تناولت دراسات وأبحاث مُختلفة موضوع الدعم الأميركي لإسرائيل على المستويات كافة بالقراءة والتحليل، وحاول معظمها البحث في الجذور والأهداف والدلالات، لتُجمع غالبيتها على أن هذا الدعم كان له الأثر البالغ في شكل إسرائيل اليوم وطبيعة قوّتها العسكرية والأمنية والتكنولوجية بعد أن خاضت الأخيرة سلسلة من الحروب العدائية ضد الدول العربية المحيطة، وضد الفلسطينيين بشكل مستمر حتى يومنا هذا. وممّا لا شكّ فيه أن هذا الدعم قد أحدَث فارقاً جوهرياً في قوة هذا الكيان الذي خُلق في الشرق الأوسط، خاصة في المجالين الأمني والعسكري، وهو الأمر الذي ساهم بشكل كبير في رسم طبيعة ومخرجات الحروب العربية- الإسرائيلية وتحديد مسار الصراع على مدر عقود طويلة، لا سيما الفترة التي أعقَبتْ حرب حزيران 1967.
وساهم الدعم الأميركي لأمن إسرائيل، بالإضافة لعوامل أخرى بعضها ذاتي يتعلّق بإسرائيل نفسها، بمنح هذه الأخيرة التفوّق الكبير والواضح على الفلسطينيين وغالبية الدول العربية سواء تلك القريبة أو البعيدة عن فلسطين في المجالات المُختلفة وفي مُقدّمتها المجالين الأمني والعسكري.
وفي هذا السياق تأتي الدراسة الصادرة باللغة العبرية عن "معهد أبحاث الأمن القومي" في جامعة تل أبيب للباحث إيتان جلبوع بعنوان "الدعم الأميركي لأمن إسرائيل"، لتُقدّم عرضاً عاماً وشاملاً من منظور منهجي وتاريخي لمُساهمة الولايات المتحدة في أمن إسرائيل على مدار العقود الماضية انطلاقاً من سنوات الستينيات، مع الإشارة إلى أن مفهوم الأمن هُنا يحيل للمعنى الواسع والشامل لمصطلح الأمن والذي يتضمّن كافة الجوانب التي تتعلّق بالأمن القومي الإسرائيلي والذي لا يقتصر على الجانبين العسكري والأمني فقط بحسب تعريف إسرائيل لأمنها القومي، مع أهمية الإشارة أيضاً إلى أن المُعطيات والتحليلات والآراء الواردة في هذا النص مصدرها كاتب هذه الدراسة نفسه.
تأتي هذه الدراسة في الوقت الذي تبدو فيه العلاقات الأميركية- الإسرائيلية في أحسن حال خاصة منذ وصول إدارة دونالد ترامب للبيت الأبيض، حيثُ أظهر هذا الأخير تقدّماً في موقفه المُعادي للفلسطينيين على الموقف الإسرائيلي المُعادي بطبعه، لكن المُتردّد في بعض القضايا، وتماهى إلى حدٍ كبير مع إسرائيل وسياساتها ومخطّطاتها الاستعمارية بشكل لم نلحظه في عهد الإدارات الأميركية السابقة على الرغم من دعمها المُطلق والمُستمر لإسرائيل حتى عند تلك الإدارات التي أبدَت ظاهرياً "اعتدالاً" في موقفها من الصراع العربي- الإسرائيلي ورغبتها في تحقيق "السلام" بين الطرفين.
تنقسم الدراسة إلى مجموعة محاور مركزية، تخدم مُجتمعة غاية الدراسة المُتمثّلة في تقديم عرض شامل وعام للدعم الأميركي لأمن إسرائيل؛ حيث يأتي المحور الأول بعنوان المساعدات والتنسيق العسكري، يليه محور إحباط التهديد النووي، يليه محور المُساعدات الدبلوماسية، وأخيراً محور الوساطة الأميركية في الصراع العربي- الإسرائيلي.
العلاقات الإسرائيلية- الأميركية.. الجذور والأسس
ينطلق الكاتب من افتراض مفاده أن كلّاً من الولايات المُتحدة وإسرائيل تُسهمان في أمن بعضهما البعض، من الناحيتين العسكرية والاستخباراتية، لكن بشكل غير مُتكافئ؛ فمُساهمة الولايات المتحدة الأميركية أكثر أهمية وحيوية لإسرائيل من مساهمة إسرائيل في أمن الولايات المُتحدة. وتبرز هذه المُساهمة الكبيرة في المجالات ذات الصلة بالأمن القومي، بما في ذلك المُساعدات العسكرية والاقتصادية، إمدادات الأسلحة الحديثة، التطوير المُشترك للأسلحة المتطورة، التعاون الاستخباراتي، التدابير المُضادّة للتهديدات النووية، المساعدة الدبلوماسية في المنظّمات والمؤسسات الدولية بشكل رئيسي، وجهود "الوساطة" في ملف الصراع العربي- الإسرائيلي.
