تشهد العلاقات الإسرائيلية- الروسية حالة من المدّ والجزر تِبعاً للظروف الجديدة التي نتجت عن تدخل الأخيرة عسكرياً منذ العام 2015 في سورية في سبيل سعيها لاستعادة مكانتها ودورها التاريخي كقوة عظمى، وكلاعب مُهم في منطقة الشرق الأوسط، وهو ما فرض على المستويات السياسية والعسكرية والأمنية الإسرائيلية إيجاد آليات جديدة للتعامل مع "الزائر الجديد" للمنطقة؛ آليات تضمن لها الاحتفاظ بحرية الاعتداء العسكري على سورية وغيرها كجزء من سعيها المتواصل لامتلاك أدوات القوة في رسم المسار الإقليمي ومواجهة إيران وحلفائها في المنطقة التي ترى فيهم إسرائيل خطراً حقيقياً على "أمنها القومي"؛ هذا التصنيف نرى تجلّياته بوضوح في الاعتداءات الإسرائيلية المستمرة والمُتصاعدة على الأراضي السورية منذ اندلاع الأزمة فيها العام 2011.
وعلى الرغم من حالة الثبات النسبي للعلاقات الإسرائيلية- الروسية على مؤشّر التعاون والتنسيق، والذي يتجاوزه أحياناً ليصل إلى حدّ التحالف، إلّا أن السنوات الأخيرة شهدت تضارباً في المصالح والعديد من القضايا الخلافية بين الطرفين خصوصاً فيما يتعلّق بالأزمة السورية ومسألة التواجد الإيراني في سورية. لكن يبدو أن إدراك الطرفين بأن العلاقات الدولية تسودها البراغماتية والواقعية وتحتاج لقدر معين من التنازلات والمُقايضة حافظ على منع تدهور العلاقات ومنعَ اندلاع أية مواجهة مباشرة بينهما في سورية على الرغم من تضارب المصالح الكبير في العديد من القضايا، وهو الإدراك الذي نرى تجلّياته بوضوح في الاتفاق الضمني بين الطرفين على عدم الاتفاق لربّما بشأن التواجد الإيراني رغم التصريحات المُتكررة حول هذه القضية، والذي يُؤمّن لإسرائيل من بين أمور أخرى مساحة كبيرة للاعتداء على الأراضي السورية واستهداف القوات الإيرانية والموالية لإيران فيها بشرط ألّا يؤدّي ذلك للمساس بالقوات الروسية ويُلحق الأذى بمصالح روسيا المُباشرة هناك، وهو الادّعاء الذي ثبتت صحّته في أكثر من محطّة ولا سيما في حادثة إسقاط الطائرة الروسية العام 2018.
في هذا السياق، تأتي الدراسة الإسرائيلية الصادرة مؤخراً باللغة العبرية عن "معهد أبحاث الأمن القومي الإسرائيلي" للكاتب دانيئيل راكوف بعنوان "روسيا باعتبارها تحديا للأمن القومي الإسرائيلي، هل هي حقاً نمر من ورق؟" لتُلقي الضوء على طبيعة العلاقات الإسرائيلية- الروسية في ظل تضارب المصالح بين الطرفين في سورية، وتُعرّج على أهم القضايا الخلافية، وأبرز التحدّيات والمخاطر، وصولاً لمجموعة من التوصيات التي يرى ضرورة الأخذ بها من قِبَل المستويات السياسية والأمنية والعسكرية الإسرائيلية للحفاظ على المصالح الإسرائيلية وتجنُّب المواجهة العسكرية مع روسيا؛ هذه المحاور تأتي في سياق الإجابة على سؤال فيما إذا كانت روسيا قادرة بالفعل على أن تُشكّل تهديداً حقيقياً "للأمن القومي الإسرائيلي" وما هو المطلوب فعله إسرائيلياً.
وبالإضافة لأهمية الدراسة النابعة من أهمية موضوع العلاقات الإسرائيلية- الروسية في ضوء الأزمة السورية، وهو السبب الذي دفعنا لاستعراض هذه الدراسة ليتسنّى للقارئ والباحث العربي الاطّلاع والتعرّف على وجهة النظر الإسرائيلية من هذا الملف، تزداد الدراسة أهمية كونها صادرة عن أحد أفراد "النخبة العسكرية" وصاحب تجربة طويلة في "شعبة الاستخبارات الإسرائيلية" لتُتيح المجال للتعرّف على الجهد البحثي والأكاديمي المُجنّد بطبيعته المبذول في هذا الجانب من جهة، ولفهم العقلية الإسرائيلية في إدارة القضايا المُختلفة المحكومة بمنظور عسكري- أمني بحت كحالة طبيعية لدولة محكومة بالنزعة العسكرية والأمنية وأسيرة لها من جهةٍ أخرى.
