تتواصل مظاهر الجريمة والعُنف ضدّ النساء في المجتمع الفلسطينيّ في الداخل، وكان آخرها حادثةِ الأسبوع الماضي، التي أدت إلى مقتلِ وفاء عباهرة في بلدةِ عرّابة (الجليل)، فيما يشبه الإعدام الميدانيّ حيثُ قام المجرم زوجها السابق بطعنِها في الشارع بعد أن صدمَ سيّارتها.
وسبقت هذهِ الحادثة جرائم قتل أدت إلى مقتل 15 امرأة في العام 2020.
ويشهدُ المجتمع الفلسطينيّ في الداخل تصاعداً في العُنف والجريمة، ونحدّد بدايةً أنه في هذهِ الظاهرة المتصاعدة نرى جانبين متمايزين نظرياً، إلا أنهما متداخلان داخلِ البنيةِ الاستعماريّة الاستيطانيّة العنيفة المتجسدّة في دولة إسرائيل. الجانب الأوّل، بروز منظمّات إجراميّة في الداخل على أساسِ عائلات، تُدير عمليّات قتل، وأعمال عُنف من حرقِ السيّارات إلى إطلاق الرصاص للترويع على البيتَ أو مكانِ العمل وما إلى ذلك، كجُزء من بنيةٍ لصنعِ الأموال، وتحويلها بالتالي إلى "حرفةٍ" أمام الشبابِ الفقير في الداخل. والجانب الثاني، الذي سأتحدّث عنه أساساً في هذهِ المقالة، هو العُنف والقتل الموجّه ضدّ النساء، في المجتمعِ الفلسطينيّ في الداخل. وأشير إلى أن التداخل، الذي تحفّزه البنيةِ الاستعماريّة الاستيطانيّة، متعلّق أولاً بالسلاحِ الذي توفّره المنظمّات الإجراميّة في عدّة جرائم قتل ضدّ النساء، وثانياً بالهيراركيّات الاجتماعيّة، التي تقوم على أساسها جرائم القتل ضدّ النساء، وتعزّز بالتالي أنماطاً جديدة من العنف، وثقافةً تسهّل الانخراط في منظمّات إجراميّة، وحمل السلاح، كجُزء من "الرجولة".
سأحاول في هذا المقالة تبيان وعرض تقرير حول دور الشرطة، المنوط عليها القيام بهِ، ولماذا فشلت وما زالت تفشل، في كلّ جريمة جديدة. وأيضاً سأحاول تأطير علاقة الدولة والمجتمع في هذا الجانب من العُنف والجريمة [الموجّهان ضدّ النساء]، وإنتاج أنماط وعي "تتصالح" مع قتلِ النساء في أوساط المجتمع الفلسطينيّ في الداخل بناء على بحث سبق أن أعدتهُ الباحثة سهاد ظاهر- ناشف بالتعاون مع جمعيّتي "كيان" و"بلدنا". وختاماً سأحاول تقديم تأطير نظريّ عبر أطروحة البروفسورة نادرة شلهوب- كيفوركيّان لتفكيك وفهم "سياسة قتلِ النساء في سياقاتٍ كولونياليّة" (The Politics of Killing Women in Colonized Contexts) في مقالة كتبتها بالمشاركة مع سهاد ظاهر- ناشف، مما يبيّن أن العنف ضدّ النساء هو عبارة عن "سياسة إتاحة" للمُجرم بأن يقوم بدورهِ.
الشرطة تتواطأ أم تنأى بنفسها؟
نشر "مركز البحوث والمعلومات" التابع للكنيست، في العام 2017، تقريراً حول قتل النساء، وأشار إلى عدّة نقاط متعلّقة بالقاتِل، والشرطة: أولاً، الشرطة كانت على علم بما يقارب نصف الحالات في العامين 2015 و2016، مما يعني أن المرأة توجّهت أو قدّمت شكوى للشرطة. وهذهِ النسبة متكرّرة حتى العام الحالي، وربما تزداد، إلى أن يصدر تقرير إحصائي آخر.
