المشهد الإسرائيلي

ملحق أسبوعي يتضمن مقالات صحفية وتحليلات نقدية ومتابعات عن كثب لمستجدات المشهد الإسرائيلي.
ملصق  المسلسل.
ملصق المسلسل.
  • تقارير، وثائق، تغطيات خاصة
  • 2077
  • أنس إبراهيم

في آب 1977، بدأت قصّة "الشّيطان في المنزل المجاور The Devil Next Door"، عندما وجّه مكتب التحقيقات الخاصّة الأميركيّ تهماً لجون دميانيوك، المهاجر الأوكرانيّ، بأنّه أحد أشرس ضبّاط وحدة تراونيكي الأوكرانيّة النازيّة المتخصّصة في الإبادة الجماعيّة والتعذيب الوحشيّ لليهود والتي خدم أفرادها في معسكرات اعتقال نازيّة متعددة، من بينها معسكر الإبادة تريبلينكا الواقع في بولندا الشرقيّة.

لكنّ تهمة دميانيوك لم تكن مجرّد تهمة بالتعاون مع النازيّة من خلال انخراطه في وحدة تراونيكي الأوكرانيّة، بل بوصفهِ "إيفان الرّهيب" سيّء السُّمعة، وكما يقول أحد المؤرّخين في مسلسلNetflix الوثائقيّ The Devil Next Door: "في منظومة بيروقراطيّة وحشيّة شديدة الكفاءة كمنظومة الإبادة الجماعيّة النّازية، لا بُدَّ لَكَ من ارتِكاب أفظَع الفظاعات الممكن تخيُّلها لتكتسب لقب "إيفان الرّهيب"، متفوّقاً على وحشيّة المنظومة نفسها بوحشيّته الخاصّة".

تلك هي التّهمة الرئيسة التي كان يواجهها دميانيوك مُدافعاً عن نفسه بأبسَطِ الحجج القانونيّة، وهي ليس أنّه فقط لم يكن "إيفان الرّهيب"، بل هو لم يكن أصلاً هناك، لا في تريبلينكا، ولا في سوبيبور، ولا في بولندا الشّرقيّة كلّها. وقد استغرق الادّعاء الأميركيّ تسع سنواتٍ لحسم قضيّة دميانيوك والبتّ في صحّة بطاقة هويّته العسكريّة النازيّة ومن ثمّ ترحيله إلى إسرائيل لأنّ الولايات المتّحدة لم تملك سلطة قضائيّة لمحاكمته على التّهم الموجّهة إليه، لأنّه لم يرتكب تلك الجرائم على أراضٍ أميركيّة وكذلك لم ترتكب الجرائم بحقّ أميركيين. فكانت الطريقة الوحيدة لمعاقبة نازيّ سابق في الولايات المتّحدة تتمثّل بإسقاط جنسيّته وترحيله إلى إسرائيل، أو إلى ألمانيا، ولكنّ إسرائيل كانت قد شرعت بإجراءات المطالبة بترحيله ليُحاكم وفقاً للقانون الإسرائيليّ الخاصّ بجرائم النازيين والمتعاونين مع النازيّة للعام 1950.

المحاكمة الصوريّة: جلسة استماع للتاريخ أم محاكمة فرديّة؟

يقول يورام شيفتيل، المحامي الإسرائيليّ الذي تقدّم للدفاع عن دميانيوك بعد رفض عشرات المحامين الإسرائيليين الاشتراك في الدّفاع عنه بعد وصوله إلى القدس العام 1986: "بعد عشر سنواتٍ من العمل كمحامي دفاع توصّلت إلى وصف دقيق للنظام القضائيّ الإسرائيليّ كمصنع للمحاكمات الصوريّة". كان شيفتيل كغيره من الإسرائيليين مقتنعاً أنّ دميانيوك هو "إيفان الرهيب"، ولكن لاحقاً، وبعد وصوله إلى إسرائيل، بدأ يُشكِّكُ في هذه الحقيقة، وصولاً إلى قناعة مغايرة، وهي أنّ القضيّة كلّها تقوم على دليل معيب، وهو بطاقة تراونيكي السوفييتيّة، وربّما تكون المسألة برمّتها مجرّد مهزلة صادمة، ولأنّه كما يصفُ نفسه، مولع بإثارة المشاكل ومعارضة النّظام، قرّر الدفاع عن دميانيوك مقتنعاً أنّه ليس "إيفان الرهيب"، ولكنّه أيضاً، كان على قناعة أنّه مهما فعل، فنتائج المحاكمة ستؤدِّي إلى إدانة دميانيوك والحكم عليه بالإعدام.