سنقوم باستعراض أهم ما ورد في هذه الدراسة، مع أهمية الإشارة إلى أن الأفكار المطروحة أدناه بالإضافة إلى المُصطلحات المًستخدمة تُعبّر عن وجهة نظر كاتب الدراسة نفسه.
مقدمة
ازدادت البيئة الاستراتيجية لإسرائيل تعقيداً منذ عودة الدور القيادي لروسيا في الشرق الأوسط والذي نتج عن تدخلها العسكري في سورية منذ أيلول 2015، وهو الأمر الذي يُعرّض إسرائيل لمزيج من التهديدات والفرص على المستوى الإقليمي أولاً، وبين القوتين العظميين أميركا وروسيا ثانياً، حيث أصبح التحدّي الرئيس الذي يواجه إسرائيل في سياق التواجد الروسي في سورية هو التوتر الذي يواجه خيارات إسرائيل؛ بين الحفاظ على الشراكة الاستراتيجية مع الولايات المتحدة، والرغبة في تحقيق مصالح إقليمية ملموسة تتطلّب التقارب مع موسكو التي يُنظر لها في واشنطن بأنها منافس لدود.
ومع ذلك، فإن النخبة السياسية والأمنية الإسرائيلية لم تستطِع أن تُحدّد بعد ما إذا كانت روسيا هي فعلاً "نمر من ورق" أو "مُتنمّر في الجوار" لا داعي للقلق منه - وهو الافتراض الذي يزداد واقعية بعد مُقارنة الاقتصاد الروسي باقتصادات كبرى مثل أميركا والصين والاتحاد الأوروبي- أم أنها فعلاً قوة حقيقية قادرة على تحدّي الأمن القومي الإسرائيلي بشكل فعلي. وقد شهدت الأشهر الأخيرة تساؤلات فيما إذا كانت الدور الروسي في المنطقة سيتراجع أو يزداد قوةً في أعقاب الانتشار الكبير لجائحة كورونا وكيف سيؤثّر ذلك على إسرائيل؟
إسرائيل في غابة القوى المُتشابكة
يشتدُّ الحوار السياسي- الأمني الإسرائيلي مع روسيا في الوقت الذي تتدهور علاقة الأخيرة مع الغرب، وخاصة مع الولايات المتحدة؛ حيث تُعرّف روسيا بالنسبة للأخيرة بأنها تحدٍّ كبير للأمن القومي الأميركي (الثاني بعد الصين) وتزداد العقوبات المفروضة عليها مع الوقت، ما يُصعّب المهمة على الدول في الحفاظ على قنوات حوار مفتوحة معها، وهو الأمر الذي نرى تجلّياته في النزاع الساخن بين الكونغرس وإدارة ترامب. ويظهر هذا التناقض بين القوتين في الشرق الأوسط بشكلٍ واضح؛ حيث تجد روسيا وأميركا صعوبة في التعاون حول مصالح مشتركة وملموسة في المنطقة بسبب انعدام الثقة، ناهيك عن التخوّف الأميركي من أن أي تسوية إقليمية قد تمنح روسيا دوراً ونفوذاً غير مرغوب فيه على المستوى الدولي.
تعرّضت العلاقات الإسرائيلية الوثيقة مع روسيا لانتقادات من قِبَل حلفائها في الولايات المتحدة وأوروبا، فهم لا يُخفون انزعاجهم من قيام إسرائيل، وبنيامين نتنياهو شخصياً، بإضفاء الشرعية على روسيا ونشاطاتها من خلال المكالمات الهاتفية واللقاءات المتكرّرة مع فلاديمير بوتين. فإسرائيل تُعرب عن امتنانها دوماً للجيش الأحمر (السوفييتي) الذي ساهم في تحرير معسكرات الإبادة في أوروبا الشرقية خلال الحرب العالمية الثانية وهو يظهر بشكل علني في تقديرها لروسيا وجيشها بوصفهم ورثة للجيش الأحمر، وهو الأمر الذي يتسبّب في انتقاد إسرائيل المُتهمة هنا بمساعدة روسيا على تقديم خطاب سياسي تعتبره دول أوروبا الشرقية بمثابة تقويض لسيادتها، وقد تعزّزت هذه الانتقادات بشكل خاص بعد ظهور نتنياهو في موكب النصر في الميدان الأحمر في موسكو 2018 وزيارة بوتين لإسرائيل كجزء من منتدى الهولوكوست 2020.
