشرات الامتار عن المسجد المقام على طريق اريحا وعن مقر الشرطة في المنطقة.

 

شركة "كديشا" الرئيسية العامة في القدس الغربية، صاحبة الملكية على المكان، سمحت لهم بالبقاء في البناية طالما رغبوا في ذلك. من الناحية الرسمية، يتم اعتبارهم حراسًا للمكان، اما من الناحية الفعلية فانهم يثبتون ويكرسون حضورًا يهوديًا الى الشرق من البلدة القديمة في القدس، ذلك الجزء ذاته الذي كان رئيس الحكومة السابق ايهود براك مستعدًا، قبل ثلاث سنوات فقط، لنقله الى يدي السلطة الفلسطينية. وتحافظ هذه المجموعة على تنسيق وثيق مع ارييه كينغ، احد طلائعيي الاستيطان اليهودي في حي "معاليه هزيتيم" والمعروف ايضاً باسم "قسيمة موسكوفيتش" (على اسم مالك الارض أرفين موسكوفيتش)، والذي ستدخل العائلات الاولى الى موقعها الدائم خلال الاسابيع القريبة.

في شركة "كديشا" يقولون ان مهمة هؤلاء الشبان، وعددهم ثمانية، هي حراسة المنطقة ليلَ نهار، والحفاظ على طابعه كمقبرة يهودية. فخلال السنوات الأخيرة استولت على المكان مجموعات من المدمنين على المخدرات وتحول الى مكب لنفايات البناء، مسلخ للسيارات المسروقة ومعبر لعمال فلسطينيين وقطعان المواشي، بين راس العمود وبين مناطق اخرى من جبل الزيتون. وقد ادى هذا الى توقف عائلات يهودية عن زيارة المكان وزيارة أضرحة اقربائهم.

هنا ايضًا، كما حصل في "مدينة داود" الواقعة في سلوان، غيَّر التواجد اليهودي، كلياً، خارطة الاجرام المحلي وهبطت دالة الحوادث الجنائية في المنطقة هبوطًا حادًا. كما هبط ايضاً عدد حالات البناء غير القانوني في منطقة المقبرة، رغم ان الظاهرة لا تزال قائمة. قبل بضعة اشهر اصدرت بلدية القدس (الغربية) امرًا بهدم مبنى غير قانوني مكون من سبعة طوابق اقامه الفلسطينيون الى الشمال من القسيمة اليمنية في المقبرة.

البيوت الثلاثة التي يسكن فيها الشبان اعضاء المجموعة هي جزء من المقبرة اليهودية في جبل الزيتون. فقد كانت شركة "كديشا" اشترتها قبل اكثر من مائة عام، ويجري الآن ترميمها. بجوارها، يوجد موقف واسع للسيارات اقامته "شركة تطوير شرقي القدس" بالتعاون مع جهات اخرى، مثل "مركز الزائرين الجديد" في جبل الزيتون.

موقف شركة "كديشا"، التي تسمح عملياً بوجود هذا المستمسك اليهودي، ليس مفاجئًا. جميع مديري شركات "كديشا" في السنوات الأخيرة هم من المدافعين الأشداء عن الاستيطان اليهودي في راس العمود، عند سفوح جبل الزيتون. التوجه الذي تمثله شركات "كديشا" يقول انه كلما كان التواجد اليهودي الحي في المنطقة اكثر قوة ورسوخًا، كلما ازداد عدد اليهود الذين يؤمّون قبور موتاهم في جبل الزيتون. كذلك مجلس المقابر اليهودية في القدس يدعم الحضور اليهودي في راس العمود. فقد كان رؤساء هذا المجلس وجهوا رسالة الى بلدية القدس (الغربية)، في المراحل الاولى من التخطيط، اكدوا فيها ان "هذا الاستيطان سيدفع الكثيرين ممن لهم اقرباء مدفونون في جبل الزيتون الى التوافد عليها، الأمر الذي لا يستطيعون القيام به اليوم نظراً لأسباب أمنية". حتى ان سكرتير شركة "كديشا" العامة في القدس، حنانيا شحور، اكد لهيئات التخطيط البلدية ان "اقامة حي يهودي في راس العمود ستحدث تغييرًا ثورياً في الوضع الأمني وفي الشعور بالأمن في جبل الزيتون".