في العام 1987 بدأت المحاكمة التي يصفُها شيفتيل بأنّها: "قضيّة وحشيّة مؤسَّسة من الأسفل إلى الأعلى، تستّر وتلفيق في محاكمة صوريّة"، ولكنّ عزاءه الوحيد بحسَب كلماته، هي أنّه كان متأكّداً من قدرته على تخريب العرض.

وكما كان سؤال التباس هوية دميانيوك الشّخصيّة مسيطراً على الإجراءات القضائيّة الأميركيّة، كذلك كان هو السّؤال المهيمن طوال فترة محاكمة دميانيوك في إسرائيل. وكما كانت الحال في محاكمة أدولف آيخمان العام 1961 بعد إلقاء القبض عليه في الأرجنتين من قبل الموساد الإسرائيليّ، اختار الادّعاء الإسرائيليّ مرّة أخرى الاستناد في ادّعائه إلى شهادات النّاجين من المحرقة النازيّة، وتحديداً شهادات هؤلاء الذين نجوا من جحيم معسكر الإبادة في تريبلينكا، وكان عدد المتبقّي منهُم لا يتجاوز الـ77. إلّا أنّ هناك عديد الاختلافات الفارقة والجوهريّة ما بين المُحاكمتين التي تجاوزتا في معانِيها الإجراءات القضائيّة نفسها وأهمّية المحاكمة نفسها.

فأوّلاً، لم يكن هناك أيّ شك في هويّة أدولف آيخمان ولم يَكُنْ هناك إنكار من قبل آيخمان نفسه لهويّته؛ وقد اعترَفَ بكلّ التّهم المنسوبة إليه بهدوء صادِمٍ وصَفَتهُ الفيلسوفة اليهوديّة الأميركيّة حنة آرندت بأنّه تجسيد لـتفاهة الشّر في العصر الحديث. وقد مَثُلَ في محاكمة آيخمان أكثر من مئة شاهد عيان أو من امتلك معلومات لإدانة آيخمان بجرائمه المنسوبة إليه. وفي تلك اللحظة التاريخيّة كان من الممكن جداً إقامة محاكمة صوريّة، هي في النّهاية جلسة استماع للتاريخ، ومحاكمة للتاريخ نفسه أكثر ممّا هي مُحاكمة لفرد آيخمان الشخصيّ؛ كانت لحظة هويّاتيّة حاسِمة في تاريخ إسرائيل، أشبَهُ ما تكون بعِلاجٍ جماعيّ للوصول إلى العدالة عبر الانتقام من شخصِ آيخمان بوصفِهِ تجسيداً لآلة الشّر النازيّة بأكملها.

لكنّ القضيّة مختلفة في حالة دميانيوك؛ فهو لم يَكُنْ نازيّاً، بل كان متعاوناً مع النازيّة ولم يسبق من قبل أن تمّت محاكمة المتعاونين مع النازية من الشعوب الأخرى، كالأوكرانيّة، الأستونيّة، الليتوانيّة أو أيّ من شعوب شرق أوروبا. وكذلك، كان هُناك إنكارٌ تامّ من قبل دميانيوك وهيئة دفاعه لا للتهم المنسوبة إليه وحسب، بل لحقيقة أنّه هو نفسهُ من يدّعي الدّفاع أنّه عليه، أي "إيفان الرّهيب"؛ كانت الحجّة هي أنّ هناك التباساً في تحديد هويّة المتّهم، وأنّ دميانيوك مجرّد مهاجر أوكرانيّ آخر ولم يكن أبداً مشتركاً في عمليّة الإبادة الجماعيّة للشعب اليهودي في أوروبا.

