ما شهدته منطقة النقب هذه الفترة من محاولات الاستيلاء على المزيد من الأرض العربية، من خلال أداة التشجير، أعاد تسليط الضوء على ما يتعرض له الفلسطينيون فيها منذ النكبة في العام 1948 وصولاً إلى يومنا هذا، على خلفية الصراع على الأرض. وقبل نحو عقد من الأعوام دارت معركة في نطاق هذا الصراع حول ما عرف في حينه باسم "مخطط برافر" تكللت بالنجاح ودفن المخطط في أواخر العام 2013، لكن من دون تخلي الدولة عن غاياته. واستهدف المخطط في ذلك الوقت مصادرة مئات آلاف الدونمات من العرب الأصلانيين في تلك المنطقة، والذين بلغ عددهم نحو 200 ألف نسمة، وذلك من خلال حشرهم في أقل من 100 ألف دونم، أي أقل من واحد بالمئة من مساحتها الإجمالية. وصادقت الحكومة الإسرائيلية على هذا المخطط في أيلول 2011، وجرى تعريفه بأنه "مخطط توطين عرب النقب". ونصّ على التهام نحو 500 ألف دونم من أصل 600 ألف دونم يملكها العرب في النقب، وترفض الحكومة تسجيل ملكيتهم عليها. ولم يكن الأمر مرتبطاً بوجود العرب في منطقة النقب فقط، وإنما انطوى أيضاً على انعكاسات خطرة تتعلق بجوهر المعركة على الأرض بين الفلسطينيين في الداخل ودولة إسرائيل. ومعروف أن كل ما بقي من الأراضي الخاصة التي كان يملكها هؤلاء الفلسطينيون في منطقتي الجليل والمثلث لا يزيد عن 650 ألف دونم. ومن هنا رأت لجنة المتابعة العليا لشؤون الجماهير العربية في الداخل أن "مخطط برافر" يعتبر أكبر مخطط كولونيالي يستهدف وجودهم منذ نكبة 1948، وأن معركة النقب تُشكل بالتالي معركة فاصلة على ما تبقى من أراض عربية، بعد أن نالت المؤسسة الإسرائيلية من أراضي الجليل والمثلث والمدن الساحلية على مرّ الأعوام.
وبالتزامن مع المعركة ضد "مخطط برافر" عممت لجنة التوجيه العليا لعرب النقب التي تشكلت كقيادة جماعية للمواطنين العرب في النقب وضمّت جميع الأحزاب والقوى السياسية الفاعلة، وثيقة تضمنت عرضاً مفصلاً لمعركة الأرض في النقب. وجاء فيها أنه وفقاً لإحصائيات جرت في فترة الانتداب البريطاني (1931) بلغ عدد البدو في النقب 65 ألف نسمة، وقدرت لجنة فلسطين للأراضي العام 1920 الأراضي المفتلحة في قضاء بئر السبع بما لا يقل عن 3.75 مليون دونم عدا أراضي الرعاية. كما تبيّن صور لسلاح الجو البريطاني من 1945 أن جميع مناطق السكن في قضاء بئر السبع مفتلحة بالكامل، وهذا يدحض فـرية إسرائيل بأن النقب صحراء بالكامل، وأن أهلها بدو رحل. وقد احتفظ أهالي بئر السبع بملكيتهم لأراضيهم بحسب قانون العرف والعادة لعدة قرون، وفلحوها وعاشوا فيها. كما أكد وزير المستعمرات البريطاني، ونستون تشرتشل، لدى زيارته للقدس في 1921، بحضور أول مندوب سام بريطاني هو هربرت صموئيل، وباسم الحكومة البريطانية، حق الأهالي في ملكية أرضهم بحسب قانون العُرف والعادة ("وعد تشرتشل للبدو") وصدرت بيانات رسمية وحكومية في هذا الشأن. وتم احتلال بئر السبع من جانب الجيش الإسرائيلي في الفترة الواقعة بين تشرين الأول - كانون الأول 1948، واقترن ذلك بترحيل 90 بالمئة من سكان النقب خارج حدود الدولة، حيث أصبحوا لاجئين. والأغلبية العظمى منهم جرى تهجيرها إلى الأردن وقطاع غزة، حيث أن عدد اللاجئين من قضاء النقب وفقا لإحصاء جرى في 1998 بلغ 555813 نسمة، ومن تبقى في قضاء النقب بعد حملة التهجير- وكانت نسبتهم 10 بالمئة وتعدادهم لا يتجاوز 10 آلاف نسمة (وفقا لإحصاء 1998 بلغ عددهم 120 ألف نسمة، وآنذاك بلغ عددهم 200 ألف نسمة)- تم تهجيرهم وتركيزهم في منطقة جغرافية محدودة محاذية للحدود الأردنية - الإسرائيلية آنذاك وتسمى "منطقة السياج"، والممتدة شرقي شارع بئر السبع - الخليل، بمحاذاة الخط الأخضر حتى تل عراد، ومن هناك حتى ديمونا - بئر السبع. وبتاريخ 2 أيار 1971 بدأت الحكومة الإسرائيلية حملة لتسجيل الأراضي في النقب، بهدف تسجيل أراضي السكان الذين تم ترحيلهم خارج الحدود على اسم دولة