لا تزال بعض الأصوات في إسرائيل تثابر، بإصرار، على المطالبة بتشكيل "لجنة تحقيق رسمية" في الحادثة التي وقعت في الليلة الواقعة بين 29 و30 نيسان الأخير وهزّت دولة إسرائيل حين أسفرت عن مقتل 45 شخصاً وإصابة العشرات، جراء الاكتظاظ والتدافع الشديدين جداً خلال "الاحتفال" بـ "زيارة قبر الحاخام شمعون بار يوحاي" على جبل الجرمق (ميرون) بمشاركة عشرات الآلاف من اليهود الحريديم.
لكن، رغم أن المستشار القانوني للحكومة، أفيحاي مندلبليت، قد أكد ـ في رأي استشاري قانوني رداً على سؤال أحد الوزراء ـ أن لا مانع قانونياً من تشكيل لجنة تحقيق رسمية لهذا الغرض حتى في عهد "الحكومة الانتقالية"، وخصوصاً حيال "ما يبدو واضحاً منذ الآن بشأن مدى تعقيد الحدث، كثرة المتورطين في المسؤولية عنه، كثرة دوائر اتخاذ القرار ومجالات المسؤولية عن الموقع وعن الزيارة، خلفية أداء الدولة وأذرعها المختلفة فيما يخص القبر على مدى سنوات عديدة ماضية" ـ رغم ذلك، إلا أنه من المستبعد جداً أن تتخذ الحكومة الحالية قراراً ـ هي الوحيدة المخولة صلاحية اتخاذه ـ بتشكيل لجنة كهذه، نظراً لما ينص عليه القانون بشأن تركيبتها (برئاسة قاضٍ تعينه المحكمة العليا) وبشأن صلاحياتها (إلزام أي شاهد تستدعيه للإدلاء بإفادته بالمثول أمامها وإلزام أي جهة بتزويدها بالوثائق والمستندات التي تريدها) وآليات عملها (العلنية والشفافية، باستثناء ما يخص "الحفاظ على أمن الدولة") وإلزامية خلاصاتها (التي لا تستطيع الحكومة التهرب منها وتجاهلها وعدم تنفيذها، رغم أن القانون لا يلزمها بتنفيذ التوصيات، العامة والشخصية، بصورة كاملة)، وهو ما يجعل هذه اللجنة الخيار الأهمّ والأخطر من بين الخيارات التي يتيحها القانون الإسرائيلي للتحقيق والفحص في قضايا وأحداث عامة ذات أهمية وانعكاسات جماهيرية.
أما الخيارات الأخرى المتاحة، والتي لا تُلزم خلاصاتها وتوصياتها في أي شيء، فتشمل: تشكيل "لجنة فحص جماهيرية" أو "لجنة فحص برلمانية"، إضافة إلى إمكانية الفحص الذي يمكن أن يجريه مكتب "مراقب الدولة" وإمكانية التحقيق الجنائي المباشر مع أفراد متورطين في الحدث. وهاتان الإمكانيتان الأخيرتان قد أصبحتا قيد التنفيذ الفعلي فيما يخص هذه الحادثة الأخيرة، إذ شرع محققو "وحدة التحقيق مع رجال الشرطة" (ماحَش)، بإيعاز من المستشار القانوني للحكومة، في التحقيق مع رجال الشرطة الذين تواجدوا في المكان وقت وقوع الحدث، بينما أعلن مراقب الدولة، متنياهو أنغلمان، أنه قرر إعداد تقرير مراقبة خاص حول ظروف وملابسات الحادثة المفجعة التي وصفها بأنها "إحدى الكوارث المدنية الأكبر في تاريخ إسرائيل"، مؤكداً أنه "حادث كان بالإمكان منعه وتجنب وقوعه" ومذكّراً بأن مكتب مراقب الدولة كان قد نشر تقريرين خاصين عن "قبر الحاخام شمعون بار يوحاي"، في العامين 2008 و2011، أشارا إلى "سلسلة من النواقص والخِلال التي لو كان قد تم إصلاحها، لكان بالإمكان منع وقوع هذه الكارثة". ولهذا، أوضح أنغلمان أن الفحص الذي سيجريه مكتبه سيشمل "أداء السلطات والأذرع الحكومية المختلفة، بما فيها أذرع تطبيق القوانين، إدارة موقع القبر على مرّ السنوات الماضية وطريقة التحضير والاستعداد لمثل هذه النشاطات والمناسبات الدينية والعامة الجماهيرية في إسرائيل".