تتطرّق الدراسة إلى الأُسس التي ارتكزت عليها، وما تزال، مُساهمة الولايات المتحدة في أمن إسرائيل، وفي مُقدّمتها العلاقات الخاصة التي تطورت بين البلدين منذ قيام إسرائيل. وهذه العلاقات تنقسم لعوامل صلبة، كما يُطلق عليها الكاتب، كالمصالح الاستراتيجية، وعوامل لينة كالقيم والتاريخ المُشترك والمُتماثل للشعبين الأميركي والإسرائيلي والجذور اليهودية المسيحية للمجتمع الأميركي. وبالنسبة للأولى، أي المصالح الاستراتيجية، فقد تعزّزت بفعل الحرب الباردة التي شهدت انحياز الدول العربية الثورية مثل مصر وسورية والعراق إلى جانب الكُتلة السوفييتية مُقابل انحياز إسرائيل إلى جانب الولايات المتحدة الأميركية، وما عزّز من ذلك هو الانتصارات الساحقة لإسرائيل في حربي 1956 و1967 على الحلفاء العرب التابعين للمعسكر السوفييتي الأمر الذي أكسبها مكانة في نظر الولايات المُتحدّة التي زادت بشكل كبير من اهتمامها وتمويلها الاستراتيجي للدولة الوليدة والذي سُرعان ما تراجع بعد تفكُّك الاتحاد السوفييتي عام 1989، لكنه عاد لينمو ويتجدّد خلال عقد التسعينيات الذي شهد تطور وتشكُّل مصالح استراتيجية أُخرى مُماثلة في مواجهة عناصر مُعادية من نوع مُختلف؛ أحداث 11 سبتمبر وما تبعها من نزع لشرعية عن النضال الفلسطيني ووضعه في خانة "الإرهاب العالمي"، بالإضافة إلى تنامي خطر "التنظيمات الإسلامية المتطرّفة" في بداية العقد الثاني من الألفية الثالثة وهي الأحداث التي تطلّبت، من وجهتي النظر الإسرائيلية والأميركية، تعاوناً مُشتركاً لمواجهتها والقضاء عليها.
المساعدات والتنسيق العسكري
يتمثّل الهدف الرئيس من الدعم الأميركي لأمن إسرائيل في حمايتها من "العدوان العربي". وقد كان هذا الدعم محدوداً ويتركّز أكثر في "الجوانب الإنسانية" حتى العام 1962 الذي شهد تطوّراً نوعياً تمثّل في تزويد إسرائيل بأسلحة دفاعية بحتة (صواريخ هوك المُضادّة للطائرات)، ومن ثم موافقة الولايات المُتحدة على تزويد إسرائيل بالأسلحة الحديثة من طائرات مُقاتلة ودبابات في العام 1964، أمّا القفزة الكبيرة في هذا الدعم فقد جاءت في أعقاب حرب 1973 ونتائجها لإعادة ملء المستودعات الفارغة وللتعويض عن فقدان العُمق الاستراتيجي ونقل قواعد الجيش الإسرائيلي من سيناء بعد توقيع اتفاقية كامب ديفيد 1978، ومنذ ذلك الحين تمثّل الهدف من الدعم الأميركي في تجهيز إسرائيل وتطوير صناعاتها الدفاعية بطريقة تُمكّنها من التعامل مع أي تحالف للجيوش العربية "المُعادية".
