ثمة مآخذ كثيرة على الاتفاقيات الائتلافية التي وقعها حزب الليكود مع أحزاب الصهيونية الدينية وأحزاب اليهود الحريديم المتشددين دينياً ضمن سعيه لتأليف الحكومة الإسرائيلية المقبلة والتي من المتوقع إعلانها بعد أسبوع. وهي مآخذ طُرحت بقوة في سيلٍ لا ينقطع من التحليلات الإسرائيلية في الأيام القليلة الفائتة.
وجرى التركيز في تلك التحليلات بشكل خاص على مأخذين رئيسين: الأول، ما يتعلق بسياسة الاحتلال والاستيطان والضم في أراضي 1967 (راجع مقال وليد حبّاس، 12/12/2022).
والثاني، ما يخصّ جهاز التربية ومناهج التعليم ومظاهر تديين الحيّز العام.
ولئن كان الموضوعان المذكوران يشغلان بالأساس جلّ اهتمام أحزاب الصهيونية الدينية من ضمن أحزاب الائتلاف الحكومي الجديد، فضلاً عن سائر أحزاب اليمين الإسرائيلي المتطرّف، فإن ما يتطلع إليه رئيس الحكومة المقبل ورئيس الليكود بنيامين نتنياهو، أيضاً، مثلما يمكن الاستشفاف من تحركات المقربين منه، هو تحقيق تغييرات بعيدة المدى بشأن طبيعة وتعريف المحكمة العليا في إسرائيل وعلاقتها بالهيئة التشريعية (الكنيست).
ومعروف أن مثل هذه الغاية هي ديدن نتنياهو وحزبه منذ أعوام طويلة، تحت غطاء تمجيد ما يسمى بـ "مبدأ الحوكمة"، وكأن مهمة الدولة الرئيسة هي الحكم، بأي ثمن ومهما يحصل، في حين أنه من بين السلطات الثلاث التي تتكون منها الدولة ـ التشريعية والقضائية والتنفيذية ـ يشكل القانون مهمة السلطتين الأولى والثانية، وليس الأمر صدفة أو عبثاً، فنظام القانون هو الذي ينظم إدارة الدولة وهو الذي يسبغ الشرعية على أعمالها ونشاطاتها. ومثلما سبق لأحد أساتذة العلوم السياسية أن أشار، فإن مصدر كلمة "شرعية" هو من كلمة Lex اللاتينية التي تعني "قانون"، في حين أن أولئك الذين يتحدثون باسم "مبدأ الحوكمة" يدّعون عملياً بأن السلطتين اللتين تحفظان نظام القانون يجب أن تكونا في خدمة السلطة الثالثة، التنفيذية، وهو مبدأ مشوّه، يتكئ عليه أي نظام دكتاتوري. كما يدّعي هؤلاء أن المحكمة العليا تهيمن على الكنيست واستولت على "إرادة الشعب".
وللتذكير، قبل عدة أعوام قال قاضي المحكمة الإسرائيلية العليا المتقاعد والمستشار القانوني للحكومة سابقاً، البروفسور إسحق زامير، إن إسرائيل لم تشهد هجوماً فظاً وخطراً كهذا على المحكمة العليا من قبل. وتساءل: من الذي سيدافع عن المحكمة والجهاز القضائي إذا كان وزراء عدل، على غرار وزيرة العدل السابقة أييلت شاكيد، يقودون هذا الهجوم الكاسح؟ ثم أضاف: "إن القضاة لا يعيقون الحوكمة. الوزير الذي يتصرف بحكمة وبصورة لائقة يكون قادراً على الحكم... إذا كانت الحوكمة تعني التسيّب والانفلات فعندئذ من واجب المحكمة العليا أن تقف في وجهها وتمنعها... على كل مواطن أن يعي أن لا صلاحيات لدى الحكومة سوى ما خوّلها القانون من صلاحيات وإلا فهي حالة من الفوضى أو من الدكتاتورية". وتساءل زامير: "هل يقرّر الوزير شخصياً ما هي الصلاحيات التي يحدّدها له القانون؟ هذا ما يحصل في الأنظمة التوتاليتارية، لا في الأنظمة الديمقراطية".
