في تقرير مدار الاستراتيجي الأخير بشأن المشهد الإسرائيلي 2020-2021 تمّ التطرّق، لدى الحديث عن نتائج انتخابات الكنيست الـ24 التي جرت يوم 23 آذار الفائت، إلى المفاجأة التي سجلها حزب العمل في إثر انتخاب عضو الكنيست ميراف ميخائيلي رئيسة له، بحصوله على سبعة مقاعد بعد أن كانت كل استطلاعات الرأي العام تتوقع له قبل انتخابها ألا يتمكن من اجتياز نسبة الحسم.
وأشرنا إلى أن أهم أسباب تلك التوقعات تعود إلى ما يلي:
أولاً، بعد انضمام حزب العمل إلى الائتلاف الحكومي برئاسة بنيامين نتنياهو، تراجع تأييد الحزب لدى قواعده التي اعتبرت هذه الخطوة "خيانة"، فقررت التصويت لأحزاب بقيت في المعارضة وفي مقدمها حزب "يوجد مستقبل". وعندما تم انتخاب ميخائيلي عاد جزء من المصوتين إلى الحزب، لا سيما بعد قرار الانسحاب من الائتلاف الحكومي.
ثانياً، عاد التحالف الذي أقامه رئيس العمل السابق عمير بيرتس مع حزب "غيشر" في دورتي الانتخابات السابقتين بالضرر على العمل، لا سيما بعد أن حافظ بيرتس على هذا التحالف بالرغم من إخفاقه في دورة انتخابات الكنيست الـ22 (أيلول 2019)، وبعد أن انسحبت رئيسة "غيشر"، أورلي ليفي- أبكسيس، من التحالف بُعيد الانتخابات، وكُشف النقاب عن تصريحاتها التي أعلنت فيها رفضها المشاركة في فعالية لإحياء ذكرى إسحاق رابين، ومع ذلك لم يتخذ حزب العمل أي موقف جراء ذلك.
ثالثاً، أعاد انتخاب ميخائيلي الأمل لدى الكثير من المصوتين للحزب الذين قرروا عدم التصويت له بسبب توجه بيرتس لدمجه في حزب "أزرق أبيض"، واعتبروا أيضاً أن رئيس هذا الحزب الأخير بيني غانتس خدع مصوتيه بانضمامه إلى حكومة مع نتنياهو.
رابعاً، انتهازية بيرتس، فالكثير من المصوتين لحزب العمل اعتبروا أنه دمّر الحزب في الدورتين السابقتين، فضلا عن انتهازيته وتنقله بين الأحزاب المختلفة، وبعد انتخابه تراجعت قوة الحزب أصلاً في الانتخابات السابقة، بينما اعتبرت ميخائيلي بأنها إنسانة مثابرة في مواقفها الأيديولوجية والسياسية، فرفضت الانضمام إلى حكومة نتنياهو وظلت في موقع المعارضة حتى بعد انضمام حزب العمل، وهو ما أعاد الكثير من المصوتين التقليديين للحزب. وكانت ميخائيلي من أشد المعارضين لدخول الحزب إلى حكومة نتنياهو، فقد كتبت حينها مقالاً اعترضت فيه بشدة على هذا القرار، وحذرت من أن حزب العمل ينتحر سياسياً عبر هذه الخطوة. وكان عنوان مقالها: "لحظة قبل الانتحار النهائي لحزب العمل". واستهلته بنداء لمؤيدي العمل جاء فيه "لدينا بضعة أيام (تقصد قبل التصويت في مؤتمر الحزب على الانضمام إلى الحكومة) لإنقاذ اليسار الصهيوني في إسرائيل. أريدكم وأريدكن معي لنمنع الانتحار النهائي لحزب العمل الذي يقوده عمير بيرتس وإيتسيك شمولي والذي سيؤدي إلى شطب الحزب في حكومة نتنياهو، الحكومة الأكثر خطورة وفساداً التي تشكلت هنا. يريدون أن يكون حزب العمل شريكاً في إلغاء اتفاق السلام مع الأردن، وفي شطب اتفاق أوسلو". ووفقاً لميخائيلي، هذه ليست المرة الأولى التي يقف فيها الحزب أمام مفترق طرق، وقد وصل إلى هذا الوضع برأيها بسبب دخوله إلى حكومات يمين، وتنفيذ سياساتها المدمرة، وبيرتس يفعل ما فعله إيهود باراك في العام 2008، وآنذاك أسمعت نفس الكلمات الكبيرة حول مصلحة الدولة، وهناك أيضاً كانت "الإنجازات" في الاتفاقات الائتلافية رائعة، ولكن انتهى الأمر إلى ما انتهى عليه الوضع سواء فيما يتعلق بواقع الدولة أو واقع الحزب.