وقد شهد عقد التسعينيات من القرن الماضي تطوراً نوعياً في طبيعة العلاقة الإسرائيلية-الأميركية والدعم الذي تُقدّمه الأخيرة لأمن إسرائيل، حيث أصبح هذا الدعم مُتضمّناً في مذكّرة تفاهم مُوقّعة بين الطرفين، واحتاج ذلك إلى موافقة الكونغرس بشكل سنوي، كون المساعدات الخارجية تندرج ضمن الميزانية العامة، الأمر الذي أتاح المجال للولايات المتحدة الأميركية باستخدام هذا العامل للضغط على إسرائيل في مواضيع عدّة. ومنذ العام 2011 بلغت قيمة هذه المساعدات 3 مليارات دولار سنوياً، إلى أن تم توقيع أحدث مُذكرة تفاهم بين الطرفين في عهد الرئيس باراك أوباما بتاريخ 14 أيلول 2016 والتي حدّدت إطاراً إجمالياً للمساعدات بقيمة 38 مليار دولار للعقد الممتد بين الأعوام 2018-2028، على أن يتم تخصيص مبلغ 3.3 مليار دولار للمساعدات العسكرية كل عام، ونصف مليار دولار للدفاع الصاروخي من المبلغ الإجمالي، الأمر الذي كان له الأثر الكبير في تحسين إسرائيل لقدراتها العسكرية والصاروخية الهجومية والدفاعية على حدٍ سواء.
وتُشير الدراسة إلى أن مُذكّرة التفاهم الأخيرة نصّت على إلغاء مبدأ تخصيص المساعدات المُقدّمة لشراء الأسلحة الأميركية بشكل تدريجي حتى عام 2024 إلى أن يتوقّف تماماً بحلول نهاية العقد الذي نصت عليه المُذكرة، وأتاحت للحكومة الإسرائيلية هامشاً كبيراً في إمكانية الحصول على أسلحة من شركات تصنيع وتطوير الأسلحة الإسرائيلية، وهو البند الذي قرّرت الولايات المُتحدة إيقافه، وبالتالي، يتعيّن على إسرائيل إنفاق مبالغ أكبر على المشتريات المحلية من ميزانيتها الخاصة، وإنشاء تعاون أو اندماج مع شركات الصناعة العسكرية الأميركية للمحافظة على إمكانية شراء الأسلحة من أموال المُساعدات وهو الأمر الذي بدأ فعلاً بالاتّساع منذ ذلك الوقت.
وتُشير الدراسة إلى مُساهمة إسرائيل في الصناعات الدفاعية الأميركية منذ أن منحتها إدارة ريغان العام 1987 مكانة حليف من خارج حلف الناتو يحق لها المُساهمة في تطوير الدفاعات الأميركية، بالإضافة إلى أن كليهما شريكان كاملان في تطوير منظومات الدفاع الصاروخي من حيث الإنتاج المُشترك ونقل التكنولوجيا وتطوير المنظومة الدفاعية، بدءاً من منظومة "القبّة الحديدية" قصيرة المدى وهي إسرائيلية الصُنع، والقصيرة والمتوسطة المدى، بالإضافة إلى ثلاثة أجيال من منظومة "السهم" الدفاعية طويلة المدى. مع أهمية الإشارة إلى أن كلا الجيشين يُحافظان على إقامة مناورات مُنتظمة لتعزيز قدراتهما الهجومية والدفاعية، بالإضافة إلى إدخال التكنولوجيا في الأجهزة والمعدات التي يستخدمها.
وبالرغم من كل ذلك، تُشير الدراسة إلى أن هذا الدعم المُقدّم لا يندرج ضمن إطار المُساعدات، بل هو استثمار أميركي يُحقّق أرباحاً ضخمة، كون هذه المبالغ يتم صرفها على شراء الأسلحة المُتطوّرة من شركات تصنيع الأسلحة الأميركية، بالإضافة إلى مُساهمة إسرائيل في تزويد الولايات المتحدة الأميركية بالمعلومات الاستخباراتية الحيوية بشكل مُنتظم، وتطوير الأسلحة الأحدث في العالم بشكل مشترك، بالإضافة إلى التعاون والتنسيق الكامل في مجالات الحرب الإلكترونية وإحباط الانتشار النووي وملفات أخرى عديدة.
وفيما يتعلّق بالموقف الأميركي الشعبي، فإن المساعدات الخارجية بشكلٍ عام لا تحظى بشعبية لدى الناخبين، حيث يُفضّل الناخب الأميركي إنفاق هذه الأموال على الصحة والتعليم والرعاية الاجتماعية والاحتياجات البيئية، لكن المُساعدات المُقدّمة لإسرائيل تبدو مقبولة وتحظى بشعبية عالية نسبياً، وتحصل على دعم الحزبين الجمهوري والديمقراطي منذ فترة طويلة، وفي المُقابل ترى إسرائيل بأن هذا يبدو منطقياً جداً إذا ما تم الأخذ بعين الاعتبار الخدمة والمساعدة التي تُقدّمها الأخيرة للولايات المُتحدة على كافة المستويات، وأن الانتقادات الموجّهة من قبل مُعارضي إسرائيل والتي تعتبر أن هذا الدعم مُبالغ فيه مبنية على أُسس غير منطقية.