يشير كلام مراقب الدولة هذا إلى حقيقة يتداولها كثيرون في إسرائيل منذ وقوع هذه الحادثة ومؤداها أن ما حصل كان بمثابة "وقائع موت مُعلَن"، كاسم رواية غابرييل غارسيا ماركيز، وأن جميع الإشارات التنبيهية/ التحذيرية من مغبة وقوع هذه "الكارثة" كانت مكتوبةً بعناوين عريضة جداً على جدران مكشوفة وشاهقة مختلفة في إسرائيل، إلا أن أياً من المسؤولين ومن السلطات المختصة والحكومية المسؤولة لم يعرها أي انتباه ولم يأخذها على محمل الجدية الذي تحتمه المسؤولية، وهو ما يُضاعف مسؤولية هؤلاء وتلك ويرفعها إلى درجة من الخطورة تثير شديد القلق لدى هؤلاء ينعكس، الآن، في المماطلة والتسويف حتى الرفض التام لتشكيل "لجنة تحقيق رسمية" ومحاولة الاستعاضة عنها بإعلان "يوم حِداد وطني" يرمي، بصورة خاصة وواضحة، إلى التمويه من جهة وإلى إظهار وِحدة مفتَعلة ومزيفة من جهة أخرى.
هذا الكلام، الكثير والعالي والحاد، عن العناوين الصارخة التي كانت مكتوبة على الجدران يتضمن تأكيداً على أن "لجنة التحقيق الرسمية" في حال تشكيلها، إن تقرر تشكيلها أصلاً، لن تضيف جديداً ولن تكشف أكثر مما هو معروف وبائن؛ لكنّ هذا الكلام يبقى أحد ثلاثة عناوين مركزية كبيرة تتصدر المشهد، التلخيصي والتحليلي خصوصاً، بشأن ما حصل في تلك الليلة. أما العنوانان الآخران فهما: الأول ـ أن ثمة قائمة من "مصادر الخطر" التي إن لم تُسارع الدولة وأجهزتها الرسمية المختلفة إلى معالجتها ونزع الفتيل منها، فمن شبه المؤكد أن تنتهي ليس إلى ما انتهى إليه التجاهل والإهمال في قضية "قبر الحاخام شمعون بار يوحاي" فحسب، بل إلى نتائج كارثية أكثر خطورة وفداحة بكثير؛ والثاني ـ أن ما حصل على "جبل الجرمق" قد حصل "خارج نطاق السيادة الإسرائيلية... في حيّز تنازلت عنه دولة إسرائيل من غير حرب"، بتعبير أحد المحللين الإسرائيليين، وهو التجسيد المأساوي لواقع "الحكم الذاتي" الذي يتمتع وينعم به جمهور المتدينين الحريديم وحقيقة تشكيلهم "دولة (الحريديم) المستقلة في داخل دولة إسرائيل". وهو الأخطر والأبعد أثراً من بين العناوين الثلاثة المذكورة آنفاً.
