المشهد الإسرائيلي

ملحق أسبوعي يتضمن مقالات صحفية وتحليلات نقدية ومتابعات عن كثب لمستجدات المشهد الإسرائيلي.
هاوية ساعر: من "القمة" إلى اختبار البقاء.  (أ.ف.ب)
هاوية ساعر: من "القمة" إلى اختبار البقاء. (أ.ف.ب)
  • تقارير، وثائق، تغطيات خاصة
  • 1375
  • عصمت منصور

لم تفشل جولة الانتخابات الإسرائيلية التي تكررت للمرة الرابعة خلال نحو عامين، في إحداث التغيير المطلوب، وكسر الدائرة المفرغة وأزمة الحكم التي تعيشها المنظومة السياسية في إسرائيل، وتمنعها من تشكيل حكومة مستقرة فقط، بل إنها قضت أيضاً على ما سمي بـ"الأمل الجديد" الذي خرج من صفوف الليكود، وبشّر بإنهاء عهد نتنياهو.

حصل جدعون ساعر السياسي اليميني الذي انشق عن الليكود، وأسس حزبا أطلق عليه اسم "أمل جديد"، من أجل تحقيق هدف واحد، بات يشكل قاسما مشتركا لمعسكر عابر للأيديولوجيات وبديلا عن البرامج السياسية، ألا وهو إسقاط نتنياهو، في هذه الجولة على ستة مقاعد فقط، وهو ما جعله خيبة الأمل الأكثر مرارة لكل من طمح بإخراج نتنياهو من مكتب رئاسة الوزراء.

اليمين فقط يستطيع!

يمكن النظر إلى الجولات الانتخابية الأربع التي عاشتها إسرائيل خلال العامين الماضيين، على أنها محطات اختبار، أو معمل فحص ضخم ومتعدد الأبعاد للتوجهات العامة في إسرائيل، التي يتكرر فيها رغم التغيرات الطفيفة على حجم الأحزاب وتمثيلها، بما يكشف ثبات تمثيل معسكر اليمين، لا بل واتساعه رغم انقسامه على نفسه حول شخص نتنياهو.

جعلت هذه الخلاصة التي باتت أقرب إلى كونها بديهية، جدعون ساعر بخلفيته اليمينية ومواقفه الصقرية، يشكل الأمل الوحيد (تقريبا) القادر على إحداث تغيير في نتائج الانتخابات، من خلال سحب مصوتين من اليمين خارج حزب الليكود، من دون تهديد حكم اليمين وفقدانه الحكم الذي يحتكره نتنياهو منذ اثني عشر عاماً.

عكست مواقف جدعون ساعر وحملته الانتخابية والرموز التي التحقت به من داخل الليكود مثل زئيف إلكين، ومن خارجه مثل تسفي هاوزر ويوعز هندل، تطلعا حازما ومفعما بالأمل لإمكانية التغلب على نتنياهو أخيرا، خاصة على ضوء استطلاعات الرأي العام التي تنبأت له في الأيام الأولى لخروجه من الليكود بأن يكون الحزب رقم 2 في الكنيست، وأن قوته ستأتي على حساب الليكود بالدرجة الأولى، بعد أن ظهر أن الأخير فقد في الاستطلاعات التي أعقبت تشكيل ساعر لحزبه الجديد ما يقارب عشرة مقاعد (26 مقعدا).

لكن اتضح أنه كلما اقترب موعد الانتخابات، وأصبح الناخب أقرب إلى صندوق الاقتراع، فإن "الأمل الجديد" لا يعدو كونه محاولة يائسة وغير ناضجة، ولا تشكل بديلا مقنعا لجمهور اليمين ومصوتي الليكود التقليديين، وأن نتنياهو لا يزال الأقدر على جذبهم إليه، لتبقى القاعدة التي أثبتتها جولات الانتخابات الأربع على حالها، وهي أن اليمين قادر على المحافظة على قوته، وأن شخص نتنياهو هو الأقدر على ترؤسه، وأنه من خلال القوة الانتخابية التي يمتلكها قادر ليس على هزيمة ساعر فقط، بل ووضعه في معادلة تفاوضية معقدة تميل لصالح نتنياهو وتفقد ساعر هامش المناورة، وتجعل أي خيار آخر غير نتنياهو وكأنه إسقاط لحكم اليمين وانحياز لخيار الوسط ويسار الوسط.