إحباط التهديدات النووية
تُشير الدراسة إلى أن التهديد بإبادة إسرائيل من قِبل الدول العربية في خمسينات وستينيات القرن المُنصرم، بالإضافة إلى التهديد النووي الإيراني في العقود الأخيرة، تطلّبا رداً إسرائيلياً مناسباً على مستويين، الأول: بناء بنية تحتية نووية رادعة وغير خاضعة للضغط الأميركي أو لدول غيرها تقود في النهاية لتفكيكها أو تخفيفها، والثاني: إحباط محاولات الدول المُعادية لامتلاك السلاح النووي.
ولقد تمكّنت إسرائيل من امتلاك السلاح النووي خلال سنوات الخمسينيات ومطلع الستينيات من القرن المُنصرم، وحصلت على مُساعدة فرنسا في إنشاء معهد الأبحاث النووية في "ديمونا" على الرغم من محاولة إدارة جون كينيدي إيقاف البرنامج النووي الإسرائيلي لتعارضه مع السياسة الأميركية القاضية بمنع انتشار الأسلحة النووية، وهو السبب الذي دفعه حينها للموافقة على تزويد إسرائيل بالأسلحة الدفاعية الأميركية، في المُقابل، كان بن غوريون يُبدي استعداداً لإبطاء المشروع وليس لإلغائه ليتمكّن من الحصول على هذه الأسلحة وفي نفس الوقت يضمن استمرار المشروع النووي، الأمر الذي مكّن إسرائيل في نهاية المطاف من الحصول على الأسلحة الدفاعية وامتلاك السلاح النووي، وساهم في ذلك الموقف المُتفهّم والمتسامح الذي انتهجته الولايات المُتحدة الأميركية حيال النوايا الإسرائيلية من امتلاك السلاح النووي وعدم الضغط عليها للانضمام لمُعاهدة عدم انتشار الأسلحة النووية أو فتح مفاعل ديمونا أمام الرقابة الدولية بسبب التهديد العربي بإبادة إسرائيل، بالإضافة إلى عوامل أخرى مثل المحرقة ومحدودية الجغرافيا التي تقوم عليها "الدولة الوليدة".
وتبنّت إسرائيل عقيدة استراتيجية تقضي بعدم السماح لدولة "مُعادية" بامتلاك أسلحة نووية، خاصّة تلك التي تُهدّد بإبادتها (عقيدة بيغن). وقد تم اختبار هذه العقيدة أكثر من مرّة، بدءاً بالمفاعل النووي العراقي الذي تم تدميره بدون إخبار الولايات المتحدة بذلك، وهو الأمر الذي دفع الرئيس ريغان حينها لتجميد شحنة أسلحة أميركية كانت مُخصّصة لإسرائيل، لكن بشكل مُختلف تعاملت الولايات المتحدة الأميركية مع النشاط السوري في تسعينيات القرن المُنصرم والذي كان يهدف للحصول على السلاح النووي بمُساعدة كوريا الشمالية وتمكّنت من إحباطه بالفعل بالوسائل الدبلوماسية، ولاحقاً سمحت ودون أن تُعلن ذلك صراحةً، لإسرائيل بقصف المفاعل النووي السوري الذي كان قيد الانشاء في منطقة دير الزور العام 2006، ودون أن تُعقّب على ذلك سورية أو الولايات المتحدة الأميركية، وهذا ما تم كشفه بعد أكثر من عشر سنوات على قصف المفاعل، الأمر الذي يُوضّح طبيعة التعاون الأميركي- الإسرائيلي في إحباط حصول الدول "المُعادية" لإسرائيل على السلاح النووي، هذا التعاون الذي نشهد أبرز تجلّياته في الموقف الحالي من الملف النووي الإيراني بعد أن قرّر ترامب الانسحاب من الاتفاق النووي الإيراني الذي أُبرم العام 2016، وهو الاتفاق الذي لم يَرُق لإسرائيل منذ أن تم توقيعه بسبب مدته الزمنية (عشر سنوات) بالإضافة إلى احتوائه على عيوب واضحة؛ فهو لا ينصّ صراحة على وقف النشاط الصاروخي والتصنيع العسكري الإيراني، ومسائل أخرى كالتدخل الإيراني في العراق وسورية وغزة واليمن، وأن إيران لم تلتزم بالاتفاق كما أوضحت ذلك وثائق الأرشيف النووي التي أحضرها جهاز "الموساد" الإسرائيلي من طهران بحسب الرواية الإسرائيلية.