نقطة يهودية اخرى في منطقة راس العمود هي في جوار محطة الوقود، على بعد بضع مئات من الأمتار عن "معاليه هزيتيم". المحطة والأرض المحيطة بها تم شراؤهما قبل سنوات، دون أي ضجة اعلامية. حول محطة الوقود و"معاليه هزيتيم" اقيمت بعض البنايات التي تم شراؤها من قبل جمعيات يهودية او متمولين يهود، من امثال موسكوفيتش، لكن موانع قانونية لا تزال تحول دون توطين عائلات فيها.

لدى الجمعيات اليهودية خطة كبيرة لعقد صفقة مع لجنة الطائفة البخارية، مالكة الارض التي تقوم عليها بناية الشرطة في منطقة "شومرون". في العام 1948، بعيد الحرب، قام الاردنيون بمصادرة الأرض لصالح "الجيش العربي الاردني". ولأن المصادرة تمت، آنذاك، على اساس الاحتياجات أمنية، فقد اعتمدت ذلك ايضًا حكومة اسرائيل في العام 1967. تم ذلك بطريقة تجاوزت الحاجة الى إجراءات قضائية اضافية تجاه لجنة الطائفة البخارية، واتاحت الاستيلاء على البناية ووضعها تحت تصرف شرطة اسرائيل. في السنوات الأخيرة، وعلى خلفية رغبة الشرطة بنقل مقر قيادة منطقة "شومرون" الى مكان آخر، ومحاولات لجنة الطائفة البخارية ممارسة حقها على الارض والرغبة الجلية لدى الجمعيات اليهودية في وضع اليد على الارض والبناية وتوطين بعض العائلات اليهودية فيها، جرت اتصالات بين هذه الجهات الثلاث. وقد استؤنفت هذه الاتصالات مؤخرًا مع تشكيل الحكومة الجديدة.

يغلقون الرواق

من وراء نثر النقاط اليهودية في منطقة راس العمود والحي اليهودي المخططة اقامته في الجهة الشرقية على اراض تابعة لليهود في ابو ديس، هنالك رؤيا متماسكة تعززت في اعقاب استعداد ايهود براك في حزيران 2000 لتقسيم القدس وتسليم الجزء الأكبر من المساحات الواقعة شرقي البلدة القديمة الى السلطة الفلسطينية. ارييه كينغ وزملاؤه الذين يقطنون اليوم في "معاليه هزيتيم"، وكذلك راعيهم الملياردير اليهودي ارفين موسكوفيتش، يصرون على احباط اية فكرة بشأن تقسيم القدس. وبشكل عيني اكثر، يصرون على احباط "خطة الرواق" كما رسمتها ورقة التفاهمات بين يوسي بيلين وابو مازن قبل اغتيال رابين واوراق طواقم المفاوضات في كامب ديفيد قبل ثلاث سنوات.

فكرة الرواق ليست فكرة جديدة. فقد طرحت للمرة الأولى في بداية السبعينات في محادثات بين موظفين اسرائيليين وموظفين اردنيين، حين جرى فحص امكانية انشاء رواق ضيق من اليابسة تحت سيطرة اردنية يربط بين منطقة اريحا وبين الحرم القدسي الشريف، مرورًا بمنطقة سلوان وراس العمود. هذا الرواق كان ضرورياً، حسب ما زعم، لتجنيب الحجاج المسلمين، وبضمنهم ملكا الاردن والسعودية، المشي على ارض تحت السيادة الاسرائيلية في طريقهم الى المسجد الأقصى. وخلال السنوات اللاحقة طرحت الفكرة بصيغ اخرى مختلفة حتى تمت صياغتها نهائيًا في ورقة بيلين وابو مازن.

نثر النقاط اليهودية في سلوان وراس العمود وجبل الزيتون وابو ديس من شأنه ان يصعب كثيرًا، حتى لو لم يمنع كليًا، تنفيذ هذه الخطة. هذه هي الخلفية الحقيقية للدعم المثابر الذي قدمه رئيس بلدية القدس (الغربية) السابق ايهود اولمرت للمستمسكات اليهودية في تلك المواقع. وهذا هو ايضًا السبب الأساسي للدعم الكبير الذي يقدمه لهذه النقاط الاستيطانية رئيس الحكومة ارئيل شارون، الذي كان قد تم التخطيط في وزارة الاسكان، حين كان يتولاها قبل اكثر من عشر سنوات، لاقامة عدد من نقاط الاستيطان اليهودية الى الشرق من البلدة القديمة في القدس، بما في ذلك في راس العمود وابو ديس.

