تمثّل أول استنتاج إسرائيلي من اندلاع الحرب بين روسيا وأوكرانيا في أن وقائعها أعادت إثبات مفعول العقيدة الأمنية الإسرائيلية والتي فحواها أنه في كل ما يتعلق بأمن إسرائيل لا يمكنها وإلى الأبد سوى أن تعتمد على نفسها وعلى قوة ذراعها العسكرية. وسبق أن نوهنا في أكثر من مناسبة بأن هذه الخلاصة كانت بمثابة فنارٍ اهتدى به جميع زعماء إسرائيل، بدءاً من ديفيد بن غوريون وصولاً إلى الزعماء الحاليين.
وقد تكرر هذا الاستنتاج منذ قيام إسرائيل مرات من الصعب حصرها، غير أن الأمر الأكثر جدة في الفترة الأخيرة هو إعادة تكراره حتى فيما يتعلق بالعلاقة الخاصة مع الولايات المتحدة. وقد بدأ التشديد عليه منذ ظهور أول ملامح سياسة الانسحاب من منطقة الشرق الأوسط التي شرع في انتهاجها الرئيس السابق باراك أوباما واستمر فيها خلفه دونالد ترامب. وكانت آخر هذه المرات بالتزامن مع الانسحاب الأميركي من أفغانستان في صيف 2021، وقبلها بالتزامن مع تنفيذ قرار سحب القوات الأميركية من شمال سورية في خريف 2019 إبان ولاية ترامب. وفي ذلك الوقت وصف هذا القرار الأخير، من طرف محللين إسرائيليين، بأنه جزء من نهج تقويض السياسة الأميركية التقليدية في الشرق الأوسط والذي أطلقه أوباما، وكانت الإشارة الأولى له هي خطابه أمام الكلية العسكرية "ويست بوينت" الذي أعلن فيه أن أميركا ستنقل "محور سياستها" من الشرق الأوسط إلى الشرق الأقصى. وكانت الخطوة التالية هي الاتفاق النووي الإيراني "الذي من أجله كان أوباما مستعداً لأن يتجاهل بصورة شبه تامة مصالح حلفاء الولايات المتحدة التقليديين في المنطقة"، برأي عدد من هؤلاء المحللين. وتمثل الإثبات القاطع على تغيير السياسة الأميركية في قرار أوباما نقض تعهده بالرد بقوة في حال إقدام الرئيس السوري بشار الأسد على استخدام الأسلحة الكيميائية ضد المتمردين في سورية، ولذا جرى تحميله، من طرف جهات إسرائيلية، ولو بصورة جزئية، المسؤولية عن استمرار حمام الدم وعن تعاظم الوجود الروسي والإيراني في أرض سورية.
ووفقاً لأحد التحليلات، فإنه مع انتخاب دونالد ترامب توقّع كثيرون حدوث تغيير أساس في سياسة الولايات المتحدة إزاء إيران، لكن سرعان ما تبيّن أنه باستثناء خروج الولايات المتحدة من الاتفاق النووي وفرض سلسلة من العقوبات، بعضها صارم وبعضها الآخر رمزي، استمرت سياسة أوباما. وبناء على ذلك فإن ما ثبت بخصوص ترامب سواء لأعداء أميركا أو لأصدقائها، بحسب ما أكد نفس التحليل، أنه "يتكلم بصوتٍ عالٍ لكنه لا يمسك بيديه عصا كبيرة".
كما ينبغي أن يُشار إلى أنه جرى اتخاذ الكثير من الخطوات العملية لترجمة عقيدة اعتماد إسرائيل على ذاتها إلى سياسة مُطبّقة، بما في ذلك في المجال الاقتصادي الذي قد يحتاج التوقف عنده إلى مناسبة أخرى.
وما ينبغي الالتفات له في الفترة الأخيرة هو أنه على خلفية هذه التطورات وقبلها ما يرتبط بمفاوضات فيينا حول الاتفاق النووي مع إيران، أخذ يتبلور شيئًا فشيئًا إجماع إسرائيلي على أنه بات من شبه الحتميّ أن تلجأ إسرائيل إلى استخدام القوة بالاعتماد على ذاتها لمنع طهران من امتلاك سلاح نووي في المستقبل المنظور.
وإلى أن تنجلي اتجاهات الأمور على نحو أكثر مما هي عليه الآن، فيما يرتبط بالحرب الروسية على أوكرانيا أو بالملف الإيراني، نسجّل ما يلي:
بداية، ثمة تلميحات متطابقة إلى أن إسرائيل مطالبة بأن تستخلص دروساً استراتيجية من "الأزمة الأوكرانية" وأن تطبقها على الحالة الإيرانية. وفي قراءة أصحاب هذه التلميحات، فإن قرار الرئيس الأميركي جو بايدن مسبقاً بأن الولايات المتحدة لن تتدخل عسكرياً في الأزمة يذكّر بالاستراتيجية الأميركية أيضاً خلال ولاية ترامب، التي اعتمدت فقط على العقوبات في مواجهة طهران، من دون وضع تهديد عسكري موثوق به لدعمها. ومن هنا ومع كل الأهمية المعوّلة على القوة الناعمة ومنظومات المعلومات والسايبر، فإن الأحداث في أوروبا برهنت على أنه لا يمكن التخلي عن قدرات عسكرية تقليدية، وفي حالات كثيرة يمكنها حسم مصير المعركة.
ثانياً، تؤكد القراءات الإسرائيلية أنه في حال توصل الولايات المتحدة إلى اتفاق مع إيران فإنه سيمنح هذه الأخيرة مزيداً من حرية العمل والنشاط في حيّز الشرق الأوسط. ولكن في المقابل، فإن القرار يحوّل إسرائيل إلى حليف أكثر أهمية لواشنطن من أي وقت مضى، كما أنه يمنحها حرية عمل ونشاط أكبر لتحقيق أهدافها ولاستخدام القوة. ولا يسع المتمسكون بنزعة الاستقواء بالذات على نحو متطرّف، سوى التشديد على أنه بدلاً من الانضمام إلى قائمة المُندّدين يجب على إسرائيل أن تتأقلم مع الوضع الجديد الذي لم يكن مفاجئاً وأن تجد الأجوبة الملائمة، وعليها في الوقت ذاته أن تمتنع عن الدعوة إلى وجود عسكري أميركي في المنطقة، لأن التفكير الاستراتيجي الإسرائيلي شدّد دائماً على مبدأ الاعتماد على الذات، وإن المطلوب الآن كما كان دائماً هو أن تكون إسرائيل جاهزة للعمل بشكل مستقل حتى من دون أي حليف!