إذن، لم يكن دميانيوك شخصيّة نازيّة بارزة، وكانت هناك ظلال من الشكّ تُحيطُ القضيّة بأكملها؛ ومع ذلك، أصرّ الادّعاء الإسرائيليّ على استخدام التكتيك نفسه الذي استُخدِمَ في محاكمة آيخمان لإدانته، بوصفه حاسِماً، يقينياً ولا يمكن مجادلته وهو الاستنادُ بشكلٍ حصريّ إلى شهادة النّاجين من المحرقة، ومن معسكر الإبادة في تريبلينكا تحديداً وتعرُّفهم إلى دميانيوك على أنّه "إيفان الرهيب"، مشغّل غرف الغاز في المعسكر والذي اشتهر بضربهِ لليهود في طريقهم إلى غرف الغاز بالهراوة، وأحياناً باستخدام سيفهِ لجدع أنوفهم، قطع آذانهم والتمثيل فيهم جسدياً بأشدّ الطرق وحشيّة.
ما بين ذكريات متخيّلة وأخرى ملفّقة

بعدما قدّم أحد الشهود الناجين من المحرقة شهادته، وكان عمره يتجاوز الثّمانين عاماً، وبعد تعرُّفه إلى جون دميانيوك على أنّه "إيفان الرّهيب"، يقوم الدّفاع بسؤاله بشكلٍ عرَضيٍ إن كان قد قدّم شهادته من قبل في الولايات المتّحدة، وكيف وصَلَ إلى الولايات المتّحدة لتقديم شهادته من إسرائيل؛ فيُجيبُ الشّاهد بكلّ بساطة: "بالقطار".

تلك كانت لحظة محرجة للادّعاء، وللشاهد وللمحكمة بأكملها؛ فكان جليّاً أنّ الادّعاء يدفعُ على المنصّة بشهود من الصحيح أنّهم عانوا جحيم تريبلينكا، ولكنّ ذاكرتهم كانت محطّمة كلّياً، ومتداخلة، ومشوّشة ولا يمكن الاعتماد عليها في قاعة المحكمة.
وكان هناك شاهد آخر، إلياهو روزنبرغ، الناجي من معسكر تريبلينكا، والذي كان يعدّ الشاهد الأساس للادّعاء ضدّ دميانيوك، وقد شكّل ضغطاً هائلاً في البداية من خلال شهادته على المحكمة للاقتناع بأنّ دميانيوك هو نفسه إيفان الرّهيب، وكان أشدّ الشّهود هيجاناً وحدّة في شهادته. ومع ذلك، اكتشفت المحامي الإسرائيلي شيفتيل، أنّ روزنبرغ نفسه قام في العام 1947 بتقديم شهادة لصائد النازيين المخضرم، توفيا فريدمان، يقول فيها إنّه وآخرين قاموا بقتل إيفان الرهيب أثناء انتفاضة السجناء اليهود في تريبلينكا العام 1943، ما شكّل صدعاً حقيقياً وملموساً في شهادته أمام المحكمة ومدى مصداقيّتها. وعند مواجهته بهذا التناقض بين شهادتيه، فسّر روزنبرغ هذا التناقض بالقول إنّ الشهادة الأولى كانت تعبِّر عن رغبة بأن تكون حقيقة، عن رغبة بأنّ أحداً من اليهود قتل قاتل اليهود أنفسهم: "في ذلك الوقت، كانت أمنية قلبيّة، بالطّبع اعتقدت أنّه قد قتل، كان الأمر ناجحاً، هل يمكنك تخيّل هذا يا سيدي! البهجة من هذا النجاح العظيم، من هذا الحدث العظيم، أن شخصاً ما قضى على قاتلنا؟ هل يوجد أيّ شك؟ صدقت هذا من كلّ قلبي! يا ليتها كانت الحقيقة، يا ليتها! هذه الحقيقة بأكملها. أراد كلّ شخص منّا التفاخر بكيفية قتله. كان الأمر هائل الأهميّة. ولكن.. إنه المخلوق الجالس أمامنا".