مساحات الارض القليلة الخالية في منطقة راس العمود والتي بملكية يهودية هي اما بملكية الأوقاف او شركات "كديشا". كذلك الحي الدائم في راس العمود الذي يجري التوطن فيه هذه الأيام ، اقيم على ارض كهذه. فقد تم امتلاك هذه الارض في القرن التاسع عشر من قبل المحسنين موشي فايطنبرغ ونيسان بك، بحكم وصايتهما على مدارس دينية. ومنذ البداية خصصت الارض، الواقعة في مشارف جبل الزيتون، لتكون جزءًا من المقبرة اليهودية في المنطقة، لكن الأتراك منعوا اليهود من دفن موتاهم هناك، من منطلق منع دفن الموتى عموماً في منطقة راس العمود الى الجنوب من شارع القدس - اريحا.

وكحل وسط، قررت المدارس الدينية تأجير الأرض لمزارع عربي قام، لسنوات عدة، بزراعة القمح الذي كانوا يخبزون منه "رغيف الفصح" لليهود في القدس. كذلك دأب البريطانيون، الذين حلوا مكان الأتراك، على منع دفن الموتى الى الجنوب من شارع القدس - اريحا، مثلما منعوا الدفن في قسيمة البخاريين والبابليين الواقعة لصق قسيمة فايطنبرغ - بك ، وكذلك في مساحة تبلغ 13 دونما من الجهة الشرقية، التي اقيم عليها لاحقا مقر الشرطة في منطقة "الشومرون". تم السماح بدفن الموتى، عمليًا، في قسيمة واحدة تقع جنوبي الشارع، قسيمة لجنة الطائفة السفارادية والتي هي جزء من المقبرة في جبل الزيتون. هذه القسيمة تضررت كثيرًا خلال الانتفاضة وتم تدنيسها من قبل الجيران العرب.

في العام 1923 عدل البريطانيون قوانين الأراضي. سمحوا بنقل الأراضي من الأوصياء القيمين الى الجمعيات، فتم نقل الأرض رسمياً الى ملكية المدارس الدينية. ابان الحكم الأردني، بعد العام 1948، نجح ابناء عائلة رول في مخادعة مسجل الأراضي الأردني وسجلوا الأرض باسمهم. بل قام احد ابناء العائلة بتأجير جزء من القسيمة. المسؤول عن املاك العدو في الاردن، الذي اكتشف الخدعة، شرع في العام 1965 في اتخاذ اجراءات قضائية ضد ابناء العائلة، لكنه فشل. نجح فقط في الاهتداء الى تسجيلات ضريبة الاملاك التي دلت على هوية اصحاب الأرض الحقيقيين، لكنه لم يهتد الى التسجيلات الأصلية في "الطابو".

في اعقاب حرب الأيام الستة توجهت المدارس الدينية الى الوصي الاسرائيلي على الأملاك، وعرضت امامه وثائق شراء الأرض، ومعاً شرعوا في اتخاذ اجراءات ضد تركة عائلة رول. هذه الاجراءات القضائية استمرت حوالي عشرين عاماً، اصدرت المحكمة المركزية في القدس، في ختامها، قرارًا لصاح المدارس الدينية. القيم على تركة عائلة رول قدم استئنافاً الى المحكمة العليا، وفي العام 1985 خسر القضية هناك ايضاً. فقد قررت المحكمة العليا ان الأرض تابعة للمدارس الدينية وأمرت بشطب جميع التسجيلات الأخرى التي نفذت ابان الحكم الاردني. ولكن المدارس الدينية، ولسبب غير معلوم، لم تحرص على شطب الوصي على تركة عائلة رول من الطابو كمالك للأرض، وخصصت بلدية القدس القسيمة لاقامة مبان عامة لصالح حي راس العمود العربي.

بعد سنوات، وخلال البحث الذي جرى في هيئات التخطيط حول خطة ارفين موسكوفيتش للبناء (وهو الذي اشترى الأرض من المدارس الدينية في العام 1990)، اعترف ممثلو بلدية القدس (الغربية) بأنهم لم يكونوا يعلمون ان الأرض تابعة للمدارس الدينية. فقامت بلدية القدس (الغربية) بالغاء مشروع اقامة المباني العامة للحي العربي على القسيمة اليهودية وأعلنت انها ستحاول ايجاد ارض بديلة له. معارضو الخطة العرب استغلوا، من جهتهم، هذا الخطأ وقدموا اعترضات على اقامة الحي اليهودي، مستندين على التسجيلات القديمة. لكن هذا الخطأ تم تصحيحه لاحقاً. فقد شطبت سلطات "الطابو" الوصي على تركة عائلة رول من قائمة مالكي القسيمة وسجلت المدارس الدينية اليهودية، بدلا منه.