تحييد النشاط المُناهض لإسرائيل في المنظمات الدولية والوساطة في ملف الصراع العربي- الإسرائيلي
تُشير الدراسة إلى أن الفلسطينيين والعرب وبمساعدة دول في أوروبا والعالم الثالث تمكّنوا من تحويل المنظمات الدولية لساحة تحريض واسعة على إسرائيل وسياساتها المُختلفة في إطار الصراع مع الفلسطينيين، فمن أصل 202 قرار إدانة بحق دول مُختلفة اتخذتها الجمعية العامة للأُمم المتحدة في الفترة الواقعة ما بين الأعوام 2012-2019 تمّت إدانة إسرائيل بواقع 163 قرار أُحادي الجانب، أي ما نسبته 81% من مجموع قراراتها، وفي العام 2019 وحده اتُخذ 18 قراراً يُدين إسرائيل مُقابل قرار إدانة واحد بحق دول مثل سورية، إيران، وكوريا الشمالية، وهو الأمر الذي يوضح انحياز هذه المنظمات للفلسطينيين ويُظهر عداءها لإسرائيل، على حد تعبيرها.
بالإضافة إلى ذلك، يتصدّر مجلس حقوق الانسان التابع للأمم المتحدة قائمة المنظمات التي تُكّن العداء لإسرائيل، ومن الأمثلة الشهيرة على ذلك مناقشة المجلس تقرير غولدستون، الذي قُدّم للمجلس العام 2009 في أعقاب الحرب الإسرائيلية على قطاع غزة، واتّهامها بارتكاب جرائم حرب بالإضافة إلى الاستهداف المُتعمّد للمدنيين، وكان من المفروض أن يتحول التقرير إلى محكمة الجنايات الدولية بعد إقراره في مجلس الأمن، الأمر الذي أثار حفيظة إدارة أوباما حينها والتي انتقدته بشدّة ودعت للتصويت ضده في مجلس الأمن واستخدام حقّ النقض (الفيتو) لمنع وصوله للمحكمة تفادياً لإدانة إسرائيل بارتكاب جرائم حرب، وهو الموقف نفسه الذي عبّرت عنه إدارة أوباما مرّةً أخرى في أعقاب اللجنة التي شُكّلت في مجلس حقوق الانسان بعد الحرب الإسرائيلية على غزة العام 2014.
إن الموقف الأميركي المُنحاز لإسرائيل في المُنظمات الدولية يتمثّل في استخدام الفيتو ضد أي مشروع قرار لإدانة الأخيرة في مجلس الأمن ومعارضتها له، ودعوة حلفائها لانتهاج السياسة نفسها بحق أي قرار ضد إسرائيل في الأُمم المتحدة، وقطع الطريق أمام تحويل الملفات المُتعلّقة بإدانة إسرائيل لمحكمة الجنايات الدولية، واعتبار المحكمة غير شرعية وغير نزيهة وملوّثة بالفساد، كما وصفها جون بولتون ومايك بومبيو مؤخراً.
أمّا بالنسبة للوساطة الأميركية في الصراع العربي- الإسرائيلي، فقد تطلّعت الولايات المتحدة الأميركية منذ البداية للوصول إلى تسوية أو حل للصراع، كما تؤكد الدراسة، وهذا النهج بُني على جملة من الافتراضات أهمّها: وجود مصلحة استراتيجية أميركية في الحفاظ على أمن إسرائيل في العقود الأولى من وجودها، رغبتها في ألّا تقود الحروب في المنطقة إلى حرب كُبرى بينها وبين الاتحاد السوفييتي الذي انحازت له الدول الثورية في المنطقة العربية، وحاجتها للنفط العربي الذي لم تكن مُستعدّة لخسارته، وهو الأمر الذي دفعها لدعم قرار التقسيم العام 1947، بالإضافة إلى التدخل لإنهاء حرب الاستنزاف التي أعقبت حرب العام 1967 لاحقاً، أمّا التدخّل الأكبر فقد تجلّى في الاختراق الكبير الذي أحدثته في مُعادلة الصراع حينما تمكّنت من تحقيق السلام بين مصر و إسرائيل بعد حرب العام 1973، والذي انتقلت مصر بموجبه من الكتلة السوفييتية إلى الكتلة الأميركية، وأصبحت بذلك الوسيط الوحيد القادر على تحقيق التسوية بين الفلسطينيين والإسرائيليين خاصّة بعد انهيار الاتحاد السوفييتي، والمُساهمة الكبيرة في إبرام اتفاقية إعلان المبادئ المعروفة باتفاقية أوسلو في العام 1994 بعد مفاوضات غير مباشرة بين الطرفين برعاية أميركية، بالإضافة إلى الدور الذي لعبته الولايات المتحدة الأميركية في توقيع اتفاقية السلام الأردنية- الإسرائيلية.
