يمكن القول إن نشوة النصر التي عاشها رئيس الحكومة الإسرائيلية بنيامين نتنياهو لحظة إعلان الرئيس الأميركي دونالد ترامب في البيت الأبيض يوم 18/1/2020 عن خطته للسلام في الشرق الأوسط والتي أطلق عليها اسم "صفقة القرن"، والتي جاءت في ذروة صراع الأول على السلطة في جولة انتخابات ثالثة وحاسمة متوجة رزمة سخية وغير مسبوقة من الهدايا التي قدمها له الرئيس الأميركي تباعا (الاعتراف بضم القدس والجولان ونقل السفارة وإغلاق بعثة المنظمة في واشنطن ومحاصرة وكالة الأونروا... إلخ)، لن تكون عابرة وقصيرة فقط، بل قد تعتبر لحظة الهبوط بالعلاقات الأميركية- الإسرائيلية إلى مستوى غير مسبوق من التردي والانحطاط لتسجل على أنها بداية النهاية التي تصدع فيها الإجماع الأميركي فوق الحزبي على دعم إسرائيل.
كما أن التراجع الذي يمكن أن تشهده العلاقات الأميركية- الإسرائيلية في حال فوز المرشح الديمقراطي جو بايدن في جولة الانتخابات القادمة، بات يثير الكثير من إمارات القلق لدى النخب الإسرائيلية والأميركية وفي أوساط المنظمات اليهودية في الولايات المتحدة على حد سواء، بعد أن ذهب نتنياهو بعيدا في انحيازه للحزب الجمهوري وتماهيه مع إدارة ترامب وفريقه في البيت الأبيض على حساب العلاقة مع الحزب الديمقراطي، وبعد أن ساهم بشكل مثابر وفي أكثر من محطة في استبدال تأثير وقوة الصوت اليهودي بصوت المسيحيين الأفنجيليين كعامل حاسم في تقديم مصالح إسرائيل.
قد تكون خطوة تعيين غلعاد إردان سفيرا جديدا لإسرائيل في واشنطن بديلا عن السفير الإسرائيلي الحالي رون دريمر، وخطوة تسلم غابي أشكنازي لوزارة الخارجية، هما من الإشارات الأولى إلى محاولة إعادة التوازن للعلاقة مع الديمقراطيين وإخراجها من يد نتنياهو. ولكن وصول إردان إلى واشنطن لن يكون له تأثير جدي إذا لم يتزامن مع خطوة أخرى تتمثل في استقالة السفير الأميركي في إسرائيل ديفيد فريدمان عملا بالتقليد الأميركي عند تبدل إدارة ترامب وخروجها من البيت الأبيض، وفق ما يرى الصحافي يعقوب أحيمئير في مقالته التي نشرها في صحيفة "يسرائيل هيوم" المقربة من نتنياهو.
لقد ساد اعتقاد في إسرائيل (تبين أنه متسرع) بأن فترة ولاية الرئيس الأميركي السابق باراك أوباما والذي يحلو لنتنياهو أن يصفه بالرئيس المعادي، والتي استمرت ثماني سنوات، ستكون هي المؤشر الذي سجل التراجع الأكبر في تاريخ العلاقة بين حكومة إسرائيل والبيت الأبيض، إلى درجة دفعت أوباما إلى التذمر بشكل علني في مقابلات متلفزة من تدخلات نتنياهو في سياسته الخارجية، واصفا سلوك نتنياهو "بالتدخل غير المسبوق والذي لا يذكر مثله في شؤوننا الداخلية".
استطاع نتنياهو تحدي البيت الأبيض في الاتفاق النووي الإيراني، والذي سبقه صراع شخصي وسياسي بين الرجلين حول التهدئة في غزة ما بعد عدوان 2014، والتي جاءت بعد إهانات علنية وجهتها حكومة نتنياهو ونتنياهو شخصيا لوزير خارجية أوباما جون كيري عشية مساعيه لإعادة إطلاق المفاوضات مع السلطة الفلسطينية، والتي دفعت البيت الأبيض إلى إبراز صور وتسريب تصريحات تصف نتنياهو بغير المؤدب والعابث بالعلاقات الأميركية- الإسرائيلية.