تعبّر شهادة روزنبرغ عن أزمة داخليّة عايشَها النّاجون من المحرقة، خصوصاً أولئك الذين وصلوا إلى إسرائيل بعد انتهاء الحرب العالميّة الثانية، وكانوا يُواجهون بسؤال مُتشكّك: "كيف يعقل أنّكم نجوتم وقتل 6 ملايين آخرين! ما الذي فعلتموه لكي تنجوا من هذا الرعب؟"، وكان على النّاجين تطوير صورة مختلفة عن كيفيّة نجاتهم وإن عَنى ذلك ابتداع ذاكرة مختلفة كلّياً. وذلك ما فسّره الذي مثّل الادّعاء الإسرائيليّ مسوغاً التناقض بين شهادتيّ روزنبرغ بالقول: "أعتقد أنّ الشهود متلامسون مع شعورهم العميق بالذنب لبقائهم أحياء، لعدم انتحارهم، حتّى أن أحداً قد يسألهم كيف تمكّنتم من البقاء على قيد الحياة؟ وقد أرادوا البقاء أحياءً، وفعلوا المستحيل ليظلُّوا أحياءً، وربّما احتاج روزنبرغ إنجازاً بطولياً، ليتغلّب على شعوره بالذنب.. أعتقد أنّ ذلك التفسير الصحيح، وأنّ أحداً لم يقتل مشغّل غرف الغاز في تريبلينكا وكان ذلك مجرّد جزء من أسطورة قتل إيفان الرهيب أثناء انتفاضة السجناء في المعسكر".

الحكم أخيراً

رغم كلّ الجدل الذي شهدته قاعة المحكمة المركزيّة في إسرائيل حول هويّة جون دميانيوك وإن كان هناك التباس حقيقيّ في هويّته الشخصيّة وإن كان فعلاً إيفان الرهيب، إلّا أنّ المحكمة وبعد عامٍ على بدئِها وصلت أخيراً إلى حكمها النهائيّ في القضيّة، الحكم الذي استند وبشكلٍ أساس وكُلِّي على شهادة النّاجين من المحرقة ولم يلتفت إلى كلّ أسس الشكّ المعقول الأخرى في هويّة دميانيوك، والذي صاغه قاضي المحكمة المركزيّة بهذه الصّيغة: "أمامنا لائحة اتّهام بشعة وصادمة. كلماتها حارقة وقصّتها تبثُّ الرعب في القلوب. إنّها الحقيقة الشنيعة والمريرة التي طلب منّا كشفها، لتحديد إن كان المتّهم اشترك في تلك الجرائم أم لا... لذلك السّبب نحن مطالبون باستخدام شهادات بقايا النار، الناجين الذين رأوا المجرمين في مصنع الموت في تريبلينكا، ولكن يجب أن يُقال، من المهم أن تسمع كلماتهم وتفحص مصداقيّتهم. إن كانت شهاداتهم ليست متأثرة بأمنيات القلب، أو ذاكرة خانتهم أو خطأ بريء في تحديد الهويّة. قد يسأل المرء هل من الممكن تذكّر أمور حدثت قبل زمن طويل جداً ووصفها بدقّة؟ قبل 45 عاماً وأكثر؟ وقد يسأل المرء أيضاً: وكيف يمكن للمرء أن ينسى؟، كيف يمكن لشخص نجا من الموت والقتل اليومي والإذلال والظلم، كيف يمكنه أن ينسى؟ وبناء عليه، نحكم على المتّهم بارتكابة جرائم ضدّ الشعب اليهوديّ وفقاً للقانون الإسرائيلي "1أ1": قانون جرائم النازيين والمتعاونين للعام 1950...".

حكمت المحكمة المركزيّة بالإعدام شنقاً على جون دميانيوك لجرائمه المنسوبة إليه بوصفه "إيفان الرهيب"، مشغّل غرف الغاز في معسكر تريبلينكا الواقع في بولندا الشرقيّة، وكان نصّ الحكم بمثابة مستند اتّهام تاريخي لا يستندُ إلى أيّ حقائق، وثائق أو مستندات، فيما عدا شهادات النّاجين، تماماً كما كانت الحال مع محاكمة آيخمان، مع فارق اعتراف آيخمان بجرائمه وهويّته الشخصيّة وإصرار دميانيوك على براءته من كلّ التهم المنسوبة إليه والهوية الشخصية المنسوبة إليه.