تجاهل وإهمال مستمران برغم التحذيرات
ما سقناه عن لسان مراقب الدولة أعلاه، وتأكيده أنه "كان بالإمكان منع هذا الحادث وتجنب وقوعه" لو أنه جرى "معالجة وإصلاح سلسلة من النواقص والخلال" التي أشار إليها تقريرا مراقب الدولة من العامين 2008 و2011، هو جزء يسير جداً فقط من سيول ما قيل وكُتب في إسرائيل عن التجاهل والإهمال المستمرين منذ سنوات عديدة، رغم التحذيرات الكثيرة والمتكررة من طريقة تنظيم "الزيارة"، سيرها ومجرياتها، سنوياً، رغم أنها تعتبر الحدث الجماهيري الأضخم الذي يجري في إسرائيل بصورة سنوية، إذ تبلغ أعداد المشاركين فيها عشرات الآلاف الذين يُحشرون في حالة من الاكتظاظ الشديد جداً في مساحات ضيقة نسبياً وسط غياب سبل الوصول السريع إلى هناك في حالات الطوارئ الاضطرارية.
يشار إلى أن هذه "الزيارة" إلى باحة ضريح الحاخام شمعون بار يوحاي، الموجود في قرية ميرون على جبل الجرمق، تُنظَّم سنوياً بالتزامن مع "عيد الشعلة" العبري، إذ يجري إحضار كتاب توراة قديم من بيت عائلة "عبو" في مدينة صفد، وهو كتاب قديم تحتفظ به العائلة، إلى مقام الضريح المذكور في قرية ميرون التي تبعد بضعة كيلومترات عن مدينة صفد، ويتوافد إليها عشرات آلاف اليهود من المتدينين، وخصوصاً الحريديم، وغيرهم، حيث تقام مراسم إيقاد الشعلة المركزية ثم ينخرط المشاركون في حلقات الرقص وسط أهازيج وأناشيد دينية وشعبية، إحياءً لذكرى "تمرد بار كوخبا"، أي التمرد اليهودي بقيادة شمعون بار كوخبا ضد الإمبراطورية الرومانية. و"عيد الشعلة"، المسمى "لاغ بَعومِر" بالعبرية، يحلّ بعد عيد الفصح العبري بـ 33 يوماً، ومن هنا اسمه الذي يعني "اليوم الثالث والثلاثون لتعداد أيام العومِر". ويرجح الاعتقاد أن "لَاغ" (كما تُلفَظ بالعربية) هي حرفا اللام والجيم العبريان اللذان يشيران إلى الرقم 33 (ل ـ 30؛ ج ـ 3)، بينما كلمة عومِر العبرية هي التي تقابلها بالعربية كلمة "غمر" التي تعني حزمة السنابل بعد الحصاد. والمقصود بهذا هنا هو فريضة جمع بواكير حزم السنابل لدى بدء حصاد القمح، والتي كانت تُقدَّم إلى الكهنة في "الهيكل المقدس" في أول أيام عيد الفصح العبري ويبدأ العدّ لسبعة أسابيع تنتهي بحلول "عيد الأسابيع" (شفوعوت) المعروف، أيضاً، بـ "العنصرة" أو "عيد الحصاد" أو "عيد نزول التوراة".
أما "ميرون" فهي قرية فلسطينية تقع على بعد خمسة كيلومترات إلى الغرب من مدينة صفد، احتلتها عصابات "الهاغناه" ضمن عملية "يفتاح" يوم 10 أيار 1948 فدمّرتها بالكامل وهجّرت أهلها وأقامت على أنقاضها "موشاف" (تعاونية زراعية) ميرون، على جبل الجرمق المسمى بالعبرية "هار (جبل) ميرون".