يعتقد الروس أن لإسرائيل تأثيرا حاسما على استراتيجية الولايات المتحدة في سورية وفيما يتعلّق بإيران؛ ويسعون لإسرائيل لتقديم المساعدة في صياغة تفاهمات واتفاقيات سياسية مع واشنطن تضمن انسحابا كاملا للقوات الأميركية من سورية، وتسليما دوليا ببقاء بشار الأسد، وجمع التبرعات لإعادة إعمار سورية. في المُقابل، يُقدّم الروس ضمانات أمنية للأكراد وانسحابا تدريجيا للقوات الإيرانية من سورية. ومن الناحية الأخرى، هناك شكوك في الغرب بقدرة إسرائيل على جسْر الخلافات بين موسكو وواشنطن حتى في السياق الإقليمي الضيق؛ فعدم الثقة بين أميركا وروسيا بشكلٍ عام وتباين المواقف بشأن سورية بشكٍل خاص عميقان جداً، حتى وإن تم التوصل لاتفاق بحلول نهاية 2020 فسيكون من الصعوبة بمكان إحداث تغيير جوهري على الأرض في سورية.
وعلى الرغم من التعقيد الذي تم توضيحه سابقاً، ما زال بإمكان إسرائيل أن تفرض نفسها في وسط المواجهة الروسية- الغربية؛ فعلاقاتها مع الولايات المتحدة والدول الغربية أكبر من تلك القائمة مع روسيا، وهو الأمر الذي يتضح من خلال علاقات إسرائيل الأمنية والاقتصادية الواسعة مع الولايات المتحدة والاتحاد الأوروبي والتي تُعتبر أكثر أهمية بالنسبة لإسرائيل التي توسّعت علاقاتها بروسيا في السنوات الأخيرة على المستويين الرمزي والاقتصادي فقط، حيث لا زالت هناك حواجز حقيقية في التعاون الأمني والتكنولوجي حتى الآن. ففي اللحظات التي تُجبر فيها إسرائيل على الاختيار بين موسكو وواشنطن فإنها تختار في نهاية المطاف واشنطن وهو ما تجلّى بوضوح في قضية تسليم المُخترق الروسي بوركوف للولايات المتحدة في نهاية العام 2019، مع أهمية الإشارة إلى تفهُّم موسكو لذلك وتحاول ألّا تضع إسرائيل في مواقف تُجبرها على الاختيار لكي تُظهر حدود تأثير ونفوذ روسيا بشكل علني. وفي الوقت الحالي نرى حضوراً متزايداً للدور الصيني العسكري والسياسي في المنطقة مع تجنّب منافسة الولايات المتحدة وروسيا، وعلى الرغم من أن هناك صعوبة للادّعاء بوجود تعاون صيني- روسي مشترك يرتقي لحدّ الاتفاق على تقويض الدور الأميركي في المنطقة، إلّا أن هذا السيناريو قد يكون مُمكناً في المستقبل ومن شأنه أن يحدّ من حرية إسرائيل في العمل وتحقيق مصالحها في المنطقة.
روسيا على المستوى الإقليمي: عصر الأصدقاء- الأعداء
بعد حوالي خمس سنوات من التدخل الروسي في سورية يُمكن القول بأن روسيا تمكّنت من تحقيق إنجازات مهمة بالنسبة لها في المنطقة؛ انتصار عسكري تكتيكي في سورية (تأمين بقاء بشار الأسد وإعادة معظم المناطق إلى سيطرته مع ضمان تأجُّر/ امتلاك لنصف قرن أو أكثر لقاعدتين عسكريتين دائمتين في سورية)، التحوّل للاعب فاعل في الشؤون الإقليمية، توثيق علاقاتها بدول المنطقة (بناء علاقات سياسية، تعاون اقتصادي واستراتيجي، القتال المشترك، تنسيق أسعار النفط، بالإضافة إلى امتلاك أدوات ضغط أخرى مهمة). وخلافاً لما هو سائد حول "غرق الجيش الروسي في الوحل السوري" فإن التواجد الروسي غير مُكلف مُقارنةً بالإنجازات التي يُحقّقها، وهو ما تُصرّح به موسكو باستمرار.