مع ذلك ينبغي أن نشير إلى أن انهيار حزب العمل لم يتزامن مع جولات الانتخابات الأربع الأخيرة، بل سبقها بأعوام كثيرة. كما أن عدة رؤساء آخرين للحزب سبقوا بيرتس في ما وُصف بأنه "هروب من مواقف يسارية" كانت ديدن العمل، كما لو أنها نار حارقة. وآخرهم آفي غباي، الذي انتخب لرئاسة العمل في العام 2017 وظل يشغل هذا المنصب حتى انتخابات الكنيست الـ22 التي جرت في أيلول 2019.
فبعد انتخابه أدلى غباي بمقولات أثارت نقاشاً في الحلبة السياسية الإسرائيلية وفي حزب العمل حول مقاربته السياسية واستراتيجيته الانتخابية. وصدرت عنه أساساً 4 مقولات أساسية، كانت على النحو التالي:
• أولاً، إعلانه أنه في كل حكومة سوف يؤلفها لن يشرك القائمة المشتركة التي وصفها بأنها قائمة معادية لإسرائيل ومشغولة بالرئيس الفلسطيني محمود عباس. ورافق هذا التصريح هجوم شنه غباي ضد عضو الكنيست العربي في تحالف "المعسكر الصهيوني" (بين حزب العمل وحزب "الحركة" المنحل بزعامة عضو الكنيست والوزيرة السابقة تسيبي ليفني) أشار خلاله إلى أن هذا الأخير لن يكون جزءاً من "المعسكر الصهيوني" في المرحلة المقبلة.
• ثانياً، تصريحه بأن كل تسوية سياسية أو حل دائم مع الفلسطينيين لا يجب أن يرافقه تفكيك للمستوطنات في الأراضي المحتلة منذ 1967. وأوضح غباي أن الله وعد إبراهيم بكل "أرض إسرائيل"، لكنه أبدى استعداده لحل الدولتين، حيث قال إنه "يؤمن بأن كل ’أرض إسرائيل’ لنا، ولكن بسبب وجود 4.5 مليون فلسطيني، على إسرائيل التوصل إلى تسوية من أجل إيجاد وضع نعيش فيه في دولة خاصتنا ذات غالبية يهودية، وهم يعيشون في دولة خاصة بهم"، زاعماً أنه يعتقد بحل الدولتين لكنه لا ينشغل بحقوق الفلسطينيين. وأضاف "إذا تمكنا من التوصل إلى اتفاق سلام، فأنا أعتقد أنه يجب إيجاد حلول إبداعية من أجل تجنب إخلاء مستوطنات"!
• ثالثاً، دعمه لقرارات الحكومة بشأن طرد اللاجئين المهاجرين من أفريقيا، ونصّت هذه القرارات على طرد هؤلاء اللاجئين إلى دولة ثالثة أو اعتقالهم من دون تقييد المدة إذا رفضوا ذلك. وطلب غباي من أعضاء الكنيست من "المعسكر الصهيوني" التصويت مع الحكومة في هذه المسألة.
• رابعاً، مقولته أن اليسار نسي ما معنى أن يكون يهودياً، وهي مقولة سبق أن قالها نتنياهو عشية انتخابات 1996، ونطق بها في حينه في أذن أحد الحاخامين والتقطتها وسائل الاعلام ونشرتها، وعاد عليها غباي لكن بشكل علني.
ولا بد من التنويه بأن جُلّ النقاش الإسرائيلي حول مقولات غباي السالفة ركز على مقولة أن اليسار نسيّ ما يعني أن يكون يهودياً، وقلة هي المداولات التي تناولت مقولته عن القائمة المشتركة، لأن في المقولة الأولى تأكيداً لما قاله نتنياهو سابقاً وما يدعيه اليمين عموماً عن "اليسار الإسرائيلي"، بينما المقولة الثانية لم تكن شاذة ولو على مستوى السلوك السياسي المعهود في كل المشهد الإسرائيلي. وفي الوقت عينه أعيد إلى الأذهان أنه عندما كانت عضو الكنيست شيلي يحيموفيتش رئيسة لحزب العمل قالت إنها لا ترى في المستوطنات "خطيئة أو جريمة"، وأكدت أن "تسمية حزب العمل يساراً هو بمثابة ظلم تاريخي". وقال عضو الكنيست إسحق هيرتسوغ عندما كان رئيساً لهذا الحزب إنه "يتعين علينا التوقف عن إعطاء الانطباع بأننا دائماً نحب العرب"!
المصطلحات المستخدمة:
باراك, غيشر, الكنيست, بنيامين نتنياهو, شيلي يحيموفيتش, عمير بيرتس, ميراف ميخائيلي