شكّل التطهير العرقي الذي مارسته العصابات الصهيونية أساساً أيديولوجياً لممارسات الحركة الصهيونية ضد الفلسطينيين، كضمانة أكيدة لنجاح المشروع الصهيوني المتمثّل في إقامة "وطن قومي لليهود" في فلسطين. وهذا ما يُستدل عليه أساساً من خلال الأحداث التي وقعت في فلسطين، والمتمثّلة في قتل العرب الفلسطينيين وتهجير ما تبقّى منهم، وسلب ونهب ممتلكاتهم وتدمير المدن والبلدات والقرى العربية إبّان النكبة وما تلاها، لتحمِل الصهيونية معها تاريخاً يمتد لأكثر من قرن من الزمان مُثقلاً بالمذابح والمجازر والاعتداءات نفّذتها العصابات الصهيونية المختلفة استناداً إلى عقائد عنصرية متطرّفة، دان ياهف، طهارة السلاح: أخلاق وأسطورة وواقع، ترجمة: جوني منصور (رام الله: مدار- المركز الفلسطيني للدراسات الإسرائيلية، 2004). تجلّت بوضوح في الحروب المختلفة التي شنّتها العصابات الصهيونية، والجيش الإسرائيلي لاحقاً، على الفلسطينيين منذ بدايات المشروع الصهيوني. وبشكل مكمّل، وغير منفصل، دأبت السلطات الإسرائيلية المختلفة (التشريعية والتنفيذية والقضائية)، بما فيها الجهات المسؤولة عن الأرشيفات العسكرية والحكومية الإسرائيلية، على إخفاء أي وثائق أو محاضر جلسات أو أي مواد أرشيفية تُثبت تورّط إسرائيل والعصابات الصهيونية، والجيش الإسرائيلي لاحقاً في ارتكاب مجازر ضد الفلسطينيين، وممارسة عمليات تطهير عرقي بمستويات مختلفة كسياسة تهدف إلى عرقلة النقاش التاريخي والسياسي حول هذه المجازر، وحول مُجريات الصراع العربي- الإسرائيلي بشكلٍ عام، وظلّ السماح بالوصول لبعض المواد الأرشيفية على مدار العقود الماضية، محدوداً وضئيلاً للغاية مقارنة بحجم الوثائق الموجودة.
على الرغم من مرور عقود طويلة على المجازر التي ارتكبتها العصابات الصهيونية إبّان النكبة، وارتكبها الجيش الإسرائيلي لاحقاً، ومن أن قانون الأرشيفات يُحدّد مبدأ مفاده أن "كل شخص مُخوّل بالاطّلاع على المادة الأرشيفية المودعة في أرشيف الدولة"، إلّا أن القسم الأكبر من مواد الأرشيفات الإسرائيلية لا يزال محجوباً عن الجمهور والباحثين والصحافيين، وهذا ما ورد في تقرير صادر عن "معهد عكيفوت- معهد بحث الصراع الإسرائيلي- الفلسطيني" في العام 2017، أكّد فيه أن الجمهور يُمنع من حق الوصول إلى الغالبية الساحقة من مواد الأرشيفات الحكومية الكبرى، وتحديداً أرشيف الدولة، وأرشيف الجيش والأجهزة الأمنية الإسرائيلية، بهدف الحفاظ على الرواية الرسميّة المشوهة للصراع الإسرائيلي- الفلسطيني وأسسه، وفي سبيل مسعى إسرائيل لحماية صورة جيشها، والوقوف ضد الخطاب المستند إلى الوثائق حول أسس ومُجريات الصراع مع الفلسطينيين.للمزيد، أنظر/ي: سليم سلامة، "معهد إسرائيلي: الرقابة على الأرشيفات تُستخدم لتكريس الرواية الرسمية المشوّهة حول أسس الصراع"، المشهد الإسرائيلي، مدار، 25.10.2021، https://bit.ly/34spEbv
* للمزيد، أنظر/ي: عبد القادر بدوي، "معهد بحث الصراع الإسرائيلي-الفلسطيني "عكيفوت".. النبش في أرشيف المؤسسة الأمنية الإسرائيلية"، المشهد الإسرائيلي، مدار، 02.07.2021، https://bit.ly/3m9g9mX.