بالنسبة لإسرائيل، تُعتبر حرية العمل العسكري على الجبهة الشمالية وإمكانية الحصول على المساعدة الروسية لمنع التموضع الإيراني في سورية أهم قضية فيما يتعلّق بالتواجد الروسي في سورية، فلم تستطِع إسرائيل تجاهل "جارتها الجديدة" واختارت تعزيز الحوار وإيجاد آلية عسكرية معينة لمنع الصدام أو الاحتكاك العسكري معها على الرغم من مخاوفها بأن التواجد الروسي من شأنه تعزيز معسكر "أعداء" إسرائيل بقيادة إيران. في المحصّلة، إسرائيل وروسيا اتفقتا على عدم الاتفاق بشأن إيران وسورية؛ بالتزامن مع اتفاق ضمني بمنع وقوع مواجهة عسكرية مباشرة بينهما. وفي غضون خمس سنوات، يُمكن الاستنتاج بأن نهج الحوار مع موسكو قد أتى بثماره لإسرائيل؛ فعلى الرغم من المد والجزر الذي تشهده العلاقة بين الفينة والأخرى إلّا أن إسرائيل استطاعت الحفاظ على حرية عمل جيشها بشكلٍ عام في سورية، مع استمرار تجنّب روسيا للمواجهة المباشرة مع إسرائيل، فهي لا تتعامل معها كخصم وتقدّر علاقتها مع إسرائيل خارج الساحة السورية وتنأى بنفسها عن التدخل في الصراع الإسرائيلي- الإيراني.
ومن ناحية أخرى، تبذل روسيا جهوداً كبيرة لمنع إسرائيل من تجاهل مصالحها وفي مقدّمتها بناء شرعية للهيمنة الروسية في سورية كقاعدة لتقوية نفوذها الإقليمي وقوتها وحماية قواتها المتواجدة هناك، ولهذا السبب نشهد انتقاداً روسياً شديداً لتحرّكات إسرائيل العسكرية في سورية بين الفينة والأخرى لأسباب كثيرة نذكر منها:
1- استياء وزارة الدفاع الروسية من مستوى تنسيق الهجمات من قِبل الجيش الإسرائيلي.
2- الخوف من الحوادث العملياتية التي قد تُلحق الأذى بالجنود الروس على غرار حادثة إسقاط السوريين لطائرة روسية في أيلول 2018.
3- استمرار إحراج الروس أمام شركائهم في الحرب السورية- الإيرانيون والذين يتهمون موسكو بالتنسيق مع إسرائيل أثناء مهاجمة الأخيرة لقواتها والقوات الموالية لها في سورية.
4- الإضرار بسمعة منظومة الأسلحة الروسية المتواجدة بأيدي الجيش السوري والتي يتم تدميرها من قِبَل الجيش الإسرائيلي.
يُسهم التعقيد الذي تتّسمُ به العلاقات الروسية- الإيرانية في إعطاء إسرائيل هامش للمناورة مع موسكو على الرغم من أن الطرفين شريكان في الحدّ من النفوذ الأميركي في المنطقة والحفاظ على حكم بشار الأسد في سورية، وهو التعقيد الناتج عن الاختلافات التاريخية والثقافية، بالإضافة إلى الرغبة الروسية في الحفاظ على مصالحها وعلاقاتها مع الدول السنيّة ومع إسرائيل. ورغم أهمية ذلك؛ لا بدّ لإسرائيل من أن تسأل نفسها جيداً عن الدور الذي سيلعبه الروس في حالة الطوارئ؛ أي تلك الحالة التي قد تتطور فيها المواجهة مع الإيرانيين لتصعيد واسع النطاق أو حتى لحرب. فعلى الرغم من أهمية الافتراض القائل بأن مصلحة روسيا تُجبرها على إنهاء التصعيد ومنع تطوّره لحرب واسعة بشكل سريع؛ إلّا أنها قد تتحدّى إسرائيل في الوقت الذي تتضارب فيها مصالح البلدين أو حتى في حالة إلحاق أذى غير مقصود بالقوات الروسية هناك.
