المشهد الإسرائيلي

ملحق أسبوعي يتضمن مقالات صحفية وتحليلات نقدية ومتابعات عن كثب لمستجدات المشهد الإسرائيلي.

لا ينبغي أن يتفق المرء تماماً مع الحُكم الذي أصدره رئيس تحرير صحيفة "هآرتس" ألـوف بــن، ومفاده أن تفكّك النواة المركزية (الصلبة) للمجتمع الإسرائيلي التي كانت بمثابة حجر الزاوية في الاستيطان اليهودي قبل إقامة الدولة في مقابل تعزّز من يسميهم بـ"الأقليات"، هما من العوامل الأشدّ تأثيراً على السياسة والاقتصاد في إسرائيل في قادم الأيام، أكثر بكثير من التأثير الذي يمارسه رئيس الحكومة بنيامين نتنياهو ووزير المالية موشيه كحلون، وتأثير مخطط صفقة استخراج الغاز الطبيعي من عرض البحر المتوسط مع شركات الاحتكار، بل وأكثر أهمية من الاتفاق بين الدول الكبرى الست وإيران حول البرنامج النووي الإيراني.


ومع ذلك فإن مقالته التي خرج فيها بهذا الحُكم القاطع، والتي ارتأينا أن ننشر ترجمة كاملة لها في هذا العدد من "المشهد الإسرائيلي" (طالع ص 4)، تكشف أمامنا زوايا مهمة قلّمـا يتم التطرّق إليها لدى تناول الواقع القائم في إسرائيل الآن داخل حقل المعاني المستمد من استشراف إحالاته المستقبلية ولا سيما على المستوى الديمغرافي.

 

يرى بــن في سياق المقالة أنه بعد أربع سنوات، سيكون فقط 2ر37 بالمئة من تلامذة الصف الأول الابتدائي في إسرائيل في المدارس الرسمية- العلمانية التي يتعلمون فيها باللغة العبرية، في حين أنه قبل "سنوات جيل واحد" بلغت نسبة تلامذة إسرائيل الذين تعلموا في مثل هذه المدارس 60 بالمئة. أمّا النسبة الباقية من تلامذة الصف الأول (نحو الثلثين) فستتعلّم بعد أربع سنوات في مدارس الحريديم (اليهود المتشدّدين دينياً) والمدارس العربية والمدارس الرسمية- الدينية.

وبرأيه، هذا التطور يضع أمام إسرائيل تحديات كبيرة للغاية، ليس أبسطها أنه لن يكون هناك اتفاق حول "الطابع القومي" المشترك والموحِّد للدولة مع أوساط هذه "الأقليات".

فضلاً عن ذلك، سيكون من الصعب على الجيش الإسرائيلي الاستمرار في الادعاء بأنه "جيش الشعب" حينما سوف تغدو غالبية الشبان العرب والحريديم والشابات المتدينات معفيين من التجنّد في الجيش، وسيتحوّل هذا الأخير بالضرورة إلى "جيش مهنيّ"، وهذا المسار يبدو واضحاً وبارزاً للعيان منذ الآن على الرغم من أن رؤساء المؤسسة الأمنية الإسرائيلية ينفونه جملة وتفصيلاً.


تأتي "نبوءة" بــن هذه بالتزامن مع صدور عدد جديد (رقم 66) من سلسلة "أوراق إسرائيلية" عن "مركز مدار" بعنوان "ديمغرافيا إسرائيل 2015: دلالات جديدة"، أشير فيه من ضمن أمور أخرى إلى أن التقديرات الإحصائية الديمغرافية الإسرائيلية الرسميّة حول العقدين المقبلين تركّز على أنّ ثمّة تغيّرات جديّة متوقّعة وخصوصاً فيما يتعلّق بمصادر النمو السكاني، وبظاهرة تديّن المجتمع اليهوديّ التي تُقاس بأعداد المتدينين ونسبتهم من بين السكان، وبانخفاض معدلات الخصوبة، وغير ذلك من التطوّرات التي من المتوقع أن تتطلّب مزيداً من الإنفاق الحكومي على الرفاه الاجتماعي بدل التقليصات في هذا المجال واللجوء إلى الخصخصة.

كما تم التوقف عند التغيّرات المتوقّعة في وجهة التطورات الديمغرافيّة الأساسيّة في مجال تشكيلة السكان، مثل نسبة العرب في مُقابل نسبة اليهود من المواطنين في إسرائيل الآن وفي المستقبل، ونسب المتدينين المتزمتين التي تدل على اتجاه المجتمع الإسرائيليّ نحو مزيد من التديّن والتشدّد في مقابل نسب العلمانيين من ناحية أخرى، وظاهرة الارتفاع في متوسط سنوات العمر للرجال والنساء مما يعني حسب التقديرات الرسمية للعقدين المقبلين أن تغييرات جديّة ستطرأ على تركيبة القوى العاملة وعلى نسب المسنين المعتمدين على الدعم الحكومي وخدمات الرفاه الاجتماعي، وغير ذلك من تغيّرات ديمغرافية سوف تترك أثراً عميقاً على طبيعة المجتمع الإسرائيلي وعلى وجهة تطوّر اقتصاده ومناعته الاجتماعية في الحاضر والمستقبل، وأساساً على ثقافته السياسية العامة.

في واقع الأمر، فإن إسرائيل شهدت خلال الأعوام الأخيرة عدة بوادر تشي بإحالات هذه التغيرات الديمغرافية في المستقبل، وفي صلبها ازدياد قوة المجموعات الحريدية (المتشدّدة دينياً) والدينية التقليدية، وهي تغيرات أدت وتؤدي إلى تحولات سياسية أيضاً.

وأكدت اجتهادات كثيرة في هذا الشأن أنه يتعيّن تناول هذه التغيرات فيما يتجاوز الأرقام الجافّـة، إذ إنه في ظل الوضع الذي تزداد فيه قوة المجموعات الدينية ـ القوموية ويتصاعد نفوذها السياسي، من الطبيعي أن يحدث اصطدام مع القيم الديمقراطية وحكم القانون.

وبناء على ذلك لم يكن من العجيب أن يتصاعد الجدل حول موضوع الدولة اليهودية والدولة الديمقراطية في أوساط الجمهور الإسرائيلي في الآونة الأخيرة.

وعلى هذه الخلفية تحديداً تجري في الكنيست على مدار الأعوام القليلة الفائتة محاولات متواترة لسن قوانين أقل ما يُقال فيها إنها غير ديمقراطية، وجميع هذه القوانين لها غاية مشتركة واحدة، هي إقصاء الآخر واضطهاد الأقليات.

وأذكر أنه حين تساءل بعض أصحاب هذه الاجتهادات: إلى أين ستصل إسرائيل مع التركيبة الديمغرافية هذه؟، سرعان ما أجابوا قائلين: "قد يكون من الصعب أن نعرف ومن الخطير أن نتنبأ، لكن الاتجاه هو نحو دولة دينية أكثر وديمقراطية أقل".

ويوماً بعد يوماً تتراكم المؤشرات التي تثبت أن إسرائيل سائرة نحو هذا الاتجاه، برغبة منها أو رغماً عنها لا يهم.

المشهد الإسرائيلي

أحدث المقالات