خيارات ساعر

يعد جدعون ساعر سياسيا شابا نسبيا، فهو من مواليد العام 1966، يمتلك قدراً من كاريزما جعلته يحافظ على ترتيبه المتقدم على قائمة الليكود للانتخابات في أكثر من جولة، كما أنه يعد من اليمينيين المتشددين، حيث عارض خطة الانسحاب من قطاع غزة في عهد أريئيل شارون واستقال مرتين بسببها، واتخذ مواقف على يمين نتنياهو خاصة في خطابه الشهير في بار إيلان، والذي ألمح فيه إلى إمكانية الموافقة على قيام دولة فلسطينية.

انتماء ساعر لمعسكر اليمين بدأ من سن الخامسة عشرة عندما انتمى إلى حركة "هتحيا" اليمينية المتطرفة والتي تأسست في نهاية السبعينيات من القرن الماضي احتجاجا على دخول مناحيم بيغن في عملية سلام مع مصر، وإخلاء سيناء من المستوطنات، وموافقته على مبدأ الحكم الذاتي للفلسطينيين في إطار اتفاق كامب ديفيد.

خدم ساعر في الجيش في وحدة قتالية، هي وحدة جولاني، وأصيب في أثناء التدريب، وما بعد الخدمة العسكرية عمل في الصحافة والمحاماة.

انتخب للكنيست عن حزب الليكود في العام 2003 وشغل مواقع وزارية في وزارات مهمة مثل وزارة التعليم ووزارة الداخلية التي استقال منها ومن الكنيست في العام 2014 ليعود إلى الحياة السياسية في العام 2017 ويحتل الموقع الرابع في قائمة الليكود.

حول تزايد ملفات الفساد ضد نتنياهو الأنظار باتجاه ساعر الذي بات ينظر إليه على أنه الوريث المحتمل لتزعم حزب الليكود في مرحلة ما بعد نتنياهو، وهو ما خلق حالة من الريبة وعدم الثقة بينه وبين نتنياهو الذي لم تضعفه الملاحقة القانونية وتهم الفساد، ولا كانت كافية لجعله يبحث عن مخرج آمن، بل زادت من تمسكه بالسلطة، وفتح النار على كل من يقف في وجهه من الداخل والخارج، وتضاعف شعوره بالريبة، وهو ما يمكن الاستدلال عليه بالتهمة التي وجهها لساعر في العام 2018، بأنه يعد هو ورئيس الدولة رؤوفين ريفلين مؤامرة للإطاحة به من رئاسة الحكومة، بعد الفوز في الانتخابات القادمة، وأن ريفلين سيلقي على قيادي آخر في الليكود هو ساعر مهمة تشكيل الحكومة.

حالة عدم الثقة والريبة التي يبديها نتنياهو تجاه ساعر ليست عفوية، ذلك أنه هو الوحيد من داخل صفوف حزب الليكود الذي وقف ضد نتنياهو ورفض تقديم الدعم له عندما قدمت ضده لائحة اتهام في قضايا فساد، كما أنه لم يخف نيته ورغبته في استبداله والتنافس ضده على رئاسة الحزب، وهو ما أقدم عليه فعلا في العام 2019. صحيح أنه لم ينجح في هزيمة نتنياهو، لكنه كرس نفسه على أنه خصمه ومنافسه من داخل الليكود ووريثه المستقبلي.

شكلت مرحلة التنافس على رئاسة الليكود المحطة الأهم في تكريس شخصية ساعر على أنه زعيم معسكر اليمين المستقبلي، كونه الشخص الوحيد الذي تجرأ على خوض انتخابات داخلية ضد نتنياهو، وهو في ذروة فترة حكمه الطويلة، وأنه الشخص الذي لا يسلم بزعامته المطلقة بسبب ما يحيط به من قضايا فساد، وكونه يعد مقبولا على بقية الأحزاب الأخرى في معسكر اليمين، وهي مواقف جعلت نتنياهو ورغم أنه انتصر عليه بسهولة وحصل على دعم 75.5% من أصوات الليكود، يعتبره خصمه السياسي الأخطر، وبالتالي تجاهله في تشكيلة الحكومة التي أقامها مع بيني غانتس.