ويُسلّط تقرير جديد أعدّه الباحث آدم راز لصحيفة "هآرتس" بتاريخ 23.12.2021، بعنوان "دير ياسين لم تكن المجزرة الوحيدة: الكشف عن مداولات محجوبة منذ العام 1948" والذي يستند إلى مجموعة من الوثائق السريّة، والمواد الأرشيفية، ومحاضر اجتماعات ومداولات حكومية كُشف عنها مؤخراً بالتعاون مع "معهد عكيفوت"* المختصّ بالمواد الأرشيفية، الضوء على جزء إضافي من الجرائم والمجازر التي ارتكبتها العصابات الصهيونية إبّان حرب 1948، والتي ارتكبت خلالها العصابات الصهيونية العديد من المجازر خلال عمليات التطهير العرقي بتوجيه من قادة الحركة الصهيونية العسكرية والسياسية.
سنقوم باستعراض أهم ما ورد في هذا التقرير (التحقيق) بشكل مُقتضب، مع أهمية الإشارة إلى أن الجُمل الواردة بين الأقواس مصدرها التقرير نفسه، والوثائق التي تم الكشف عنها بعد مراجعتها والاطّلاع عليها.
يستعرض التقرير بعض المناقشات الحكومية التي تم حجب نشرها والاطّلاع عليها خلال العقود الماضية، ويعرض لأول مرة النقاش الدائر بين وزراء الحكومة الإسرائيلية خلال الحرب وبعدها، ويكشف عن أدلة على ثلاث مجازر "مجهولة"- أي لم يتم الكشف عن أدلة بخصوصها سابقاً، بالإضافة إلى تفاصيل جديدة حول مجزرة "الحولة"- وهي من أبرز الجرائم المُرتكبة خلال الحرب- ويركّز على الجرائم المرتكبة خلال عمليتي "يوآف" و"حيرام"- كما تُسمّيها إسرائيل- التي شنّتها العصابات الصهيونية في تشرين الأول 1948 ("عملية يوآف" في الجنوب و"عملية حيرام" في الشمال) وكانت احتلت فيها، في غضون أقل من ثلاثة أيام، الجليل، إلى جانب عشرات القرى والبلدات العربية الفلسطينية في الشمال، تخلّلتها مجازر وعمليات تهجير وطرد لعشرات الآلاف من الفلسطينيين العُزّل من منازلهم.
بدايةً يُشير التقرير إلى أن "لجنة التحقيق في جرائم القتل العمد في الجيش"- بحسب التسمية الإسرائيلية لها- تشكّلت في أعقاب الحرب، وبضغط من بعض وزراء الحكومة الإسرائيلية آنذاك الذين طالبوا بفتح تحقيق في المجازر المرتكبة ومحاسبة المسؤولين عنها، وذلك بعد أن تراكمت الأدلة على طاولة "مجلس الوزراء" حول المجازر التي ارتكبتها العصابات الصهيونية {يُسمّيها التقرير الجيش الإسرائيلي}. وعلى الرغم من أن ديفيد بن غوريون، رئيس الحكومة آنذاك، قد تجاهل الأمر، إلّا أن اللجنة تشكّلت في نهاية المطاف بعد ضغط وزراء حكومته. ويُشير التقرير إلى بعض التصريحات الصادرة عن بعض الوزراء؛ إذ يقتبس عن الوزير حاييم موشيه شابيرا قوله إن الأحداث المُشار إليها (الجرائم) "تقوّض كل الأسس الأخلاقية"، في إشارة إلى اليهود، أمّا الوزير ديفيد ريمز فقد أشار إلى أن "الحوادث المذكورة تُخرجنا من اليهودية، بل ومن الإنسانية أيضاً"، للدلالة على فظاعة الجرائم والمجازر المرتكبة في ذلك الوقت.
