تتفق التقديرات السائدة في إسرائيل على أن هذه الأخيرة تحاول، من خلال آخر العمليات التي استهدفت بواسطتها حزب الله ومعظم قادته العسكريين وشبكة الاتصالات والاستدعاءات التي بحيازته، أن تضعه في مواجهة خيارين:
الأول، ويبدو أنه المحبّذ من ناحيتها، هو فك الارتباط بين الجبهة الشمالية والحرب في قطاع غزة والتوصل إلى حلٍ دبلوماسيّ يسفر، من بين أمور أخرى، عن عودة سكان الشمال إلى منازلهم، وانسحاب مقاتلي الحزب من منطقة الحدود مع إسرائيل إلى شمال نهر الليطاني.
والخيار الثاني هو الذهاب نحو مواجهة شاملة في حال قرّر الحزب عدم تبني الخيار الأول، على أن يكون القرار بشأن هذه المواجهة صادراً عن الحزب وليس من جانب إسرائيل.
وإلى أن تنجلي الأمور أكثر فأكثر نشير إلى ما يلي:
أولاً، حتى موعد التصريحات التي أدلى بها وزير الدفاع الإسرائيلي يوآف غالانت بشأن نقل مركز الثقل من الجنوب (قطاع غزة) إلى الشمال، وموعد قرار المجلس الوزاري الإسرائيلي المصغّر للشؤون السياسية والأمنية ("الكابينيت") إضافة هدف "إعادة سكان الشمال إلى منازلهم بأمان" إلى أهداف الحرب، قبل عدة أيام، كانت منطقة الشمال بمثابة جبهة ثانوية في سياق الحرب على قطاع غزة. وكان الهدف الذي وُضع للجيش في الجبهة الشمالية هو ما وصف بأنه "الدفاع الهجومي" فقط. أما الآن فقد أوضح وزير الدفاع أن الحرب دخلت في مرحلة جديدة. وصرّح رئيس هيئة الأركان العامة بأن المراحل المقبلة باتت جاهزة. وقال مصدر إسرائيلي كبير إن مَن يمكنه وقف التصعيد هو الأمين العام لحزب الله، حسن نصر الله، في حال صرّح بأنه جاهز لقبول المقترح الأميركي، وإذا رفض ذلك، فـ "نحن جاهزون للذهاب حتى النهاية". كما أن نقل اللواء 98 في الجيش الإسرائيلي من الجنوب إلى الشمال هو بمنزلة رسالة واضحة في هذا الاتجاه، مثلما يؤكد أغلب المحللين في الشؤون الأمنية، وكذلك معظم القادة العسكريين السابقين.
ثانياً، تثبت الخطوات الأخيرة التي وجهت إلى حزب الله (عملية تفجير أجهزة الاستدعاء "بيجر" وأجهزة الاتصال اللاسلكي الخاصة بأفراد الحزب، والتي تسببت بسقوط عشرات القتلى وبإصابة الآلاف ومنهم مئات المصابين بجروح خطِرة، وتصفية قادة قوة الرضوان وفي مقدمهم رئيس هيئة أركان حزب الله إبراهيم عقيل وطاقم قيادة قوات النخبة في الحزب في حي الضاحية الجنوبية في بيروت) والمنسوبة إلى إسرائيل، أن الأخيرة مصرّة هذه المرة على فكّ الارتباط بين الوضع في قطاع غزة والوضع في الشمال، ومن هنا فإن سيناريو تبادُل الضربات بين إسرائيل وحزب الله من دون الوصول إلى حرب شاملة لم يعد مطروحاً الآن. وحيال ذلك فإن الماثل في الأيام المقبلة هما احتمالان: الأول، أن يجد حزب الله سلّماً يمكنه بواسطته "النزول عن الشجرة التي صعد إليها"، كما تصف إسرائيل ذلك، وأن تتوقف هجمات الحزب باتفاق سياسي (العودة إلى تطبيق القرار 1701 الصادر عن مجلس الأمن الدولي لدى انتهاء حرب لبنان الثانية العام 2006، تشكّل أحد هذه الاحتمالات). أمّا الاحتمال الثاني فهو الانزلاق السريع نحو حرب شاملة، حاول الطرفان تجنُّبها حتى الآن. وبحسب أكثر من محلل عسكري إسرائيلي، ففي نهاية الأسبوع الماضي وبداية الأسبوع الحالي بدا احتمال نشوب "حرب لبنان الثالثة" ملموساً أكثر من احتمال التسوية، ولكن التطوّرات تبقى سريعة التغيّر ويمكن أن تتبدّل في أيّ لحظة. كما يشدّد هؤلاء المحللون على أنه في جميع الأحوال انتهى عهد "الوضع القائم" (الستاتيكو) الذي كان يسود الجبهة الشمالية.