وربّما لو انتهج الادّعاء الإسرائيليّ نهجاً آخر في إدانة دميانيوك، لما كان من الممكن إطلاق سراحه لاحقاً وتبرئته على أساس الشكّ المعقول من قبل المحكمة العليا الإسرائيليّة في العام 1993 بعد ظهور وثائق سوفييتيّة تؤكّد على أنّ "إيفان الرهيب"، كان إيفان مارشينكو، وليس جون إيفان دميانيوك. ولكنّ الادّعاء الإسرائيليّ، والمنظومة القضائيّة الإسرائيليّة بأكملها، كانت بحاجة لإعدام "إيفان الرهيب"، بوصفِهِ عدوّاً لدوداً للشعب اليهوديّ، بوصفِه تجسيداً لآلة الشّر النازيّة الهائلّة التي حكمت على الشعب اليهوديّ بالإبادة؛ ولم يكن معنيّاً الادّعاء الإسرائيليّ بمحاكمة "جنديّ مشاة"، في هذه الآلة الضّخمة، بل كان معنيّاً بمحاكمة "تاريخيّة"، بإقامة "جلسة استماع للتاريخ"، وذلك ما أدّى إلى براءة دميانيوك لاحقاً في العام 1993، وعودته إلى الولايات المتّحدة، بعدما ثبَت أنّه ليسَ "إيفان الرهيب"، وذلك رغم أنّه لم يكن هناك أيّ شك في أنّه كان جزءاً من آلة الإبادة، وكان حاضراً في معسكرات الموت النازيّة كسوبيبور، فلوسنبرغ، مايدانيك وربّما تريبلينكا أيضاً؛ ولكنّ منذ أن كان الحكم الصادر بحقّه هو حكمٌ قائم على أساس أنّه "إيفان الرهيب"، تمّ إبطال هذا الحكم استناداً إلى وثائق تُشكِّك في أنّه "إيفان الرهيب"، ولم يكن ممكناً إعادة محاكمته استناداً إلى تهمٍ أخرى لا يمكن الطّعن فيها.

ملاحقة أخرى لمحاكمة أخيرة

في العام 2009 تمكّن مكتب التحقيقات الخاصّة بعد جولة أخرى من التحقيقات والمزيد من الأدلّة من إصدار قرارٍ بترحيل جون دميانيوك إلى ألمانيا، إذ كان هناك اقتناع تامّ لدى مكتب التحقيقات الخاصّة بأنّه ربّما ثمّة شكّ في أنّه هو نفسه "إيفان الرهيب"، لكن ليس هناك أيّ شك في أنّه كان حارساً في وحدة تراونيكي الأوكرانيّة النازية المتخصّصة في الإبادة، القتل والتعذيب الوحشيّ، ولم يكن هناك شكّ أيضاً في أنّه خدم في معسكر سوبيبور، في بولندا الشرقيّة، ومعسكرات اعتقالٍ أخرى. وفي الوقت الذي شعرت فيه عائلة دميانيوك أنّ كلّ شيء انتهى أخيراً وبلا رجعة، لم يكن مكتب التحقيقات قد انتهى تماماً من دميانيوك، وفي العام 2009 قاموا باعتقاله مرّة أخرى.

على الكاميرات ظهر دميانيوك محمولاً على كرسيّ متحرّك وفي وضعيّة صحّية تبدو سيئة جداً، وبمجرّد اعتقاله أسرعت العائلة لتقديم استئناف على قرار المحكمة بترحيله إلى ألمانيا على أساس أنّ ترحيله في هذه الوضعيّة الصحّية السيّئة سيُشكِّل تعذيباً وانتهاكاً قانونياً لحقوقه الفرديّة. تراجعت المحكمة، لكن مكتب التحقيقات الخاصّة كان لديه تسجيل فيديو يظهر دميانيوك قبل ساعاتٍ قليلة من اعتقاله يمشي بشكلٍ طبيعيّ ويقود سيّارته ويعود إلى البيت وليس على الإطلاق في وضعيّة سيّئة؛ كان ممثّلاً بارعاً وحتّى تلك اللحظة، تمكّن لـ30 عاماً من خداع الحكومتين الأميركية والإسرائيليّة.