لم تبق العلاقة المتوترة بين نتنياهو وأوباما وإدارته محصورة في الطواقم العليا وكبار الموظفين بل انعكست على الرأي العام الإسرائيلي والأميركي على حد سواء، حيث أظهر استطلاع للرأي أجرته صحيفة "جيروزاليم بوست" في العام 2014 أن نسبة 72% من الجمهور ترى التوتر بين أوباما ونتنياهو انعكس سلبا على علاقة البلدين، كما أظهر استطلاع آخر في 2017 أن 41% من الجمهور يرون أن امتناع الولايات المتحدة عن استخدام حق النقض (الفيتو) لمنع صدور قرار رقم 2334 والذي يدين الاستيطان الإسرائيلي في الأراضي المحتلة، سببه العلاقة المتوترة بين نتنياهو وأوباما.
توترات سابقة
إن حدوث توتر أو تفاوت في الرؤية والمصالح المباشرة بين إسرائيل وحليفتها الاستراتيجية الكبرى في العالم، الولايات المتحدة، ليس أمرا نادر الحدوث. فقد شهدت العلاقة التي تعد الأقرب والأكثر استراتيجية بين الدولة "الصغيرة والمحاطة بالتهديدات" وبين الدولة العظمى الأقوى عالميا، توترات وأزمات كثيرة وعابرة سرعان ما تم تداركها بحيث لم يجرؤ رئيس حكومة إسرائيلية قبل نتنياهو على العبث بها أو التدخل في الشؤون الأميركية الداخلية أو تغليب مصلحة حزب على آخر.
لعل آخر الأزمات ما قبل عهد نتنياهو حدثت بين رئيس الحكومة الإسرائيلية إسحق شامير والرئيس الأميركي الجمهوري جورج بوش الأب في العام 1990- 1991 عندما هاجم بوش الأب شامير واتهم منظمة "إيباك" بالعمل ضد مصالح بلاده، وقرر لأول مرة تجميد ضمانات القروض التي تقدمها بلاده لإسرائيل وذلك على خلفية أزمة الخليج الأولى والتحضير لمؤتمر مدريد للسلام، ليجد شامير أن التجاوب مع رغبة الحليف الأكبر وعدم خرق التقليد الراسخ في العلاقة بين الحليف الأكبر والحليف الأصغر هما الأضمن له لحفظ مصالح حكومته.
وجرب أريئيل شارون هو الآخر في لحظة دولية مشابهة لتلك التي اصطدم فيها شامير مع بوش الأب، أن يفرض أجندته على الإدارة الأميركية عشية التحضير لتشكيل تحالف عربي قبل حرب الخليج الثانية وما بعد أحداث 11 سبتمبر 2001، وهو ما عبر عنه في تصريحه الشهير في العام 2001 والذي حذر فيه من أن إسرائيل في 2011 لن تقبل بأن يكون مصيرها شبيهاً بمصير تشيكوسلوفاكيا التي تمت "التضحية" بها للنازية عشية الحرب العالمية الثانية. وسرعان ما وجد شارون بغريزته السياسية الحادة الآلية لكسب ود حليفه الأكبر ليدخل الرجلان (شارون وجورج بوش الابن) في علاقة توصف في الأدبيات الإسرائيلية على أنها الأكثر حميمية بين قادة البلدين والتي استطاع من خلالها ومقابل الانسحاب الأحادي من غزة أن ينتزع رسالة تعهد رسمية باسم الرئيس جورج بوش الابن يتعهد فيها "بأن يتم أخذ مصالح إسرائيل والتغيرات التي وقعت على الأرض (الكتل الاستيطانية) في الاعتبار عند عقد أي اتفاق سلام مستقبلي مع الفلسطينيين".