نموذج النفوذ الروسي في الشرق الأوسط
إن النفوذ الروسي في الشرق الأوسط مطلوب للتغلّب على قيود قوتها الاقتصادية، لذلك نراها تختار نماذج تنافسية غير متكافئة، عبر السعي للانخراط في عقود ضخمة مع دول المنطقة في القطاعات ذات الأهمية الاستراتيجية على المستوى الوطني لكل دولة، وهو ما سيمنحها أدوات ضغط مُستقبلية على هذه الدول. وتُحاول روسيا الاستفادة من مزاياها النسبية في هذا التوجّه من قبيل بيع الأسلحة، بناء محطات الطاقة النووية، الاندماج في مشاريع الطاقة (مع التركيز على النفط والغاز)، وتوفير المنتجات الزراعية، وكلّ ذلك له تداعيات على المصالح الأمنية الإسرائيلية على النحو التالي:
1- تقويض التفوق العسكري الإسرائيلي في المنطقة عبر إعادة تأهيل الجيش السوري ومبيعات الأسلحة لإيران بعد انتهاء حظر الأسلحة عليها وكذلك مبيعات الأسلحة للجيش المصري.
2- توفّر روسيا بديلا للولايات المتحدة في مساعدة دول المنطقة ببناء المفاعلات النووية السلمية حيث تقوم روسيا حالياً ببناء عشرة مفاعلات نووية في الشرق الأوسط (اثنان في إيران وأربعة في مصر وأربعة في تركيا).
3- تضارب المصالح بين إسرائيل وروسيا فيما يتعلّق بصادرات الغاز الإسرائيلية لأوروبا؛ حيث تُعتبر روسيا المورّد الرئيس لها.
4- أخيراً قدرة روسيا على التأثير على الأمن الغذائي لبعض دول المنطقة بما فيها إسرائيل بعد نمو القطاع الزراعي في روسيا (بفعل العقوبات الغربية عليها) وتحوّلها لأكبر مُصدّر للقمح والحبوب في العالم ولبعض دول المنطقة.
كيف ستؤثّر أزمة كورونا على مكانة روسيا في الشرق الأوسط؟
إن استمرار الزيادة في أعداد المصابين بفيروس كورونا في روسيا، بالإضافة إلى الاضطراب في الأسواق الذي حصل في أعقاب معركة أسعار النفط بين روسيا والسعودية، وكذلك الاتفاق المتجدّد لخفض إنتاج النفط في إطار أوبك والذي تمّ التوصل إليه بمساعدة الولايات المتحدة، كلّها مؤشّرات على احتمالية أن تعاني روسيا من تأثيرات اقتصادية سلبية مُقارنةً بدول الغرب، وبالتالي هناك صعوبة لتقدير التأثيرات والخسائر الفورية للأزمة ناهيك عن آثارها طويلة المدى. وعلى الرغم ممّا سبق، إلّا أنه من الممكن الادّعاء أنه طالما استمرّ وجود بوتين وتولّيه لزمام السلطة في موسكو فلن يكون هناك أي تغيير في استراتيجية روسيا في التعامل مع المنطقة ولا على أولوياتها بالنسبة للشرق الأوسط على الرغم من ميلها أكثر من غيرها للتأثُّر بالأزمات الاقتصادية لكن جهوزيتها، على وجه التحديد من ناحية الاقتصاد الكلي، أفضل من غالبية الدول لامتصاص الصدمات. والاعتماد الكبير لاقتصادها على أسعار النفط والغاز سيدفعها للانخراط في المنطقة بشكل أكبر في اليوم التالي لكورونا؛ فإن قرب روسيا من المنطقة يعني فعالية عالية من حيث التكلفة والعائد من الانخراط في شؤون الشرق الأوسط.
نظرة للأمام
سيستمر الشرق الأوسط في كونه ساحة مُريحة لروسيا في محاولتها لإثبات عالمية قوتها ومكانتها. فقربها الجغرافي والميل الأميركي لتقليص تدخلاتها في المنطقة بالإضافة إلى نسج علاقات ومصالح مشتركة مع كل دولة من دول المنطقة سيُتيح لها ممارسة سياسة أكثر نشاطاً وفعالية على الرغم من القيود الاقتصادية ونتائج أزمة كورونا المُحتملة.
وعلى الرغم من أهمية الاستفادة من التاريخ، واستخلاص العِبَر من الحرب الباردة والعداء بين روسيا وإسرائيل في القرن الماضي، إلا أنه من الضروري التأكيد على أن الوضع الحالي مُختلف عن السابق؛ فالمنافسة الروسية- الأميركية ليست أيديولوجية، وروسيا لا ترى إسرائيل كخصم بل كشريك.