يُشير التقرير إلى أن الشمال (شمال فلسطين)، كان يضم قرابة 120 ألف فلسطيني (وهو نصف العدد الأصلي عشية قرار التقسيم بعد أن أدّت الهجمات الصهيونية إلى لجوء عشرات الآلاف منهم)، حين أطلقت العصابات الصهيونية {إسرائيل} عمليات عسكرية عديدة لاحتلال الشمال، وأن هؤلاء السكان كانوا في غالبيتهم من كبار السن والنساء والأطفال، وبالتالي أصبحت المواجهة في الواقع بين {مُقاتلين} وبين المدنيين الفلسطينيين العرب، وهو ما قاد {في كثير من الأحيان} إلى ارتكاب جرائم حرب مروعة. وعلى الرغم من أن المجازر التي ارتُكبت خلال الحرب يُمكن الاستدلال عليها من خلال {سجل تاريخي متنوع كرسائل الجنود؛ مذكرات كُتبت في وقت الحرب ولم يتم نشرها؛ محاضر مناقشات بين العصابات والأطراف الأخرى}، إلّا أن تقارير التحقيقات العسكرية والحكومية ظلّت سرية في معظمها، ولا تزال اليد القاسية للرقابة العسكرية على المواد الأرشيفية تلقي بثقلها على البحث الأكاديمي والتحقيقات الصحافية. وعلى الرغم من ذلك، توفّر المصادر التي تم كشفها مؤخراً صورة {تزداد وضوحاً ببطء}، على سبيل المثال في إفادات حول مجازر في بلدات الرينة ومنطقة ميرون والبرج، يتم الكشف عنها لأول مرة، ولم يتم عرض أي أدلّة بخصوصها سابقاً.
بخصوص قرية الرينة (قرية فلسطينية مهجّرة تقع في قضاء الناصرة)، فقد تم احتلالها قبل عملية "حيرام"، في تموز 1948، كما تُشير المداولات بين حاييم أهارون كوهين- مسؤول القسم العربي في الهستدروت- وممثل القسم العربي في حزب مبام، التي طالب فيها الأول توضيحاً حول {مقتل 14 عربياً بينهم امرأة بدوية في قرية الرينة في مطلع شهر أيلول 1948}. كذلك تُؤكد وثيقة أرشيفية، لم تُعرف هوية صاحبها، على أن من بقي في قرية الرينة بعد احتلالها 4 من كبار السن (رجلان وامرأتان)، تم اقتياد 3 منهم بعد ثمانية أيام إلى بيت معزول (بعد أن طُلب من المسنّ الحاج إبراهيم جمع الخضار) وتم قصفه بواسطة قذيفة مضادة للدبابات، وبعد أن أخطأت الهدف، أُلقيت 6 قنابل يدوية متفجّرة داخل البيت، فقتلت من فيه، ومن ثم قام "عناصر الوحدة" بإطلاق النار عليهم لـ "تأكيد القتل"، ومن ثم أقدموا على إحراق "الجثث الثلاث" وإشعال النيران في المنزل بأكمله، وبعد عودة المسنّ، أخبروه بأنه قد تم إرسالهم إلى مستشفى في رام الله، وأقدموا على إعدامه بأربع رصاصات.
وفي قرية ميرون (قرية فلسطينية مهجّرة تقع غربي صفد)، تُشير شهادة شموئيل ميكونيس (عضو "مجلس الدولة المؤقت- الكنيست حالياً"، عن الحزب الشيوعي آنذاك)، إلى أن مجزرة {فظائع} ارتُكبت في هذه القرية لم يتم توثيقها سابقاً. تُشير الشهادات التي حصلت عليها عكيفوت وهآرتس، إلى أن ميكونيس تحايل على الرقابة العسكرية بواسطة طلب توضيح من بن غوريون "رئيس الوزراء آنذاك" تم تضمينها في أرشيف الكنيست، بموجب هذه الوثيقة، طالب ميكونيس بن غوريون بتوضيح ما ارتكبه أفراد من عصابة "الإتسل" على النحو التالي:
أ- {قتل 35 عربيا كانوا قد استسلموا، ورفعوا العلم الأبيض في أيديهم، بواسطة رصاص مدفع رشاش}.