ثالثاً، ارتباطاً بما سبق ذكره، من المهم التنويه بأن جلّ التحليلات الأمنيّة الإسرائيلية ترى أن أقصى ما تتغيّاه العمليات الأخيرة لإسرائيل هو: كيّ الوعي وزيادة الإرباك لدى الطرف الآخر الذي تعرّض إلى الهجوم، واستعادة إسرائيل جزءاً من الردع والهيبة في نظر العالم، واسترجاع "الكرامة الوطنية"، على أمل تغيير الواقع من جذوره، مثلما يؤكد المحلل العسكري عمير رابابورت ("مكور ريشون"، 20/9/2024). ومع ذلك فمن المهم، حسبما يضيف، ألّا نصاب بالنشوة والاعتراف بالواقع التالي: لا تزال لدى حزب الله والمحور الإيراني قدرات غير مسبوقة لضرب إسرائيل، والمنظومات الدفاعية الإسرائيلية لا تؤمّن دفاعاً شاملاً. والثمن الذي ستدفعه الجبهة الداخلية قد يكون باهظاً. كما أن في إمكان حزب الله إلحاق ضرر شديد بالجيش الإسرائيلي بواسطة المسيّرات والصواريخ البعيدة المدى والدقيقة ووسائل فتاكة أُخرى.
ويتفق معه المحلل العسكري رون بن يشاي الذي كتب يقول: "لا يوجد تغيير هنا في الوضع الاستراتيجي. إلّا إن العملية المنسوبة إلى إسرائيل، بحد ذاتها، ومن دون شك، تعزز الردع حيال حزب الله وإيران، وتشكل ضربة معنوية. ولكن هذه الخطوة لا تغيّر الواقع وهذا لا يعيد سكان الشمال إلى بيوتهم بأمان" ("يديعوت أحرونوت"، 17/9/2024).
وكالعادة بزّ الجميع اللواء في الاحتياط إسحق بريك، الذي كتب قائلاً: مع الأسف الشديد، لا يُحدث هذا العمل التكتيكي أي تغيير في الواقع الاستراتيجي الخطِر الذي نعيشه. فبسبب تفجير أجهزة الاستدعاء، هناك إمكان كبير لتصعيد الحرب، وعلى الرغم من الإنجاز الهائل الاستخباراتي والتقني، تخوض إسرائيل حرب استنزاف منذ عام ضد حماس وحزب الله، وهي حرب تلحق بنا أضراراً جسيمة في جميع مجالات الحياة. وقرار رئيس الحكومة بنيامين نتنياهو مواصلة القتال في غزة قلب الأمور رأساً على عقب، ودمّر أي فرصة للتوصل إلى اتفاق مع حركة حماس لإطلاق المخطوفين، ووقف حرب الاستنزاف معها ومع حزب الله. وإذا استمرت حرب الاستنزاف هذه عاماً آخر، فإن هناك إمكاناً كبيراً لأن تتعرّض إسرائيل إلى أضرار حقيقية في جميع المجالات: الاقتصاد، والمجتمع، والصحة، والتعليم، والعلاقات الدولية، وتشكيلات الاحتياط، وغير ذلك من المجالات. لقد زاد تفجير أجهزة الاستدعاء الخاصة بأفراد حزب الله من تأكيد استمرار حرب الاستنزاف، مع إمكان وجود خطر فعلي لنشوب حرب إقليمية متعددة الجبهات، يمكن أن تشارك فيها إيران وحلفاؤها. وهذا مسار سيسرع من تدهور إسرائيل نحو الهاوية (موقع قناة التلفزة الإسرائيلية 12، 21/9/2024).