كما ذكرنا، شكلت الحادثة في "ميرون"، بكل خلفياتها ومجرياتها، مناسبة للتعبير عن القلق الشديد من جراء الإهمال والتجاهل المستمرين في معالجة "مصائر أخرى" لكوارث محتملة، قد تكون نتائجها أشد خطورة وفداحة بكثير مما حصل في نهاية نيسان الأخير. فلدى الحديث عن "النقاط الملتهبة" التي تطرقت إليها تقارير إعلامية إسرائيلية في هذا السياق، في أعقاب ما حصل في ميرون، يمكن الإشارة على وجه الخصوص إلى بعض الأبرز من بينها وهي:
الهزات الأرضية ـ رغم التحذيرات المتكررة التي تضمنتها تقارير مكتب مراقب الدولة في هذا المجال، إلا أن السلطات المختصة في دولة إسرائيل لم تتخذ ما يلزم وما يكفي لمواجهة هزة أو هزات أرضية قوية يرجح وقوعها في إسرائيل، عاجلاً أم آجلاً. ويربط المحامي عوفر تويستر، المختص بقوانين التخطيط والبناء، بين أحوال البنايات في بعض المناطق في إسرائيل، من حيث كونها بنايات قديمة وتفتقر إلى العديد من المقوّمات اللازمة لمواجهة هزة أرضية قوية، من جهة، وبين احتمال تعرض إسرائيل لهجوم مكثف بالصواريخ ليخلص إلى القول إن "هذه (الهزة الأرضية) وتلك (الصواريخ) تشكل خطراً فورياً وجدياً لتلك المباني، ومن المتوقع أن لا تصمد في سيناريو كهذا بنايات كثيرة جداً في مناطق مختلفة من إسرائيل، مما ينذر بوقوع كارثة حقيقية يُدفن فيها الناس بأعداد هائلة تحت الركام". وقال عضو كنيست سابق يدعى تسيون فينيان، من طبريا التي هي بين المدن الأكثر عرضة للتضرر من هزة أرضية قوية، إن "الشعور هنا هو أننا نعيش فوق برميل بارود... إذا ما وقعت كارثة فستكون مهولة جداً تحوّل شمال طبريا إلى كومة من الخراب".
خليج حيفا ـ تعتبر منطقة خليج حيفا بمثابة "قنبلة موقوتة" من الناحيتين الصحية والأمنية، بالنظر إلى حقيقة كونها منطقة سكنية تكتظ بالمصانع التي تشكل بؤرة للتلوث البيئي ومصدرا لمخاطر صحية جسيمة جداً، إذ تشمل هذه المصانع: معامل تكرير البترول، منشآت لتخزين الوقود بأنواعه المختلفة، منشآت كبيرة للصناعات الكيماوية والبتروكيماوية وغيرها، علماً بأن مخازن غاز الأمونيا قد نُقلت منها مؤخراً فقط، في أعقاب تهديدات زعيم حزب الله، حسن نصر الله، بقصفها. وهذا إلى جانب منشآت مدنية مركزية، أبرزها ميناء حيفا، مطار حيفا ومحطة لتوليد الطاقة.
أجراف البحر المتوسط ـ انهيارات متكررة تحصل خلال السنوات الأخيرة في أجراف الصخور المرتفعة جداً على شواطئ البحر المتوسط عند بعض المدن الواقعة عند ساحله. وقد كانت أكبر الانهيارات التي حصلت مؤخراً في مدينة عسقلان خلال الشتاء الأخير. وتنطوي هذه الانهيارات ـ وفق توقعات تقرير مديرية المناخ في إسرائيل، الذي نشر قبل أشهر قليلة ـ على مخاطر كبيرة جداً على سلامة الجمهور. ورغم ذلك، لم تبذل السلطات المسؤولة ولو الحد الأدنى مما هو مطلوب، كما أوضحته تقارير مكتب مراقب الدولة المتكررة، وآخرها تقريره من العام الماضي.
بالإضافة إلى هذه، أشارت التقارير الإعلامية أيضاً إلى كل من: "حياة سارة"، النشاط الذي يجري سنوياً في منطقة الحرم الإبراهيمي في الخليل بمشاركة عشرات الآلاف من اليهود المتدينين؛ زيارة "قبر الحاخام يونتان بن عوزيئيل"، بالقرب من مستوطنة "عموكا" المقامة على أنقاض القرية الفلسطينية "عَموقه" في الجليل الأعلى. وهي زيارة سنوية تستقطب آلافاً عديدة من اليهود؛ زيارة "قبر يوسف" في قلب نابلس، نظراً لمدى خطورة الدخول إليه والخروج منه "لأنه ليس تحت السيطرة الإسرائيلية حالياً" ولأن الجيش يضطر إلى نشر قوات كبيرة لتأمين دخول وخروج الزوار إليه، في قلب أحياء فلسطينية.