المأزق السياسي وعدم القدرة على الحسم في الانتخابات لثلاث جولات متتالية، بالإضافة لإقصاء نتنياهو له، هيأت كلّها ساعر للانتقال خطوة أخرى أكثر جرأة في مواجهة نتنياهو وهي تشكيل حزب جديد أطلق عليه اسم "أمل جديد" وهي الخطوة التي يمكن النظر إليها على أنها التحدي الجدي الثاني لنتنياهو ولكن من خارج الليكود هذه المرة.

نتائج الانتخابات النهائية التي أظهرت حصول حزب ساعر على ستة مقاعد فقط، إلى جانب كونها شكلت خيبة أمل كبيرة في إمكانية استبدال ساعر لنتنياهو، الذي حصل على ثلاثين مقعدا دون أن يتمكن من الحصول على الأغلبية التي تمكنه من تشكيل حكومة، وضعت الرجلين في مواجهة تحد ثالث لهما وربطت مصيرهما معا مرة أخرى.

يحتاج نتنياهو لأصوات جدعون ساعر كي يتمكن من تشكيل حكومة لا تستند إلى أصوات القائمة الموحدة التي يترأسها منصور عباس، والتي أعلن رئيسها عدم ممانعته في أن يكون المنقذ لنتنياهو في حال قدم له ما يكفي من المكاسب.

نشرت القناة 12 يوم الجمعة 26/3/2021 خبرا حصريا حول تفاصيل عرض تقدم به نتنياهو لساعر عبر وسطاء، بأن ينضم إلى نتنياهو ويمكنه من تشكيل حكومة مقابل تعهد مسبق بأن يتخلى عن الحكم بعد سنة واحدة. القناة قالت إن ساعر رد على العرض بشكل ساخر وقاطعه بالرفض، حيث تمثلت أمام عينيه تجربة بيني غانتس وحزب "أزرق أبيض"، وفي الخلفية الصراع المرير الذي خاضه مع نتنياهو، ومعرفته له بأن هذا الأخير لا يحترم عهوده ولا يمكن الوثوق بكلمته. رفض ساعر لا يعني أن ضغط أحزاب اليمين والليكود عليه سيتراجع، بل على العكس تماما، ذلك أن هذا العرض وتعمد تسريبه، هو بداية عملية سحق صورة ساعر من قبل نتنياهو وهو عمليا يدخله في الامتحان الثالث في مواجهة هذا الأخير.

لقد جرب جدعون ساعر أن يحارب نتنياهو من داخل الليكود وفشل في ذلك، ومن ثم جرب منافسته من الخارج عبر حزبه الجديد، إلا أنه فشل أيضا في جذب أصوات اليمين والليكود إليه، والآن يجد ساعر نفسه ومستقبله السياسي مرهونا بمعركة أخرى، وبامتحان جديد يتمثل في قدرته على رفض عرض نتنياهو والتصدي لضغوط اليمين، دون أن يتهم أنه هو من تسبب في انتخابات خامسة، أو تواطأ في تمكين حكومة يقودها يائير لبيد أو بيني غانتس من استبدال حكم اليمين.

يتضح أن خيارات ساعر ضيقة جدا على ضوء ما حصل عليه من عدد قليل من المقاعد، وعلى ضوء وجوده في معسكر غير متجانس أيديولوجيا، وبعيد عن تربيته اليمينية وقاعدته المحتملة إذا ما رغب في مواصلة شق طريقه نحو القمة، وهي كلها عوامل تعطي نتنياهو المزيد من الأوراق للضغط عليه وتحجيم طموحه.