ومن المهمّ هنا اعتبار أن الشرطة هي جزء من المشهد العنيف، فيما يتعلّق بالداخل الفلسطينيّ. بمعنى أن عدم الإسراع إلى مكالمة الشرطة، بسبب العنصريّة والعنف ضدّ المرأة والبيت والأبناء وفق ظروفٍ متباينة لكلّ بلدة وعائلة، يفسّر جزءاً من عدم الاعتماد على الشرطة من جهةِ النساء. على سبيل المثال، أجرت وفاء عباهرة مكالمة هاتفيّة مع الشرطة، قبل قتلِها، وطلبت الحماية، وردّ الشرطيّ "لا تعلميني شُغلي"!، وسبقَ ذلك طلب إعفاء من حضورِ المحكمةِ الشرعيّة، بسبب التهديد على حياتها، ورفضَ القاضي طلبها. وتعبّر هذهِ الحادثة بشموليّتها وتفاصيلها التي نُشرت عن القصّة كاملةً فيما يتعلق بتواطؤ الشرطة والمحكمة الشرعيّة والمُجرم الفرد (غالباً الزوج أو أحد أفراد العائلة)، كما جاء في التقرير مع الجريمة ضدّ وفاء. ويمكن الافتراض بأن هناك نساء أخريات مررن بالتجربة نفسها.
وأضاف التقرير أن الجريمة ضدّ النساء العربيّات تزيد، بشكلٍ ثابت، من نسبةِ قتل النساء في إسرائيل عموماً، فمثلاً بينَ عاميّ 2013 و2014 وصلت النسبة إلى 20%، وأصبحت في العامين التاليين أكثر من 40%. مما يعني أن عوامل الجريمة تزداد حدّةً وتأثيراً على العلاقات القائمة؛ بينَ الذكور والإناث من جهةٍ، وأجهزة الدولة والمجتمع الفلسطينيّ من جهةٍ أخرى. ويذكر التقرير أنه غالباً الزوج هو المُجرم أو أحد أفراد العائلة.
وأوضح التقرير أن الشرطة، فيما يتعلّق بقضيّة قتل النساء، غير معنيّة ببذلِ جهد سواء للحماية، ومنعِ القتل، أو تقديم لوائح اتهام وتقديم عقاب ملائم للحدّ من الارتفاع في قتل النساء، لافتاً إلى أنه في العقدِ الأخير فقط، وفي أكثر من 70%، من حوادث القتل، لم تقدّم الشرطة لوائح اتهام عموماً. بذلك هي لا تحاول الحدّ من هذهِ الممارسات، أو فرضِ نفوذها على المجرمين، بل على العكس، في أحيان كثيرة تُتيح، وكأنها لا تُمانع أو تتوقعها كجُزء من ممارسات طبيعيّة لـ"الوسط العربي".
وهذا ما أشارَ إليهِ بحث أعدتهُ الباحثة سهاد ظاهر- ناشف، أصدرتهُ "جمعيّة كيان" بمُشاركة "جمعيّة بلدنا" في العام 2014، وذكر أن البنية الإسرائيليّة قامت بتحويل الجريمة ضدّ النساء، القتل، إلى ممارسة ثقافيّة، مسوّغين بالتالي على مدار سنوات القتل على أنه أمر طبيعيّ في هذا المجتمع عبر التشديد على "خلفيّة الشرف" في هذهِ الجرائم. وأضافت أن مصطلح "قتل على خلفيّة الشرف" فيهِ أبعاد سياسيّة واجتماعيّة وعلاقات قوّة، والكثافة التي استخدم بها من قبل الإعلام الإسرائيلي والمؤسسات الأكاديميّة والتربويّة ثمّ السياسيّة والسلطات الأمنيّة عموماً، ترمي "إلى التحرّر من المسؤوليّة تجاه النساء المهدّدات بالقتل أو اللائي قُتلن؛ لفرضِ تفكيك المجتمع وتفتيتهِ؛ فإضعافهِ وإبعاده عن الهمّ الوطنيّ". يتبيّن في إثر ذلك أن جهاز الشرطة بدورهِ يتأسس على مثل هذهِ النمطيّات العنصريّة إزاء المجتمع الفلسطينيّ، أو النساء خصوصاً، تسويغاً للجريمة، ولفتت إلى أن هذا التسويغ هو ليسَ بأثر رجعيّ فقط، وهُنا يتضح مدى عُمق المشكلة. وشدّدت على أن هذهِ الأصناف الخطابيّة التي تُحفّزها البنيةِ الاستعماريّة، هي التي تخلق وتُنتج أدواراً وتموضعاً فلسطينياً داخلها، وساهمت بذلك في فرض "الحقيقة" بأن الرجل العربيّ هو عنيف بطبيعتهِ، والمرأة العربيّة هي ضحيّة بطبيعتها. بالتالي فهذا الوعي يكرّس أدواراً غير فاعلة لمعالجةِ هذهِ القضيّة أو تكريس عدم التحرّك في سبيل المعالجة، والاعتماد فقط على أجهزةِ الشرطة، أو انتظارها.