وبالتزامن مع أقوال زامير هذه، ولدى التطرّق إلى التذرع بالحوكمة والقدرة على الحكم لشنّ هجوم تلو الآخر على المحكمة العليا وتعميق الإجراءات العملية لإحداث تغييرات جوهرية في بنيتها وأدائها، قال رئيس المحكمة الإسرائيلية العليا السابق، أهارون باراك، إن "الحوكمة ليست إلا كلمة نظيفة تُستخدم للتغطية على أعمال وتصرفات مخالفة للقانون". وأضاف: "هذه ذريعة للتنصل من واجب الامتثال للقوانين والانصياع لقرارات قضائية تصدر عن المحاكم. ولكن في اللحظة التي نصل فيها إلى عدم تنفيذ قرارات المحكمة العليا، عندئذ نكون قد وصلنا إلى نهاية الديمقراطية. ليس إلى بداية نهايتها، إنما إلى نهايتها الفعلية والحقيقية".
وإلى أن تنجلي الصورة أكثر فأكثر نشير إلى أنه من المتوقع أن يُترجم مسعى تغيير طبيعة وتعريف المحكمة العليا في مسارين أساسيين: الأول، مسار المزيد من تدخل السياسيين في اختيار رئيس المحكمة العليا وقضاتها. والثاني، الإقرار النهائي لمشروع قانون "فقرة التغلّب".
لا بُد بهذا الصدد أن نعيد إلى الأذهان أن الكنيست الإسرائيلي سبق أن أقرّ بالقراءة الأولى، يوم 7 أيار 2018، مشروع قانون "فقرة التغلب" غداة إقراره بالإجماع في "اللجنة الوزارية لشؤون سنّ القوانين"، التي ترأستها في ذلك الوقت وزيرة العدل السابقة أييلت شاكيد، ولكنه لم يستكمل مسار إقراره بصورة نهائية بالقراءتين الثانية والثالثة. و"فقرة التغلب" هذه هي تعديل للمادة رقم 8 من "قانون أساس: كرامة الإنسان وحريته" والمادة رقم 4 من "قانون أساس: حرية العمل"، والتي اصطلح على تسميتها "فقرة التقييد" ـ تقييد الكنيست وحريته المطلقة في سن قوانين تتعارض مع حقوق إنسان أساسية يضمنها قانونا الأساس المذكوران بشكل خاص، بمعنى: تخويل المحكمة العليا الإسرائيلية صلاحية إلغاء قانون ما، أو بنود عينية من قانون، في حال توصلت المحكمة إلى كونه "قانونا غير دستوري" (أو "بندا غير دستوري") لتعارضه مع نصوص في قانوني الأساس وتعديه على حقوق إنسان أساسية، بصورة غير تناسبية. وبالرغم من أن المحكمة العليا لم تستخدم صلاحيتها هذه ولم تمارسها إلا بصورة حذرة وجزئية جداً، منذ سنّ قانونيّ الأساس المذكورين في العام 1992، إلا إن سنّ "فقرة التغلب" هذه يأتي لوضع حدّ حتى لهذا الاستخدام الجزئي والمحدود الذي اختارت المحكمة العليا اعتماده في ممارسة صلاحيتها القانونية في إلغاء قوانين غير دستورية ولسدّ الباب أمام أي استئناف على ما يمكن أن تشرّعه الأغلبية البرلمانية ـ السياسية من قوانين تضيّق رقعة الحقوق، وتنتهكها وتتعدى عليها، وخاصة على خلفية أجواء التطرف والعنصرية المتصاعدة في داخل إسرائيل.
ولتحقيق هذا الغرض، يتضمن مشروع القانون الجديد (أسماه البعض: "قانون التغلب على حقوق الإنسان الأساسية") عدة بنود مركزية، أهمها ما يلي: أولاً: يستطيع الكنيست إعادة سنّ أي قانون تقرر المحكمة العليا إلغاءه على خلفية تعارضه مع "قانون أساس: كرامة الإنسان وحريته"؛ ثانياً: من أجل (إعادة) سنّ قانون ألغته المحكمة العليا، يحتاج الكنيست إلى أغلبية 61 عضو كنيست، أي أغلبية عادية جداً، تكون متاحة لأي ائتلاف حكومي عادة (راجع مقال سليم سلامة المنشور يوم 14/11/2022).
المصطلحات المستخدمة:
الصهيونية, باراك, الليكود, الكنيست, رئيس الحكومة, بنيامين نتنياهو