ولقد أظهرت روسيا خلال السنوات الأخيرة (وخاصة في أزمة إسقاط الطائرة الروسية في سورية، العام 2018) قُدرتها على تحدّي المصالح الإسرائيلية بشكلٍ كبير، في المُقابل ثبت بأنّ الحوار مع روسيا والمناورة السياسية بينها وبين الدول الغربية قادر على تقليل المخاطر التي تتعرّض لها إسرائيل وإنبات الفرص. ليس هناك بديل استراتيجي أكثر نفعاً بالنسبة لإسرائيل سوى الاعتماد على الولايات المتحدة، لكن في ظروف التحدّيات الأمنية الإقليمية المُتعدّدة من الضروري ويجب على إسرائيل أن تعمل على:
1- الحفاظ على الإنجازات التي تم تحقيقها خلال السنوات الماضية بالحوار مع موسكو والذي يحدُّ من القدرة الروسية في التوسّع والنفوذ نسبياً مع الاحتفاظ بالتعاون العرضي والمستمر معها.
2- تعزيز آليات الحوار الشامل مع موسكو دون مستوى القيادة؛ كي لا تكون العلاقات محكومة بمصير الأشخاص، بالإضافة لتقليل الأثمان التي قد تُطلب لحل الخلافات على مستوى القيادة.
3- توسيع العمل ضد إيران في المنطقة الشمالية يجب أن يُرافقه حذر إسرائيلي من الإضرار بالمصالح أو القوات الروسية المتواجدة هناك، أو تلك التحركات التي يُنظر لها على أنها محاولة للإطاحة بنظام الأسد، كل هذه القضايا قد تقود روسيا للضغط على إسرائيل بشكل قد يكون أكثر شدّة مما حدث خلال حادثة إسقاط الطائرة الروسية 2018.
4- على إسرائيل أن تستعد في المستقبل لسيناريو تنافس أكبر بين القوى الكُبرى في الشرق الأوسط؛ خاصة إذا ما تم دفع الصين بفعل الضغط الأميركي المزدوج على بكين وموسكو إلى دور أكثر نشاطاً في المنطقة يستلزم التعاون مع روسيا لتقويض الدور الأميركي.
5- إصلاح الآليات المؤسساتية الدولانية والأكاديمية لتكون قادرة على التعرّف على روسيا وبناء معرفة عنها وتطوير أدوات سياسية ومعرفية للتعامل معها، بهدف تقليص أدوات الضغط التي تمتلكها والاستفادة من قوتها لتحقيق المصالح الإسرائيلية.
إجمالاً، سعت الدراسة إلى إبراز المخاطر الكامنة في الاحتكاك أو الصدام مع روسيا. فكاتب الدراسة، أي راكوف، يعتقد أن آلية الحوار هي الأكثر فاعلية للتعامل مع الوجود الروسي في المنطقة والذي أصبح واقعاً لا يُمكن تجاهله، وهو الوجود الذي سيتعزّز في اليوم التالي لأزمة كورونا كما تدّعي الدراسة، الأمر الذي يفرض على إسرائيل إيجاد آليات جديدة أُخرى للتعامل معه والاستفادة منه لتحقيق مصالحها في المنطقة دون أن يؤدّي ذلك لمواجهة عسكرية مباشرة مع روسيا، ودون أن يؤثّر بشكلٍ سلبيّ على علاقتها بالولايات المُتحدة والاتحاد الأوروبي في الوقت نفسه. وعليها، أي إسرائيل، أن تكون مُستعدة أيضاً للتعامل مع سيناريو تعاون روسي-صيني مُحتمل في المُستقبل للحدّ من النفوذ الأميركي في المنطقة. وبناءً عليه، تأتي دعوة راكوف للمستويات الأمنية والسياسية والعسكرية الإسرائيلية لأن تكون جاهزة للعمل بحذر ضمن "بيئة إقليمية" مُتشابكة ومُعقّدة بل ومُتضاربة المصالح في المُستقبل تطوّعها ضمن رؤية استراتيجية حذرة وواقعية لخدمة مصالح إسرائيل ولضمان "أمنها القومي" الذي يُحدّد وفق منظورها هي، وليس وفق منظور غيرها.