أكدت ورقة تقدير موقف جديدة صادرة عن "معهد أبحاث الأمن القومي" في جامعة تل أبيب أن نتائج الانتخابات الإسرائيلية للكنيست الـ 25 (في 1 تشرين الثاني 2022) لم تفاجئ الفلسطينيين الذين، بصفتهم متابعين دائمين لما يحدث في إسرائيل، استطاعوا تشخيص التغيير الذي يجري منذ أكثر من عشرة أعوام في علاقة المجتمع الإسرائيلي بالقضية الفلسطينية، وارتفاع مكانة وقوة الأحزاب المعارِضة للتسوية السياسية. وبحسب الورقة، فإن النتائج عزّزت التقديرات التي يتم الحديث عنها في أوساط فلسطينيين كثر، ووفقاً لها لن تعترف إسرائيل بالفلسطينيين كشعب، ولا بحقهم في تقرير المصير، ناهيك عن أن إسرائيل ترفض "حلّ الدولتين"، وفي أفضل الأحوال ستوافق على حكم ذاتي فلسطيني مُوسّع، وسوف تستمر في بناء المستوطنات في أراضي الضفة الغربية، ولن تُخلي البؤر الاستيطانية، كذلك فإن القوى السياسية الإسرائيلية التي تريد ترسيخ العلاقات على أساس تعايُش وسلام ضعفت كثيراً إلى جانب ازدياد الخطر بأن يتحول الصراع من صراع قومي إلى صراع ديني.
ولفتت الورقة إلى أنه بموجب التسريبات من المفاوضات الائتلافية الجارية في إسرائيل في الوقت الحالي بغية تأليف حكومة جديدة بين أطراف ما يسمى بـ"معسكر بنيامين نتنياهو"، المؤلف من حزب الليكود وتحالف "الصهيونية الدينية" وأحزاب اليهود الحريديم المتشددين دينياً، تطالب الصهيونية الدينية بالحصول على السيطرة على "الإدارة المدنية" في الضفة الغربية وإلغاء قانون "خطة الانفصال" عن قطاع غزة (2005) وشرعنة البؤر الاستيطانية العشوائية وضم المستوطنات. ويجري تفسير هذه المطالبات، من وجهة نظر معظم الفلسطينيين، بأنها بمثابة تصعيد التهويد للضفة الغربية، والقضاء نهائياً على فكرة "حلّ الدولتين" التي لا تؤمن بها أغلبية أعضاء الحكومة الجديدة في إسرائيل، فضلاً عن أن هذه الأغلبية ترى في السلطة الفلسطينية مصدر إزعاج يجب إزالته من الطريق.
وتتوقع الورقة بأن تكون الساحة الدولية مركز النضال الفلسطيني المقبل ضد إسرائيل وسياستها، وبأنه في هذه المرّة ستزداد احتمالات النجاح في الحصول على دعم دولي واسع، حتى من طرف الولايات المتحدة، إذا ما قامت قيادات الصهيونية الدينية بتطبيق نياتها.
في واقع الأمر فإن الماهية التي خلصت إليها هذه الورقة، فيما يختص بعلاقة إسرائيل، أحزاباً ومجتمعاً، بالقضية الفلسطينية هي نفسها القائمة منذ عدة أعوام، وسبق أن أشارت إليها أدبيات إسرائيلية في الماضي. فمثلاً، في العام 2017 أشارت ورقة صادرة عن أحد مراكز الأبحاث اليمينية ("المركز المقدسي للشؤون العامة وشؤون الدولة") إلى أن "تحوّلاً مفاجئاً" طرأ على الخطاب السياسي في إسرائيل منذ مطلع العام 2016. ووفقاً لما ورد في هذه الورقة، وجد حزبا الليكود والعمل نفسيهما- في ما تصفه بأنه "إحدى الحالات النادرة في التاريخ"- يقفان في نفس الجانب من المتراس، وذلك عندما أقرّ الحزبان علناً أنه وفي اللحظة الزمنية تلك بات الهدف المتمثل في التوصل إلى حلّ عبر المفاوضات مع الفلسطينيين استناداً إلى صيغة "دولتين لشعبين"، بمثابة "سراب غير قابل للتحقيق". وبرأي الورقة يعود أحد الأسباب التي تقف وراء ذلك إلى أن كلا الحزبين لاحظا أن الفلسطينيين تبنوا ما يعرف بـ "الخطة ب"، وهي تشمل سياسة ترتكز على فرضية فحواها أن الطريق الأسلم للدفع قدماً نحو تحقيق الأهداف والمصالح الفلسطينية تكمن في القيام بجهود ومساع حثيثة من جانب واحد في الساحة الدولية.
ولئن كان هذا الكلام، الذي لا يُمكن دحضه في مجال التشخيص الدقيق لواقع حال إسرائيل وموقفها من القضية الفلسطينية، يعني شيئاً فهو يعني أكثر من أي شيء آخر أن جوهر تعاملها مع التحدّي الذي تفرضه هذه القضية غير مُرشّح، على الأقل في الأفق المنظور، لأن يتطوّر في اتجاه التجاوب مع التطلعات الفلسطينية حتى في حدودها الأدنى.