ب- {اقتياد السكان المُسالمين- بمن في ذلك النساء والأطفال- وأمرهم بحفر حفرة، ومن ثم دفعوا بهم إليها بواسطة حراب فرنسية طويلة، ومن ثم جرى إطلاق النار عليهم حتى ماتوا جميعا، ولم تسلم من ذلك امرأة كانت تحمل رضيعها بين ذراعيها}.
ت- {إطلاق النار على أطفال عرب قاصرين (تتراوح أعمارهم بين 13-14 سنة) أدى إلى مقتلهم}.
ث- {اغتصاب فتاة عربية قاصر من قِبَل أفراد "ألتلينا"- أحد أجنحة الإتسل- ومن ثم التنكيل بها وطعنها بأدوات حادة وإدخال عصا خشبية في جسمها}.
فيما يتعلّق بقرية حولا،* يُشير التقرير إلى أن ميكونيس تطرّق إلى التفاصيل الدقيقة في طلب التوضيح الموجّه لبن غوريون، والخاصة بالمجزرة المرتكبة في القرية التي تم احتلالها من قِبَل "الوحدة الثانية بقيادة شموئيل لهيس"، حيث تُشير الوثيقة نفسها إلى أن 60 شخصاً عربياً فقط تبقّوا في القرية بعد احتلالها "ولم يُبدوا أي مُقاومة"، وأن مجزرتين، على الأقل، ارتُكِبَتا من قبل الوحدة المذكورة في القرية؛ استشهد في الأولى 18 شخصاً، و15 في الثانية. وورد في قرار الحكم على هيس (أُدين بارتكاب المجزرة الثانية بنفسه وصدر بحقّه حكم بالسجن لمدة 3 سنوات، ومن ثم حصل على عفو لاحقاً)* الموجود في الأرشيف القانوني في جامعة تل أبيب وعُرض مؤخراً، لأول مرة، أن لهيس (قائد الوحدة المذكورة) {أمر المدنيين (15 شخصاً) بالوقوف في صف ووجوههم إلى الحائط ... وأطلق النار عليهم وأفرغ خرطوشتين كاملتين في أجسادهم، وبعد سقوطهم، ذهب ليفحص الجثث والتأكد مما إذا كان أحدهم حياً؛ ليُلاحظ أن بعضهم ما زال تظهر عليه علامات الحياة ويتحرك، ثم قام بإطلاق المزيد من النيران عليهم حتى تأكد من موت جميع المدنيين}.
يُشير راز في التقرير إلى أنه لا يوجد المزيد من الأدلة لدعم الأوصاف القاسية للجرائم والمجازر المُرتكبة في بلدات الرينة، ميرون والبرج، لكن شهادة ميكونيس موثوقة بناءً على مُجريات المحاكمة التي حصلت في ذلك الحين.
ويؤكّد راز، في نهاية التقرير، أن ملايين الوثائق التي تم تخزينها منذ ذلك الحين (1948) في أرشيفات الحكومة والجيش، لا يمكن للجمهور الوصول إليها، بفعل الرقابة العسكرية، يُضاف إلى ذلك أن "المسؤولين الأمنيين" في الأجهزة الأمنية عموماً، وفي "أقسام حماية المعلومات في الأرشيفات" المختلفة، قاموا خلال السنوات الأخيرة بفحص جميع الأرشيفات في إسرائيل وإخفاء الأدلة على جرائم الحرب المرتكبة على مدار العقود الماضية، كما تم الكشف عنه في تحقيق سابق لصحيفة "هآرتس".للمزيد حول هذا التقرير، أنظر/ي: هاجر شيزاف، "أجهزة الأمن تخفي وثائق عن النكبة، هذا ما يقولونه"، هآرتس، 04.07.2019، https://bit.ly/3G9iM0X.