موقف المجتمع والشبيبة من قتل النساء
عرضَ البحث ذاتهِ توثيقاً جدياً ومهنياً لمواقف المجتمع والشبيبة خصوصاً إزاء ممارسات القتل والعنف ضدّ النساء وأسبابهِ. وفي ظلّ تغلغل وهيمنة أنماط وعي استشراقيّة وذكوريّة وأدوار حددتها البنية الاستعماريّة للرجال والنساء، حاول البحث توضيح والكشف عن هذا التغلغل، وعلاقتهِ بفاعليّة ونشاط المجتمع ضدّ هذهِ الممارسات؛ ويُقصد بذلك تحديداً الجمعيّات والحركات النسويّة.
ومن الأسئلة التي طرحها البحث: 1) ما مواقف الشبيبة الفلسطينيّة من قتل النساء في المجتمع؟ 2) ما العلاقة بينَ انكشاف الشبيبة والمشاركة في نشاط لمناهضةِ قتل النساء وبين الموقف من قتلِ النساء؟ 3) ما العلاقة بين موقف الشبيبة من قتل النساء وموقفهم/ن من سلوك امرأة في عائلاتهم/ن القريبة؟ 4) ماذا يعني مصطلح «شرف العائلة» للشبيبة في المجتمع الفلسطيني؟ وغيرها من الأسئلة. وتم توزيع ما يقارب 400 استمارة على شبيبة تتراوح أعمارهم بينَ 14-19 عاماً من تسع بلدات؛ المغار، وعرابة، ودالية الكرمل، وأم الفحم، والطيبة، والطيرة، وباقة الغربيّة، وكفر قاسم، واللد. ولم يقتصر البحث فقط على المنهج الكميّ، إنما أيضاً تخلّل مقابلات مع ناشطين وناشطات نسويّة وجمعيّات وحركات.
وأظهر البحث، فيما يخصّ ممارسات قتلِ النساء، موافقة حتميّة تصل إلى ما يقارب 23%، وموافقة جُزئيّة تبرّر ممارسات قتل النساء في بعضِ الأحيان، تصل إلى 17.5%، مما يبيّن تغلغل "شرعيّة ثقافيّة" لهذهِ الممارسات وخاصّة في الإجابة عن سؤال "هل المرأة هي السبب وراء قتلها؟"، حيث نجدّ غالبيّة أكثر من 56% ترى أن المرأة هي السبب (بينَ الموافقة التامّة والموافقة الجزئيّة)، مرتبطة فيما وصفتهُ الباحثة بأنه تحويل ممارسة القتل إلى "ممارسة ثقافيّة" تخصّ المجتمع الفلسطينيّ في الداخل أو المجتمعات العربيّة عموماً. وفي خصوص ذلك، نجد أن أكثر من 63% يوافقون على أن الحلّ لمنعِ المرأة من "سلوك يتنافى مع المجتمع" هو من خلال التعنيف والقتل للمرأة، وهذا يوضّح النفوذ والشرعيّة لهذهِ الممارسات. وتشير الباحثة إلى أن هناك علاقة بينَ عدم الانكشاف على نشاطات وفعاليّات ذات مضامين نسويّة، الذي وصل إلى نسبة 57%، مقابل التأييد لممارسات قتل النساء، وقوّة الأنماط الثقافيّة الذكوريّة. والملفت للنظر أن نسبةً واسعة من الإناث الفلسطينيات، ما يقارب الـ47%، تؤيد قتل النساء على خلفيّة "شرف العائلة"، حيث أن ضحيّة هذهِ الممارسات تتحوّل إلى "جانيةٍ على ذاتها".
