كشفت الهبّة الفلسطينية الأخيرة عن تحولات عميقة طاولت المجتمع الإسرائيلي في العقود التي شهدت هيمنة اليمين الصهيوني على الحكم، وليس آخرها انتقال المستوطنة وتمثّلاتها الخطابية والأيديولوجية وأجندتها السياسية إلى مركز المشهد السياسي والاجتماعي في إسرائيل؛ إذ استطاع هذا التوجّه، ولو نسبياً، أن يُحوّل كل موجة مواجهة مع الفلسطينيين إلى فرصة لإضفاء شرعية على مشروع المستوطنة؛ بما يتضمّنه هذا المشروع من معانٍ دينية وقومية ولاهوتية، وهو الأمر الذي يُمكن موضعته في إطار عمليات الإزاحة المستمرّة التي يشهدها المجتمع الإسرائيلي باتجاه اليمين؛ بمفاهيمه وتوجّهاته وخطابه.
شهدت فترة إحكام اليمين الصهيوني سيطرته على الحكم بقيادة بنيامين نتنياهو تحوّلات عميقة أيضاً على مستوى المجتمع المدني؛ الجامعات؛ وسائل الإعلام... الخ، تحولات أعادت موضعة المستوطنة في مركز السياسة الإسرائيلية الداخلية وتلك التي تحكم العلاقة مع الفلسطينيين استناداً إلى فرضية اليمين عموماً، وبنيامين نتنياهو على وجه الخصوص، والتي تقول بأن اليمين وعلى الرغم من وصوله إلى سدّة الحكم (بالانتخابات)، إلّا أنه يُعاني باستمرار من ضعف قدرته على الحكم وتحقيق مشروعه بسبب توغّل اليسار، أو تجّذره، في المؤسسات الهامة كالإعلام والقضاء والمجتمع المدني- على سبيل المثال لا الحصر، وهو ما يُفسّر المحاولات الحثيثة التي يبذلها اليمين الصهيوني لإعادة موضعة نفسه، حاضراً ومستقبلاً، والأهم ماضياً، في المشهد الإسرائيلي بوصفه شريكاً، بل وفاعلاً رئيساً في المشروع الصهيوني وأهدافه التي يسعى لتحقيقها على المدى البعيد، وقد ترتّب على ذلك تنامي طبقة سياسية- نخبة المستوطنين- تمتلك حقّ النقض على أي خطوة سياسية فيما يتعلّق بالصراع مع الفلسطينيين.
على الجانب الآخر، مرّت إسرائيل بجملة من التحولات الاقتصادية على مدار العقود الماضية تجسّدت في الانتقال، وبشكل تدريجي، نحو النيو ليبرالية في أعقاب "برنامج الإصلاح الاقتصادي" 1985، وما ترتّب عليه من خصخصة لقطاع الأعمال وتركيز رأس المال في يد قلّة من العائلات ورجال الأعمال. وقد أفرزت هذه التحولات طبقة اقتصادية علوية، استطاعت هي الأخرى أن تُفرد لنفسها مساحة في التحكّم بالقرار الاقتصادي، والحيلولة دون تدخل الدولة في أي من المجالات الاقتصادية.
تُعدّ الجامعات أهم وسائل التنشئة الاجتماعية التي تعمد الدول، وكذلك الجماعات والتيارات الأيديولوجية والسياسية، إلى التأثير من خلالها على الرأي العام، وتوجيهه، وفقاً لأجنداتها خاصّة في الدول الاستعمارية- والحالة الإسرائيلية هنا هي حالة استعمارية مستمرّة. في الوقت نفسه، تعتبر خصخصة القطاعات المختلفة، بما في ذلك التعليم والتعليم العالي، أحد تجليّات النيو ليبرالية الاقتصادية التي تسعى النُخب الاقتصادية العليا لتحقيقها على طريق حريّة السوق التي يتعدّى معناها الاقتصادي هنا ليصل إلى التعليم والخدمات الأساسية. في السياق، تُحاول النخبة السياسية الأيديولوجية - المستوطنون- وفي إطار مسعاها لإضفاء شرعية على المستوطنة، العمل على تدويل هذه الشرعية مع مرور الوقت، متجاوزةً "الشرعية الدولية" التي لا زالت تضمن للفلسطينيين دولة على حدود الرابع من حزيران 1967، ولا تزال ترفض الاعتراف بشرعية الإجراءات الإسرائيلية على الأرض في هذه المساحات. ففي شهر تموز 2012، أقدم "مجلس التعليم العالي" على الاعتراف بـ "كلية أريئيل" في مستوطنة "أريئيل" الجاثمة على أراضي المواطنين الفلسطينيين في شمال الضفة الغربية المحتلّة، في خطوة غير مسبوقة سياسياً كون "الكلية" تقع خارج "الخط الأخضر"، كما تعرّف "الكلية" نفسها على أنها "جامعة أبحاث صهيونية"، بناءً عل توصية المستشار القانوني للحكومة حينها، يهودا فاينشتاين.
