المقال المترجم المنشور هنا ليونتان هيرشفيلد بعنوان "لماذا ينجح اليمين في اختطاف أفكار اليسار؟" يشكل مثلاً على أزمة عميقة – هي واحدة من كثيرات - في السياسة الإسرائيلية من حيث المفاهيم وتعريفها. أو لنقُل على الأقل من ناحية المعنى الذي يتم إسقاطه عليها، مقارنة بتاريخ المفاهيم وسياقاتها الفكرية والاقتصادية والاجتماعية في العالم. الادعاء هناك بشأن قيام اليمين السياسي والعقائدي في إسرائيل، مثلما في مواقع أخرى، بما يشبه السطو على مفاهيم ما انفكت تشكل جزءا من الحمولة السياسية لليساريين، هو ادعاء يتخذ هنا لوناً أكثر سطوعاً.
السبب هو أن اليمين في إسرائيل حين احتلّ مواقع مفهوميّة معرفيّة يساريّة المضمون والحمولة، واستخدمها لغاياته النفعيّة، مثل التنكّر الزائف خلف زيّ الصوت الناطق باسم الفقراء اليهودي الشرقيّين، أي اليهود العرب، الطوائف اليهودية الخارجة من مجتمعات عربيّة، إنما احتلّ تلالا جرداء خاوية، وصحارى غير مأهولة، لأنه لم يكن في إسرائيل يسار حمل هذه الرايات وناضل على هذه الأجندات. وحين نقول هذا نتحدث عما يقع في نطاق وإسار ما يُعرف بـ"الإجماع القومي" الصهيوني. لا نتحدث عن شيوعيين وسائر غير الصهيونيين أو مناهضي الصهيونية أو راديكاليين يرفضون أيديولوجيا الاستعمار هذه أصلا.
فحين خطب مناحيم بيغن، زعيم الليكود التاريخي، في السبعينيات متقمصاً دور المتماثل مع الفقراء اليهود؛ وحين أعلن نجم الديماغوغية بنيامين نتنياهو أنه يتحدّر من أصول "سفارادية"، أي من المستضعفين المضطهدين داخل الغيتو الصهيوني نفسه، لم يستوليا على غنائم من أحد. بل اقتحما بوابات مشرّعة على فراغ. فلم يكن في هذا الغيتو الصهيوني يسار فعلا، ولن يجده أحد اليوم.
إن قيماً مثل العدالة الاجتماعية والحرية والمساواة تتحول الى رميم حين لا تكون مشحونة قيمياً بفكرة الكونيّة، المتحررة من التقسيمات العرقية والقومية والدينية، والتي لا تدخل معارك لغرض الهيمنة باسم أي منها. فهل كان حزب "مباي" التاريخي الذي ورثه العمل يسارياً في أية فاصلة ونقطة، حين أقام مشروعاً سياسياً شرطه الأول إلغاء العربي الفلسطيني بالتهجير والنفي والإخضاع والاحتلال والتمييز والتفتيت الطائفي؟ هذه استحالة.
لذلك، فإن كل صوت ومنهج تحليلي يخوض غمار النقاشات عن يسار ويمين في إسرائيل، دون أن يتحرر من الغيتو الصهيوني، ومن غير أن يكسر جدران الحصار العقائدي التي تسجنه وهو واهم بأنها تحميه، لا يمكن أخذ تحليله على محمل الجد. لا يُقال هذا حُكماً عن المقال المنشور هنا، بل عن خطاب مكرّس في إسرائيل يرغي بمفردات اليسار دون أن يهتم بالحفاظ على شرطها الأساس.
الصحافة العالمية نشرت مقدمات لنعي اليسار الصهيوني
في السنوات الأخيرة تناولت الصحافة الدوليّة، وأبرز وكالات الأنباء، الحاصل في إسرائيل من ناحية الموضوع المطروق هنا. فقد قدّرت مطلع هذا العام "فرانس برس" أن اليسار الاسرائيلي الذي هيمن في الماضي على الساحة السياسة الاسرائيلية، يتحول الى قوة مهددة بالزوال مع التراجع الكبير لحزب العمل والجهود الكبرى التي يبذلها "حزب ميرتس الديموقراطي الاجتماعي"، كما عرّفته، للحفاظ على تمثيله في الكنيست.
كاتب التحليل يستذكر تاريخاً ماضياً بالقول إن: "هذا أبعد ما يكون عن الحقبة التي تربع فيها حزب العمل على قمة العمل السياسي عام 1969، بعد قيادته تحالفا مع حزب مبام (أحد مكونات ميرتس الراهنة) وحصد 56 من مقاعد الكنيست الـ120، وهو ما لم يتمكن من تحقيقه أي حزب آخر في اسرائيل حتى اليوم".