"إتاحة قتل النساء" والاستعمار
قبل أن أبدأ الحديث حول تأطير العلاقة بينَ ممارسات قتل النساء في فلسطين، والبنيةِ الاستعماريّة الإسرائيليّة، أودّ أن ألفت إلى مثال في أفريقيا- في كينيا- تحت الاستعمار البريطاني في بداية القرن العشرين، وتحديداً في فترة العشرينيّات والثلاثينيات، حيث كانت تُقتل النساء الأصلانيّات، إعداماً، تحت بصر القُضاة البيض. لماذا؟ تجيبنا الباحثة ستايسي هايد، في بحثها المنشور عن جامعة إكستر في العام 2007 (Deadlier than the Male? : Women and the Death Penalty in Colonial Kenya and Nyasaland) أنّ "تصرفات هؤلاء النساء تمثل تهديداً خطيراً للهيراركيّات الاجتماعيّة والأنظمة الأبوية الراسخة، وخصوصاً في فترةٍ تشهد تغيّرات سريعة وواسعة النطاق في العلاقات الاجتماعية والاقتصادية بين الجنسين"، ونقلت هذهِ الإجابة تلخيصاً لما تحدّث عنهُ بعض الأفارقة الذكور في تلك الفترة وما بعدها. وأعتقد أن الدور المُباشر في قتل النساء الذي أدتهُ المنظومة القانونيّة البريطانيّة في كينيا، يبيّن أهميّة ضمان ثبات هيراركيّات جندريّة، للحفاظ على المنظومةِ الاستعماريّة عموماً.
في سياق بحث الاستعمار تحاول الباحثتان نادرة شلهوب- كيفوركيّان وسهاد ظاهر- ناشف تأطير هذهِ الممارسات، وتعريف دورِ المنظومة القانونيّة والأمنيّة الإسرائيليّة في تثبيت هذهِ الهيراركيّات وضمان إعادة إنتاجها.
ويتضح ذلك من خلالِ جانبين:
أولاً، ترى الباحثتان أن "طريقة عمل الشرطة، تتأسس على تمكين الأنظمة الأبوية القائمة"، وهذا يعني أن الشرطة والجهاز القانوني والأمني تمكّن، أي تضفي الشرعيّة على هذهِ الأنظمة الأبويّة بما تخللته من عائلات وحمائل في فلسطين عموماً، والداخل 48' خصوصاً. على سبيل المثال حينما تتجّه نساء إلى الشرطة طلباً للحماية في إثر تهديدات بالقتل توظّف الشرطة شبكة علاقتها مع "كِبار العائلة أو الحمولة"، للمشورة والتصالح لـ "حماية المرأة" وإعادتها إلى العائلة، ثمّ تُقتل، ويحدث ذلك بشكلٍ متكرّر.
ثانياً؛ البنية الاستعماريّة هي التي تحدّد وتسيطر على حجم القوّة لهذهِ المنظومات الأبويّة حيث أنها في أحيان كثيرة تعمل على إضعافها وتفكيكها، وفي أحيان أخرى تعمل على تعزيزها، حسبما تقتضي حاجة ضبط المجتمع الفلسطينيّ في الداخل، بالتالي تقترح الباحثتان أنه "إذا أردنا التفكير في دور الأعراف الاجتماعية أو الثقافة في قتل الإناث، يجب أن نسأل كيف يمكن ربط رغبة بعض الرجال المحليين في أن يصبحوا 'محافظين على المعايير' و 'مدافعين عن القيم الاجتماعية' بالسياق السياسي الذي فيه تم إسكات القيم والمعايير الإنسانية والحقوق المعترف بها في المنزل/ الأرض". سياسات إتاحة قتلِ النساء، تعمل من خلال تمكين الأنظمة الأبويّة، حيثُ تشكّلت شبكة علاقات ما بينَ الأنظمة القانونيّة والأمنيّة الرسميّة للنظام الاستعماريّ في فلسطين ومركبّات اجتماعيّة فلسطينيّة ترسخها السلطة الاستعماريّة وفقاً لمصالحها.
وتجد الباحثتان أنه وفقاً للنتائج في هذا البحث فإن "نظام الدولة الإسرائيلية يلعب دوراً حاسماً في إعادة إنتاج قتل النساء من خلال نظامه القانوني الرسمي ومن خلال تمكين النظام غير الرسمي الاجتماعي الأبوي الذي يشمل المخاتير (قادة العائلات الممتدة) ورجال الدين ووسطاء الشرطة". وإجمالاً تنبني ممارسات قتل النساء، والمحاولة الحثيثة لتعزيز الهيراركيّات، على يدِ النظامِ الإسرائيلي، بالتعاون مع نمطٍ اجتماعيّ ذكوريّ.