انتصار اليمين

ولكن العراقيل استمرت ايضاً بعد تسوية امور التسجيلات في الطابو. حكومات اسرائيل لم تستطع تحديد موقفها في دعم هذه الخطة او معارضتها. قبل سبع سنوات، مثلاً، أمَر رئيس الحكومة آنذاك، بنيامين نتنياهو، باخلاء العائلات اليهودية التي دخلت الى الموقع، واوضح سكرتير حكومته داني نافيه، باسمه، انه "لم يطرأ أي تغيير على موقف الحكومة الاسرائيلية القائل بأنه لا ينبغي لعائلات يهودية ان تسكن هناك". في فرصة لاحقة قال نافيه ان ذلك لم يكن الا أمرًا مؤقتاً فقط. وبعد مضي بضعة اشهر سمح نتنياهو للعائلات بالعودة الى هناك تحت قناع "الحراسة" المزعوم. الطريقة نفسها اعتمدها ايضا المستوطنون اليهود الذين اقاموا "نئوت دافيد" في الحي المسيحي قبل 13 عاما، وفي مواقع استيطانية يهودية اخرى مماثلة في القدس.

بعد اغتيال رابين، منع رئيس الحكومة آنذاك، شمعون بيرس، وزير الداخلية في حكومته حاييم رامون من الغاء الربط بين إقرار خطة البناء للعرب في راس العمود وبين إقرار خطة بناء الحي اليهودي هناك. هذا الربط هو الذي دفع لجنة التخطيط والبناء في لواء القدس الى المصادقة، في ما يشبه الصفقة، على خطتي البناء المذكورتين معا. حاول رامون ايضًا، خلال اشغاله منصب الوزير لشؤون القدس في حكومة ايهود براك، تأجيل هذه الخطة، لكن الاستشارة القانونية التي قدمتها وزارة القضاء جزمت بأن الأمر غير ممكن.

تيدي كوليك، الذي عارض الخطة إبان توليه رئاسة بلدية القدس (الغربية)، اصبح فيما بعد محامي دفاع عن موسكوفيتش. وفي لقاء له مع الرئيس الأمريكي آنذاك بيل كلينتون، اوضح ان الارض هي بملكية يهودية منذ ما يزيد عن مائة عام، واضاف ان "الحديث هنا ليس عن مستوطنين كالذين في سلوان، يحضرون في الليالي ويخرجون الناس من بيوتهم، ولا كالذين يستندون على وجود غائبين ويجري بحث قضيتهم في المحاكم. ليس ثمة سبب حقيقي يدعو لمعارضة ذلك"، قال كوليك.

ارييه كينغ وارفين موسكوفيتش يتحدثان عن أعجوبة بعث الموتى في الجبل. "خلال مئات السنوات الماضية كانت هنا مدينة الموتى اليهودية الأكبر في العالم"، يوضح كينغ، "أحضروا يهودًا من كل اصقاع الدنيا لدفنهم فيها، وها هنا للمرة الأولى في التاريخ يسكن ويعيش فيها اليهود". وهو يقول ان "القبر هو ايضا صفة لرحم المرأة (من "اوهلوت" - الخيام - اسم فصل في المشناة والتلمود يعالج اصول التعهد بجثة الميت التي تعتبر رجسًا في الخيمة - المترجم) وها قد ولد لنا ابناء هنا".

يبدو أن الرأي القضائي الذي اعده المستشار القضائي للحكومة، الياكيم روبنشطاين، حول الاستيطان اليهودي في راس العمود، لم يعد ذا جدوى. قبل خمس سنوات حدد روبنشطاين معايير مختلفة ان تحققت، فبالامكان اخلاء العائلات من "معاليه هزيتيم" في راس العمود او منع اقامة الحي اليهودي في الموقع. مرت سنوات ولم ينشأ في المكان "خطر مؤكد، تقريباً، للاخلال بالنظام العام"، كما كتب المستشار، كما ان "قوات جدية من الشرطة وحرس الحدود ليست مثبتة في المكان" بسبب الاستيطان اليهودي هناك. في هذه المعركة، على الأقل، انتصر اليمين.

(هآرتس، 3/4، ترجمة: "مدار")

 

المصطلحات المستخدمة:

هآرتس, رئيس الحكومة, بنيامين نتنياهو

المشهد الإسرائيلي

أحدث المقالات