"دولة الحريديم" داخل الدولة!
هذا هو العنوان الأبرز والأهمّ من بين العناوين التي تصدرت التلخيصات والتحليلات للحادثة في ميرون، لا سيما بما يشير إليه من انعكاسات محتملة على المدى البعيد، بترجيح كبير، على صعيد العلاقة بين جمهور اليهود الحريديم وقياداتهم، الدينية والسياسية، من جهة، والدولة وسلطتها المختلفة ومؤسساتها الرسمية، من جهة ثانية، وجمهور العلمانيين اليهود وأحزابهم السياسية المختلفة من جهة ثالثة.
كلام كثير جداً قيل وكُتب تحت هذا العنوان ذهب، في جلّه، إلى اعتبار الواقعة على جبل الجرمق "نتيجة طبيعية وتجسيد حتمي" لواقع "غياب وفقدان سيطرة / سلطة الدولة الإسرائيلية على دولة الحريديم"، من خلال تسليط الضوء والتركيز على الظواهر والممارسات والعلاقات، المتبادلة بين السلطة المركزية ورموزها وبين جمهور الحريديم وقياداته السياسية والدينية، والتي تفضي إلى تشخيص ما وُصف بأنه "الحكم الذاتي الذي يتمتع به الحريديم" في إسرائيل.
فبينما دعا معلق القناة الثانية في التلفزيون الإسرائيلي لشؤون المتدينين الحريديم، يئير شاركي، إلى "تسمية المولود باسمه" موضحاً أن "المسألة هنا هي مسألة الحكم الذاتي... فالمملكة (أي، دولة إسرائيل) تعلن اليوم الحداد الأكثر رسمية وتعبيراً عن وحدة الجماعة، لكنها لم تحقق سيادتها في ميرون"، اعتبر معلق القناة الأولى في التلفزيون الإسرائيلي لشؤون الحريديم، يئير إتينغر، أن "الدولة تعيش يوم حداد رسمي وحداد وطني. الدولة تضع رموزها العلمانية، الوطنية، في خدمة حدث من الصعب جداً فهمه وتفسيره، لأنه حدث في موقع ذي حكم ذاتي، موقع خارج الصلاحية الإقليمية للدولة... من المهم جداً فهم هذه الحقيقة من أجل فهم ما حدث في ميرون وللإجابة على السؤال: من هو السيد وصاحب البيت هنا؟". في المقابل، قال معلق البرامج الإعلامية في صحيفة "هآرتس"، موران شَرير، إن الحديث عن مسألة الحكم الذاتي "يحتاج إلى شجاعة بالطبع، لكن ليس من الحكمة قصر الحديث على الحكم الذاتي الجغرافي في جبل ميرون، لأن الحكم الذاتي أوسع بكثير. إنه حكم ذاتي ثقافي ـ سياسي يشمل الوسط الحريدي بأكمله. هذا هو الذي يقع خارج النطاق الإقليمي فعلاً. إنه الجمهور الذي لا تطاله أيدي المملكة".