وقد كان واضحاً الدور الأميركي المُنفرد في رعاية عملية "التسوية"، بدءاً من كامب ديفيد 2، مروراً بخارطة الطريق، ومؤتمر أنابوليس، وغيرها من المُبادرات التي كانت تهدف لتعزيز المفاوضات المباشرة بين الفلسطينيين والإسرائيليين وحشد الدعم الدولي لذلك، لكن في كل مرة كانت الولايات المتحدة الأميركية تنحاز للموقف الإسرائيلي حتى ولو لم تُعلن ذلك صراحة. وتدعي الدراسة أن الفلسطينيين رفضوا كل المُقترحات التي كانت تُقدّم لهم حتى تلك التي قدّم فيها إيهود أولمرت عرضاً سخياً لكنه قوبل بالرفض الفلسطيني، وهو الموقف نفسه الذي عبّر عنه الفلسطينيون إزاء محاولات أوباما الرامية لتحقيق "السلام" والذي يُعتبر أكثر الرؤساء الأميركيين تأييداً للفلسطينيين من وجهة نظر كاتب الدراسة، حيثُ تمكّن من إجبار نتنياهو على قبول "حل الدولتين" علناً وتجميد الاستيطان.
استمرّ الانفراد الأميركي في رعاية عملية "التسوية" إلى أن وصل دونالد ترامب، والذي يُعتبر أحد أكثر الرؤساء الأميركيين المؤيدين لإسرائيل، إلى البيت الأبيض، حيث عكس الأخير السياسة الأميركية المُتبعة لتحقيق "السلام" بين الفلسطينيين والإسرائيليين، وأحدث تغييراً جذرياً في الأسُس التي ستقوم عليها المفاوضات بين الطرفين من خلال طرح مُبادرته الشهيرة بـ "صفقة القرن" التي تُظهر انحيازاً واضحاً للموقف الإسرائيلي، بالإضافة إلى اعترافه بالقدس عاصمة لإسرائيل ونقل سفارة بلاده إليها، وقطع المساعدات عن السلطة الفلسطينية ووكالة غوث وتشغيل اللاجئين الفلسطينيين (الأونروا).
فضل الولايات المتحدة
تُقدّم الدراسة نظرة عامة وشاملة لمُساهمة الولايات المُتحدة الأميركية في أمن إسرائيل على كافة المستويات المذكورة سابقاً، وتُؤكّد في الوقت ذاته على أن هذه المُساهمة الحيوية كان لها الفضل الأكبر في التفوّق الإسرائيلي الواضح في المجالين العسكري والأمني، بالإضافة إلى منحها الغطاء السياسي في المنظمات الدولية ودعم وتبنّي مطالبها وشروطها في عملية "التسوية" بينها وبين الفلسطينيين والتي تنفرد الولايات المتحدة الأميركية في رعاية هذا الملف منذ تسعينيات القرن المُنصرم.
وعلى الرغم من الأهمية الكبيرة للمُعطيات التي أشارت إليها الدراسة من حيث التطرّق لتفاصيل الدعم الأميركي لإسرائيل وتبيان حقيقة الدور الذي لعبته الولايات المُتحدة الأميركية تاريخياً في دعمها على مدار العقود الماضية، فإنها تُظهر في الوقت نفسه زيف الرهان على الموقف الأميركي كوسيط نزيه وغير مُنحاز في الصراع العربي- الإسرائيلي ماضياً وحاضراً ومُستقبلاً، فالموقف يكاد يكون غير قابل للتغيير بسبب جملة من العوامل التي تم عرض بعضها في هذه الدراسة، مع أهميّة الإشارة أيضاً إلى أن الدراسة تبنّت وجهة النظر الإسرائيلية الرسمية من مسألة المفاوضات والموقف الفلسطيني منها خلال المحطّات التاريخية المُختلفة.