إسرائيل بحجة أنها أملاك غائبين، وقام سكان النقب العرب بتقديم طلبات ملكية على مليون دونم. لكن الحكومات الإسرائيلية لم تعترف بالقرى العربية في النقب بما في ذلك القرى القائمة قبل إقامة الدولة، وكانت البلدة الأولى التي تم الاعتراف بها في 1968 هي تل السبع، وبعد ذلك أقرت الحكومات الإسرائيلية تجميع السكان العرب في النقب في سبعة تجمعات سكنية، وفي المقابل تبنت الحكومات اقتراحات طاقم حكومي، بأن لا تعترف بملكية البدو على أراضيهم على أساس أن كل أراضي النقب موات، معتمدة على قانون صدر في 1920 إبان فترة الانتداب البريطاني يناقض قانون الأراضي العثماني من 1858، الذي ينص على أن من أحيا أرضاً مواتاً يحصل على حقوق ملكية، أما القانون البريطاني الذي أقر بضغط من الوكالة اليهودية فينص على أن من يفلح أرضاً مواتاً لا يحصل على حقوق ويعتبر مخالفاً للقانون. غير أن الحكومة الإسرائيلية ومع رفضها الاعتراف بحقوق الملكية أعلنت أن أي مواطن عربي يتنازل عن حقوقه في أرضه يحصل على تعويض بأرض بديلة بنسبة 20 بالمئة من مساحة أرضه، وعلى تعويض مالي عما تبقى. وبعد أن فشلت مخططات الحكومة الإسرائيلية في ترحيل العرب من النقب وتركيزهم ودفعهم للتنازل عن أراضيهم عنوة جاءت المخططات الأخيرة، وكانت ذروتها "مخطط برافر". وما تجدر الإشارة إليه أن كل من عمل في إعداد هذا المخطط، وكذلك معظم الذين كُلفوا بتنفيذه، هم من رجال المؤسسة العسكرية والأمنية الإسرائيلية. ولم يخف كبار المسؤولين والخبراء في الشؤون الجغرافية والديمغرافية أن تنفيذ هذا المخطط يعتبر بالنسبة إلى إسرائيل "مهمة قومية" من الدرجة الأولى، تفرضها، أيضاً، الضغوط السكانية الشديدة في وسط الدولة، والحاجة إلى تخفيف الحضور العسكري الكثيف المنتشر حول منطقة تل أبيب الكبرى، حيث أن الجيش الإسرائيلي أعد خططاً متعددة لنقل عدد كبير من قواعده العسكرية إلى النقب بهدف إخلاء أراض في مناطق الوسط وتخصيصها لمشروعات سكنية، أو لمشروعات مدنية أخرى.
وكان تقرير صادر عن ديوان مراقب الدولة الإسرائيلية أشار إلى أن 80 في المئة من أراضي الدولة (باستثناء الأراضي الموجودة في الضفة الغربية المحتلة) موجودة في يد المؤسسة الأمنية بصورة مباشرة أو غير مباشرة، وتقوم هذه المؤسسة باستعمال نصف هذه الأراضي لأغراضها الخاصة، بينما تفرض قيوداً مشدّدة على استعمال النصف الباقي، في وقت تحتاج فيه الدولة بصورة ماسة إلى الأرض. كما أنه أبدى استغرابه من قيام المؤسسة الأمنية بمحاولات فرض سيطرتها على مزيد من أراضي الدولة.
في الوقت نفسه نشير إلى أنه في مطلع 2009 نُشر في إسرائيل كتاب بعنوان "بلد باللون الخاكي/ الأرض والأمن في إسرائيل" من تأليف الباحثين عميرام أورن ورافي ريغف. وقد عرضا فيه بشكل مفصل خريطة الامتداد أو الانتشار الأمني الإسرائيلي من الناحية الجغرافية، وبيّنا أنه على الرغم من شحّ الأرض في إسرائيل فإن ما يقارب نصف مساحة الدولة يتبع للمؤسسة الأمنية أو أنه واقع تحت تأثيرها. وتمتد هذه الأراضي في كل أنحاء البلد، في الوسط والأطراف، وفي المدن الكبرى والصغرى، وفي الجبال وشواطئ البحر، وكذلك في المناطق المأهولة والمفتوحة، وفي هذه المساحة كلها ثمة بنى تحتية أمنية ومناطق عسكرية. وأكدا أن الحديث يدور حول ظاهرة جغرافية ليس لها مثيل من ناحية حجمها مقارنة بدول العالم الأخرى. كما أبديا دهشتهما من اكتشاف أن دولة إسرائيل المدنية من حيث المساحة تعتبر أصغر كثيراً مما كانا يعتقدان في السابق، وشدّدا على أن الجيش هو بمثابة دولة ظل بدلاً من أن يكون تابعاً لدولة ذات سيادة.
ومثلما كانت الحال عند مواجهة "مخطط برافر"، فإن الهجمة الإسرائيلية الحالية على أراضي النقب تعيدنا إلى شعار "احتلال الأرض" الصهيوني الكلاسيكي الذي لم يكن شعاراً للتيارات اليمينية فحسب وإنما كان أيضاً شعاراً لتيارات صهيونية يسارية تدعي الاعتدال.