وبخصوص التغيرات الإسرائيلية الداخلية وما تضمره من أنساق تفكير إسرائيلية حيال القضية الفلسطينية، لا بُدّ من أن نشير إلى أن جوهر الملامح الحالية لإسرائيل كانت شاخصة أمام عدد من المستشرفين منذ عدة أعوام، وذلك من طريق تحليل سيرورتين متصلتين من ناحيتي المبنى والمعنى:
- الأولى، سيرورة ازدياد قوة اليمين ونفوذ تيّار الصهيونية الدينية في إسرائيل؛
- الثانية، سيرورة التغيرات الديموغرافية التي طرأت على إسرائيل.
وهما سيرورتان سبق أن تناولهما ملحق "المشهد الإسرائيلي" مرات عديدة.
ويتمثل أحد جوانب السيرورة الثانية في تغير تركيبة السكان اليهود في إسرائيل بموجب مستوى التدين، إلى ناحية تزايد عدد اليهود الحريديم والمتدينين في مقابل ضعف الوسط المحافظ، وتضاؤل أعداد العلمانيين.
أمّا النتيجة الأبرز المترتبة على تداخل هاتين السيرورتين فتتجسّد في تعزّز النظرة التي تميل إلى رؤية أن دولة إسرائيل ينبغي أن تعكس "المصلحة اليهودية" فوق أي مصالح أخرى. وبلغة أحد التحليلات الإسرائيلية (صدر في العام 2017 عن طاقم "معهد سياسة الشعب اليهودي" الذي أسسته "الوكالة اليهودية"): "تسعى الصهيونية الدينية إلى إعادة بلورة أساس الصلاحية الفكرية- الأخلاقية الذي تم بناء مؤسسة القانون الإسرائيلية عليه، وأن تغرس في هذا الإطار تعبيراً أكبر عن المبادئ المستمدة من عالم الديانة والتراث اليهوديين، بدلاً من المبادئ المستمدة من العالم العلماني - الليبرالي - الكوني". وسجل التحليل نفسه أن الصهيونية الدينية تسعى إلى تنفيذ مسعاها هذا من خلال كتلة حزبها في ذلك الوقت (حزب "البيت اليهودي" المنحل) وشخصيات دينية بارزة في حزب الليكود، كما أنها تحاول تحقيق نفوذ كبير من خلال التأثير على السلكين الحكومي والإعلامي وقيادة الجيش الإسرائيلي، والذي بات الضباط المتدينون أكثر حضوراً في صفوفه. وتسعى الصهيونية الدينية إلى الاستيطان في الضفة الغربية وضمها إلى إسرائيل.
بطبيعة الحال، ثمة سيرورات أخرى شهدتها إسرائيل، تدعم النتيجة السالفة وتكرّسها. ومنها ما يحدث في حلبة الإعلام، وكذلك ما تشهده وزارة التربية والتعليم الإسرائيلية من جهود محمومة لفرض رواية الصهيونية الدينية على مناهج التعليم في إسرائيل. ومن الأمور المؤكدة أن ما يقوم به اليمين في كل ما يتعلق بتغيير ملامح إسرائيل يستند إلى فائض القوة الذي أصبح يمتلكه منذ أن تربّع على سدّة الحكم قبل 45 عاماً وتسبّب رويداً رويداً بانزياح كل الخارطة السياسية الحزبية نحو اليمين. وينعكس فائض القوة هذا، بصورة جليّة، في الممارسات التي يقوم بها اليمين في الأراضي الفلسطينية المحتلة منذ 1967.
عند هذا الحدّ لا بُد من إضافة ما يلي:
(*) إن ما ورد أعلاه بشأن الصهيونية الدينية وتطلعاتها السياسية لا يعني، من ناحيتنا، أكثر من أن هذا التيّـار يرغب في أن يضع بصمتـه على المشروع الصهيوني وأن يصوغه على نحو أشدّ فظاظة من المشروع الصهيوني التقليدي، الفظّ والعدواني أصلاً.
(*) قد تبدو كثير من المعطيات التي استعدناها معروفة للقاصي والداني. مع هذا ففي مجرّد قراءتها داخل حقل الدلالات المرتبطة بملامح الراهن، ما يتيح إمكان التعاطي معها كرزمة واحدة ضمن مجال تعريـة صورة إسرائيل في الوقت الحالي وما تُحيل إليه، بما في ذلك ضمن نطاق علاقتها المباشرة مع مجتمعها الذي يدقّ لها الطبول. كما أن هذه المعطيات من شأنها أن تعين كل معنيّ بتشخيص واقع أمسى قائماً وغير خافٍ. ومن نافل القول إن مثل هذا التشخيص يوضّح ما الذي يقف أمام الفلسطينيين والعرب، ويتعيّن مواجهته الآن وفي المستقبل.
المصطلحات المستخدمة:
الصهيونية, الإدارة المدنية, الوكالة اليهودية, الليكود, بنيامين نتنياهو