وفي 17 آب المنصرم؛ قرّر مجلس التعليم العالي الإسرائيلي الموافقة على تحويل مركز هرتسيليا مُتعدّد المجالات إلى جامعة خاصة تحمل اسم "أريئيل رايخمان"، ولتُصبح بذلك أول جامعة خاصة في إسرائيل على الرغم من معارضة "لجنة التخطيط والموازنة"- الذراع التنفيذي لمجلس التعليم العالي. وكان المركز قد تأسس في العام 1994 ككليّة تعليمية خاصة على يد البرفيسور أوريئيل رايخمان، وحصل على موافقة "مجلس التعليم العالي" بمنح درجتي الماجستير والدكتوراة في عدّة تخصّصات، وفي أيلول الماضي، قدّم المركز التماساً لـ "المحكمة الإدارية" في القدس لإجبار "سلطة المؤسسات" على تغيير اسم المركز ليُصبح "جامعة رايخمان"، الأمر الذي دفع مجلس التعليم العالي إلى تشكيل "لجنة مهنية" للبحث في استيفاء المركز للشروط المطلوبة كي يتحول إلى جامعة، وقد خلصت اللجنة لاحقاً إلى أن المركز يستوفي بالفعل معايير الجامعة- وفقاً لشروط التعليم العالي- من حيث المستوى الأكاديمي العلمي والبحثي، وقدّمت توصية للمجلس بأن يقوم بمنح المركز صفة الجامعة وتسجيلها رسمياً في مجلس التعليم العالي الإسرائيلي كجامعة خاصة. جدير بالذكر أن الجامعة تضم حوالي 8300 طالب في الوقت الحالي، وتخرّج منذ إنشائها حوالي 32000 طالب في قطاعات الاقتصاد والمجتمع.
قد يبدو الأمر عادياً للوهلة الأولى، لكن الأمر ليس كذلك تماماً؛ فقد وصف العديد من الباحثين إسرائيل بالدولة التي تضمّ "جزيرتين علويّتين"،يتبنّى وجه النظر هذه الباحث الإسرائيلي في علم الاجتماع شلومو سبيرسكي بشكل رئيس. سياسية واقتصادية؛ تحاول الأولى (السياسية) الاستفادة من أية مواجهة مع الفلسطينيين لإضفاء الشرعية على توجّهها وأجنداتها الأيديولوجية والقومية، لتفرض نفسها في مركز العمل السياسي والاجتماعي الإسرائيلي، أما الثانية (الاقتصادية) فتعمل جاهدةً على الاستفادة من استمرار الصراع وجولات المواجهة مع الفلسطينيين على الرغم من الآثار الاقتصادية المترتّبة على ذلك، في محاولة لصرف النظر عن تكاليف الاحتلال، وتكاليف استمراره والحفاظ عليه، طالما أن مصالحها لا تتضرّر بالدرجة الأولى. وعليه، سجّل المستوطنون نصراً باعتراف الحكومة رسمياً بـ "جامعة أريئيل" كجامعة إسرائيلية رغم وجودها في مستوطنة في الضفة الغربية المحتلّة، واستطاعت بذلك إضفاء شرعية إسرائيلية على كل تمثّلات وتجليّات المستوطنة، وسجّلت النخبة الاقتصادية العلوية نصراً مُشابهاً حينما انتزعت اعترافاً بـ "جامعة رايخمان" كأول جامعة إسرائيلية خاصة، تُعادل تكاليف الدراسة فيها أربعة أضعاف تكاليف الدراسة في الجامعات والكليات الأخرى. جدير بالذكر، أن هاتين الجامعتين هما الوحيدتان اللتان تمت إقامتهما منذ العام 1976، وهذا يدلّ بشكلٍ واضح، على عمق تأثير هاتين المجموعتين في النظام السياسي الإسرائيلي وتناميه شيئاً فشيئاً.