التخوف من عودة الديمقراطيين
حالياً تشارف ولاية الرئيس الأميركي دونالد ترامب الأولى على الانتهاء، ومعها تزداد التحذيرات من وصول العلاقات بين إسرائيل وحليفتها الاستراتيجية إلى أدنى مستوى، حيث دعا معهد أبحاث الأمن القومي إلى الاستعداد لإمكانية هزيمة ترامب وتسلم بايدن للحكم، معتبرا أن هناك أساساً جيدا للاعتقاد بأن ولاية بايدن ستشهد توترا مع نتنياهو في قضيتين أساسيتين، وهما الملف الإيراني وإمكانية العودة للاتفاق مع إيران، والملف الفلسطيني. وهذا التخوف من عودة الديمقراطيين غير مسبوق ولا يقتصر على إسرائيل، حيث قالت سفيرة الولايات المتحدة السابقة في الأمم المتحدة نيكي هيلي في تصريحات أمام الائتلاف اليهودي الجمهوري: "إذا جاء بايدن فإن كل التقدم الذي أحرزناه سيختفي، إنني أكره فكرة أن كل ما أحرزناه في كل ما يتعلق بإسرائيل في الشرق الأوسط والملف الإيراني سيختفي".
قابل هذه التصريحات خطاب بثته حملة بايدن عبر شبكات الإنترنت موجه للمسلمين في الولايات المتحدة استهله بحديث نبوي شريف وطلب الاستعانة بهم ودعوتهم لأن يكونوا جزءا من صناعة القرار في إدارته القادمة في حال فوزه في الانتخابات.
يعكس هذا القلق المتبادل بين أركان إدارة ترامب وحكومة نتنياهو وقاعدتها اليمينية التحول الكبير الذي شهدته العلاقات الأميركية- الإسرائيلية نحو الأسوأ، وهو يعكس تخلخل أحد أهم ركائز هذه العلاقة وثوابتها التاريخية القائمة على الحرص الشديد على بقاء إسرائيل ومصالحها في مرتبة فوق حزبية وضمن حالة الإجماع الداخلي وبعيدا عن الصراعات الداخلية.
ودفع مسلسل التدهور في العلاقة مع الحزب الديمقراطي ديفيد هوروفيتس، محرر "تايمز أوف إسرائيل"، إلى التعبير عن خشيته من أن وقوف إسرائيل بشكل سافر إلى جانب ترامب قد أضر بالعلاقة بشكل سيكون من التعذر إصلاحه، وأن إسرائيل فقدت ميزة كونها تتمتع بإجماع نادر في الساحة السياسية الأميركية وتقع خارج نطاق الاستقطاب الحزبي، لافتا إلى أنها تحولت إلى إسفين انتخابي بعد أن اعتبر ترامب "أن من يصوت من اليهود الأميركان للديمقراطيين يعتبر جاهلا وناكرا للجميل".
لم تخف نانسي بلوسي، رئيسة مجلس النواب عن الحزب الديمقراطي، امتعاضها من انحياز نتنياهو الواضح لإدارة ترامب والذي وصفه هوروفيتس "بأن نتنياهو يعمل لصالح ترامب" وقد عبرت عن ذلك بقولها "إن البلدين قادران على تجاوز ترامب ونتنياهو معا".
ربما يستطيع البلدان تجاوز نتنياهو ترامب، لكن هذا سيحتاج إلى رئيس لديه الرغبة وبصعوبة وفي مدى زمني طويل، كما وصف عملية ترميم العلاقات التي أفسدها نتنياهو أحد القادة الذي وُصف بأنه "الأكثر احتراما في الأوساط اليهودية في الولايات المتحدة".