رابعاً، بطبيعة الحال يطرح احتمال تدهور الأمور نحو مواجهة عسكرية شاملة السؤال حول قدرة إسرائيل على ولوج مثل هذا الخيار. وما يتعيّن الالتفات إليه هو إشارة عدد من المحللين العسكريين إلى أنه من المعروف أن بناء الجيش الإسرائيلي مُعد لخوض حروب قصيرة، وإلى أنه من الواضح أن الجيش لا يمكنه الاستمرار في القتال من دون التزوّد بالسلاح من الولايات المتحدة ومن دول حليفة أُخرى من جهة، وأن إسرائيل غير قادرة على خوض حرب ضد حزب الله يمكن أن تتطوّر إلى حرب إقليمية تشمل إيران من دون دعم الولايات المتحدة من جهة أخرى. وهذا الاعتبار الأخير هو الذي يأخذه صنّاع القرار في حساباتهم، وتجري مناقشته على أعلى المستويات بين إسرائيل والولايات المتحدة.
كما أنه في حال التدهور السريع إلى حرب مع حزب الله، ستكون إسرائيل بحاجة إلى اتخاذ قرار استراتيجي بشأن ما إذا كانت ستواصل مهاجمة حزب الله فقط أم ستقوم بتدفيع رموز وأرصدة في الدولة اللبنانية كلها الثمن، مثل محطات توليد الطاقة، والمرافىء، والجسور في كل لبنان. ويؤكد عدد من المحللين في إسرائيل أن هناك انقساماً في الآراء بهذا الشأن في هيئة الأركان العامة للجيش الإسرائيلي.
خامساً، في الإجمال العام لآخر التطورات يُشار في التحليلات الإسرائيلية إلى أنه في الجبهتين في غزة ولبنان ما زالت إسرائيل عالقة في "عملية غير مكتملة"، مثلما وصفها اللواء في الاحتياط إيتان بن إلياهو، القائد السابق لسلاح الجو الإسرائيلي (موقع قناة التلفزة الإسرائيلية 12، 21/9/2024). ففي غزة، لم يتم العثور على طريقة لإقامة سلطة بدلاً من حماس وإنهاء القتال لمصلحة إعادة المخطوفين، أمّا في الشمال، فمنذ 11 شهراً هناك 90 ألف شخص نازح من منزله، ولا يوجد حل سياسي ولا حرب. وتأمل الحكومة الإسرائيلية في أن يؤدي الضغط العسكري في غزة إلى إطلاق المخطوفين، وأن يؤدي الضغط العسكري المتدرج في لبنان إلى إبعاد قوة الرضوان عن الحدود، وإعادة النازحين إلى منازلهم في الشمال، لكن في هذه الأثناء، وعلى الجبهتين، لم يتحقق الهدف السياسي، وتجد إسرائيل نفسها في حالة استنزاف مستمرة من غير المعروف متى تنتهي.
وبرأي بن إلياهو، ومثله كثر، لا يمكن إهمال الارتباط السياسي بالوضع في قطاع غزة والاكتفاء بنقل مركز الثقل العسكري إلى الشمال وإنهاء عهد "الوضع القائم" في هذه الجبهة، على خلفية الافتراض بأن التهديدات والعمليات العسكرية المتدرجة الخطورة ستدفع نصر الله إلى توقيع اتفاق انسحاب. ويتعين على الحكومة الإسرائيلية أن تعيد تحديد خطواتها عبر المحافظة على الصلة الوثيقة بين جبهة غزة وجبهة لبنان. كما يجب عليها في هذه الأثناء الاكتفاء بما قامت به في غزة، وإعادة المخطوفين، وتمهيد الطريق لأن تكون الحرب المتدرجة كافية للتوصل إلى تسوية سياسية في الشمال.