عادت المحكمة أخيراً وأصدرت قراراً بترحيله إلى ألمانيا. وفي ميونيخ، نُسبت إليه تهم المشاركة في عملية قتل ما يزيد عن 28 ألف يهوديّ خلال الحرب العالميّة الثانية، وأصدرت حكماً سريعاً بإدانته وسجنه لمدّة خمس سنوات. وما جعلَ من حكمهِ نهائياً بخِلاف الحكم السابق، أنّ المحكمة الألمانيّة لم تسع لمحاكمة التاريخ، كما لم تسع لمحاكمة رموز تاريخيّة، بقدر ما تعاملت مع حقائق وأدلّة تُشير إلى مشاركته مشاركة فعّالة في عمليّات التعذيب وإجراءات الإبادة الجماعيّة في معسكرات الموت النازيّة، ولم يكن هناك أيّ جدالٍ حول ما إن كان في النّهاية بالفعل "إيفان الرّهيب" أم لا، ولكنّ فقط حقيقة أنّه كان هناك بالفعل، جنديّ مُشاة أم رمزا للوحشيّة، لم يكن مهمّاً.

السؤال المهمل في نهاية الوثائقيّ

كان السبب وراء فشَلِ المحكمة الإسرائيليّة في إدانة دميانيوك إصرارها على محاكمة التّاريخ، في حين دانته المحكمة الألمانيّة بوصفه جنديّ مُشاة، مُتعاوناً مع الآلة النازيّة الدمويّة، وتلك مثّلت سابقة. فقبل إدانة دميانيوك لم تكن المساعدة أو التحريض، أو أن تكون جزءاً من آلة القتل النازيّة، تمثِّلُ جريمة، وقد شكّل دميانيوك سابقة قضائيّة.

وكان هذا السّؤال المهمل من قبل صُنّاع الوثائقيّ؛ ما هي مسؤوليّة جنود المُشاة في أيّ عمليّة إبادة جماعيّة؟ فهم، في النّهاية، الأدوات الحاسمة لتنفيذ ونجاح أيّ عمليّة إبادة جماعيّة ومن دونهم لن تكون هناك إبادة جماعيّة وما كان ليكون هناك هولوكوست من الأصل. ولا يقلّ السّؤال أهميّة في سياق الاستعمار الصهيونيّ، أو أيّة عمليّة إبادة جماعيّة أخرى حصلت أو لا زالت تحصُلُ في التّاريخ أو الحاضر. يعتقد حفيد دميانيوك أنّ جدّه فعل ما توجّب عليه فعله لكي ينجو، وأنّ أيّ شخصٍ قد يجدُ نفسه في تلك الوضعيّة ربّما يفعل مثل ما فعله وأكثر. لا يعقل التّفكير أنّ آيخمان فقط كانَ مسؤولاً برفقة بعض المسؤولين النازيين الآخرين عن جرائم النازيّة، تماماً مثلما لا يعقل التّفكير أنّ أيّ مجموعة تتألّفُ من عشرات الأشخاص قد تكون مسؤولة، بشكلٍ حصريّ، عن أيّ إبادة جماعيّة؛ إنّها مسؤوليّة جماعيّة، ودميانيوك يُمثِّلُ تجسيداً مُصغّراً لمجموعات بشريّة هائلة اشتركت، بفعاليّة أو من غير فعاليّة، بكفاءة أو بعدم كفاءة، في إبادة مجموعات بشريّة هائلة أخرى، دون أيّ تفكيرٍ أو تردّد.

المصطلحات المستخدمة:

الموساد

المشهد الإسرائيلي

أحدث المقالات