ويمكن النظر إلى عدم مشاركة أي عضو في الحزب الديمقراطي في حفل نقل السفارة الأميركية إلى القدس والخوض في جدل الضم وإعلان بايدن معارضته لخطة نتنياهو التي يدعمها ترامب وفريقه، على أنها الأمثلة الأبرز على تحول إسرائيل من قضية إجماع وتحالف فوق حزبي إلى قضية حزبية ومادة مناكفة بين الحزبين، ومع ذلك فهي لا تعتبر الذروة التي يمكن اعتبارها اللحظة الحاسمة ولا يمكن العودة لما قبلها كما في قضية عدم السماح لعضوتي الكونغرس المسلمتين عن الحزب الديمقراطي إلهان عمر ورشيدة طليب من دخول إسرائيل. فلقد اعتبر الحزب الديمقراطي القرار بمثابة انصياع أعمى من نتنياهو لأجندة ترامب الحزبية الداخلية، وإهانة لعضوتي كونغرس منتخبتين. وعبر موقع "مكور ريشون" عن الأزمة التي افتعلها نتنياهو إرضاء لترامب بعنوان بارز (الديمقراطيون ينفصلون عن إسرائيل)، أما القادة اليهود في أميركا فقد وصفوا لصحيفة "معاريف" دون ذكر أسمائهم الضرر الذي أحدثه نتنياهو بأنه تدمير للقاعدة والأساس الصلب للدعم الأميركي لإسرائيل وتحول إسرائيل إلى قضية سياسية بدلاً من كونها قيمة ونموذجا يحتذى.
يُشار هنا إلى أن التحولات التي تشهدها قاعدة الحزب الديمقراطي نحو اليسار وحملة المرشح الديمقراطي بيرني ساندرز التي تخللتها انتقادات صريحة لسياسة نتنياهو وإسرائيل تجاه الفلسطينيين، لم يكن لها أن تتحدد أكثر وأن تجد لها تعبيرا بهذا الحجم لولا سياسة نتنياهو الأحادية وانحيازه الأعمى لترامب بما يرمز إليه الأمر من إشارات إلى أنه تخلى عن الصوت الديمقراطي وفقد الثقة بدعم الصوت اليهودي الأميركي لسياسته ووضع كل ثقله على الصوت الأفنجيلي المسيحي المتطرف، وهي خطوة قد تكون محسوبة بدقة على ضوء ما تظهره الاستطلاعات من تراجع شعبية إسرائيل في أوساط الديمقراطيين، حيث أظهر استطلاع نشرته "معاريف" في نهاية العام 2019 أن 39% من الناخبين الديمقراطيين يميلون لفلسطين مقابل 33% يميلون لإسرائيل.
الخلاصة التي وصل إليها نتنياهو أو الأمر الواقع والضرر الذي أنتجته سياسته تقود في أحسن الأحوال إلى فقدان الإجماع الداخلي الأميركي والتفريط بالمبدأ الأعلى والقيمة الكبرى التي تمتعت بها إسرائيل في البقاء في قلب الإجماع لدى الحزبيين الكبيرين. وعندما يصرح بايدن بأن نتنياهو يتجه أكثر وأكثر نحو اليمين المتطرف، فهو لا يقصد اليمين الإسرائيلي حصرا، بل اليمين الأميركي أيضا، بما لهذا من انعكاس مباشر وغير مباشر على موقف الحزب الديمقراطي والإعلام الأميركي.
لقد قامت العلاقات الأميركية- الإسرائيلية تاريخيا وحافظت على ثباتها بالاستناد إلى مثلث متساوي الأضلاع يجمع بين المصلحة والقيم المشتركة والسياسة، وحرص كل قادة إسرائيل بنسب متفاوتة على تغليب القيم والمصالح المشتركة العليا على السياسة والمصالح الحزبية والشخصية، وهو عكس ما قام به نتنياهو خلال سبع سنوات من العلاقة المتوترة والعدائية في فترة ولاية باراك أوباما وأربع سنوات من الانحياز والتماهي مع إدارة ترامب على حساب الحزب الديمقراطي الذي قد يعود قريبا بدون هامش واسع من المناورة وفرص أقل لترميم ما تم تدميره.
المصطلحات المستخدمة:
مكور ريشون, يسرائيل هيوم, باراك, رئيس الحكومة, بنيامين نتنياهو