مثل شَرير، كتب أوري مسغاف (هآرتس) أيضاً تحت عنوان "بسبب الحريديم، كلنا نعيش في الوقت الضائع"، معتبراً أن "الحريديم يُقصون الدولة الحديثة... ثمة مشكلة أخرى تخيم فوقنا، أبعد من المأساة والإخفاق، ترتبط بمسألة الحوكمة والحكم الذاتي... يتضح الآن أن الدولة تموّل هذا الحدث (زيارة القبر على جبل ميرون) بعشرات ملايين الشواكل سنوياً. لكن هذا نموذج واحد فقط، لأن الدولة تتولى صيانة وتمويل كل هذه الطائفة (الحريديم) بمليارات الشواكل سنوياً. إنه الانتحار بعينه". وأضاف: "من الواضح أن الحريديم سوف يقضون علينا. ليس ثمة استنتاج آخر يمكن التوصل إليه. هذه ليست "لا سامية"، وإنما هي رؤية الواقع الاجتماعي، الاقتصادي والديمغرافي بأعين مفتوحة". وختم قائلاً: "ثمة في إسرائيل أكثر من مليون حريدي الآن. المشكلة هي مشكلتنا معهم كمجتمع. غالبية الحريديم لا يعترفون بالدولة ولا بالنظام الديمقراطي. الدولة بالنسبة لهم مجرد بقرة حلوب والديمقراطية مجرد أداة تقنية لمواصلة السيطرة والاستغلال... بسببهم، نحن نعيش في الوقت الضائع".
لكنّ أبرز وأهمّ ما كُتب في هذا السياق هو ما ذهب إليه تسفي برئيل (هآرتس) تحت عنوان "كارثة ميرون تثبت وهم السيادة الإسرائيلية"، إذ ربط بين ما حصل في جبل ميرون وبين مصطلح "الحكم الذاتي" الذي "وُلد من قلب الصراع الإسرائيلي ـ الفلسطيني" واشتُقت منه مصطلحات أخرى منها "الحكم الذاتي الفلسطيني" و"التسوية الإقليمية" وغيرهما، والتي لم تكن سوى "لغرض التغطية على هدف واحد فقط: منع قيام دولة فلسطينية مستقلة"! وأضاف إنه "صحيح أن دولة فلسطينية لم تقم حتى الآن، لكن مشروع الحكم الذاتي حي وموجود، بل يتم تطبيقه بالكامل... ليس لدى الفلسطينيين وإنما لدينا نحن، في داخل إسرائيل. فليس ثمة حكم ذاتي واحد هنا، وإنما تشكيلة من مناطق ونظم الحكم الذاتي التي ترتبط بخيوط واهية وتشكل معاً ما يسمى بدولة إسرائيل".
وكتب برئيل أن "موقع ميرون ليس وحيداً، بل هو جزء من منظومة جيوب ذات حكم ذاتي تقترب، باستمرار، من منظومة الجيوب الفلسطينية التي خلقتها إسرائيل في الضفة الغربية لمنع قيام دولة فلسطينية موحدة... نرى هذه الجيوب بكل وضوحها وبهائها في الأحياء الحريدية في القدس، في جنوب البلاد حيث عصابات البدو تبسط سلطتها على المنطقة وسكانها البدو، في القرى والبلدات العربية في داخل إسرائيل حيث تخلت الحكومة عن سلطتها فيها ونقلتها إلى مقاولين ثانويين من حملة الأسلحة وكذلك ـ بالطبع ـ في المستوطنات التي أصبحت من زمن بعيد دولة مستقلة فرّخت في داخلها جيوباً ثانوية حتى المستوطنون أنفسهم لا يجرؤون على الدخول إليها".
وختم برئيل: "إسرائيل تصبح، أكثر فأكثر، أشبه بلبنان، سورية والعراق، التي أصبحت فيها تنظيمات، ديانات، طوائف، أقليات إثنية وعصابات هي السلطة الحاكمة فعلياً... إسرائيل، مثل الضفة الغربية، مقسمة إلى مناطق B ,A و־ C. مناطق تحكمها الدولة بالكامل، مناطق تسيطر فيها (ربما) على الأمن فقط لكن ليس على الشؤون المدنية، ومناطق تغيب عنها الدولة كلياً... ما يناسب فلسطين وسورية، يناسب إسرائيل أيضاً".