العودة إلى البيت

نشر المحلل السياسي ورجل الأعمال يعقوب باردوغو بعد إعلان نتائج الانتخابات مقال رأي في صحيفة "يسرائيل هيوم"، المعروفة بكونها المنبر غير الرسمي لنتنياهو، دعا فيه جدعون ساعر إلى "العودة إلى البيت" الحزبي الذي نشأ فيه، وأن لا يساهم في الذهاب إلى انتخابات خامسه والتضحية بحكم اليمين.

تعبر هذه الدعوة عن نقطة ضعف جدعون ساعر، والذي عبر بشكل غريزي وعفوي عنها عندما غرد عبر حسابه الخاص على "تويتر" فور ظهور النتائج بأنه "يؤيد حكومة مع الليكود بدون نتنياهو وما دون ذلك فإنه مستعد لأن يذهب إلى المعارضة"، فهو يحن ويدرك أن الليكود هو بيته الأيديولوجي والحزبي الطبيعي (الذي خذله عندما نافس نتنياهو من داخله ومن خارجه)، ولكن هذا البيت مأهول ويقوده شخص لا ينوي أن يتركه، بل لا يكف عن استخدامه في صراعه معه ومع خصومه الأيديولوجيين من أجل البقاء.

تتوقف كل فرص ساعر المستقبلية على كيفية إدارته لهذه المعركة والقرارات التي سيتخذها، وقدرته على الخروج منها دون أن يتمكن نتنياهو من اغتيال صورته وسحقه سياسيا، سواء من خلال إعادته إلى حظيرة الليكود، او احتوائه داخل الحكومة، أو في حال قرر البقاء في المعارضة تجنب تحميله مسؤولية الذهاب إلى انتخابات خامسة، فهو الآن أمام مفترق طرق حاسم عليه أن يختار فيه: إما أن يتحول إلى الأمل الواقعي الوحيد القادر على هزيمة نتنياهو من داخل اليمين، وأن يعيد تكرار تجربة أريئيل شارون الذي واجه مصيرا شبيها، فأسس حزب كاديما، وهذا يتطلب حنكة سياسية وقدرة على المناورة واتخاذ قرارات صعبة، أو أن يجهض ويتم احتواؤه وتقزيم حركته إلى أدنى حجم ممكن، ليذوب حزبه ويتلاشى في الانتخابات القادمة إذا ما قرر الانضمام إلى نتنياهو من موقع الحزب الصغير الهامشي الذي لم ينجح في كسب قلوب المصوتين اليمينيين وأصواتهم.

الأحمال الأيديولوجية الثقيلة سواء من خلفيته وتربيته أو من حلفائه الذي شقوا معه هذه التجربة (إلكين وهاوزر وهندل)، وحجم المقاعد المتواضع، لا بل والمخيب للآمال الذي حصل عليه حزب "أمل جديد" وضغط الانتخابات الخامسة، وفوق هذا دهاء نتنياهو والأدوات اللا محدودة التي يمتلكها، كلها عوامل تجعل ساعر في موقف لا يُحسد عليه، وهي تهدد بانتهاء معركته مع نتنياهو بهزيمة لن تقوم له بعدها قائمة، إلا إذا أثبت قدرة على الصمود والعمل بنفس طويل والرهان على الميل المتنامي في الشارع الإسرائيلي نحو اليمين، والسأم من ثقل العبء الذي بات يشكله نتنياهو على المنظومة السياسية في إسرائيل وعدم الخشية من الذهاب إلى انتخابات خامسة.

حتى الآن أثبت جدعون ساعر انسجاما مع نفسه، واستقامة سياسية، بالمعنى اليميني، وقدرة على اتخاذ قرارات صائبة، مع حفاظه على خطه الأيديولوجي وإخلاصه لهذا الخط، وإذا كانت هذه الصفات قد خدمته في السابق في تكريس صورته على أنه زعيم مستقبلي واعد (رغم فشله أمام نتنياهو) إلا أن المعركة الحالية قد تتطلب منه مرونة أيديولوجية ودهاء وقدرة على المناورة، وهي أدوات ستكشف الأيام إن كان قادرا على استخدامها وإنقاذ نفسه، وإنقاذ ما يسمى "الأمل الجديد" الذي بشر به!

 

المشهد الإسرائيلي

أحدث المقالات