الصحافة الإسرائيلية، قال الكاتب، ومنها صحيفة "هآرتس"، قدّرت أن "الإحباط سيدفع بعض اليهود اليساريين لتحويل دعمهم من حزبي العمل أو ميرتس الى القائمة المشتركة، وهو تحالف أحزاب عربية مع حزب الجبهة الديمقراطية للسلام والمساواة الشيوعي"، كما قال بعدم دقّة، إذ تضم الجبهة غالبية من غير الشيوعيين. ورأى الكاتب أن "تاريخ انحدار اليسار الاسرائيلي يتكون من فصول عدة، بدءا من الصعود الأولي لحزب الليكود الى السلطة العام 1977 في ظل قيادة مناحيم بيغن. فصل آخر جاء بعد اغتيال إسحق رابين العام 1995 على يد متطرف يهودي يميني معارض لعقد اتفاق سلام مع الفلسطينيين. واتفاقيات أوسلو التي كانت تعتبر خطوة انتقالية لتأسيس دولة فلسطينية، لم تطبق بالكامل وأصبحت موضع معارضة، ما طال حزب العمل نفسه. وأدى فشل اتفاقيات أوسلو والانتفاضة الثانية في مطلع سنوات الألفين الى تغيير رأي عدد من الاسرائيليين برسالة السلام التي حملها اليسار".
في جميع هذه المحطات لم يحارب هذا "اليسار الصهيوني" على ما يزعمه من هويّة فكرية يسارية لأنه ببساطة ما انفكّ يفتقر إليها. وهو ما أتاح لخصومه المحافظين المتشددين فرصاً انتهزوها بكامل النهم والإتقان لتسديد الضربات الفتّاكة له، الى أن بات مجرّد استمرار وجوده سؤالاً مطروحاً بجدية وعلى نحو حثيث.
أستاذة العلوم السياسية في جامعة بار إيلان، جوليا إلعاد سترينغر، لخّصت ذلك بالقول: "لقد نزع نتنياهو شرعية اليسار بشكل حاد الى درجة أنه أصبح هوية بلا شرعية". فقد استخدم مع حلفائه مصطلحات جعلت "من كونك يساريا يعني أن تكون خائنا. ونحن نرى تراجعا ثابتا في مدى تعريف الناس عن أنفسهم كيساريين، الآن النسبة بين 12 و15 بالمئة من عدد السكان، بينما اليمينيون يبلغون 60 بالمئة".
من التزم باليسار فعلاً وجد نفسه دوماً خارج الإجماع
مع ذلك، يجب الإشارة الى أصوات يسارية أصيلة ومثابرة، لم تحاول تفصيل طروحاتها على المقاس العقائدي- القومجي- الصهيوني المختزِل. مثلا، أوردت وكالة الصحافة الأوروبية تقريرا حول تحقيق أعدته "هآرتس"، استعرض قصة إيتان برونشتاين أباريسيو وشريكته إليونور ميرزا، وهي أكاديمية مختصة بالأنثروبولجيا السياسية، اللذين غادرا إسرائيل نهائيا وكانا ناشطين يساريين معروفين. أسسا منظمة "ذاكرات" التي تقول على موقعها الرسمي: "إنّ تحمل اليهود المسؤولية عن حصتهم في النكبة الفلسطينية شرط حتميّ لإرساء سلام عادل ومصالحة بين سكان البلاد اليهود والفلسطينيين".
وعبر الثنائي عن يأسهما من التغيير في إسرائيل، وقالا إنهما لم يعودا قادرين على تحمل الوضع بعد الآن، وانتقلا إلى بروكسل -التي وصفها أباريسيو بالمنفى- دون أي خطط للعودة. أباريسيو الذي ولد في الأرجنتين هاجر إلى إسرائيل مع والديه عندما كان في الـ 15 من عمره، وهناك غيّر اسمه وأدى الخدمة العسكرية، ونشأ في كيبوتس قبل أن يقوم بمراجعات فكرية قادته إلى المشاركة في تأسيس منظمة غير حكومية تسعى لرفع مستوى الوعي بالنكبة الفلسطينية وحق العودة.
وتحدث أباريسيو من بلجيكا، كما نشر مركز الإعلام الفلسطيني، عن إنقاذ ابنه من نظام التعليم العسكري الإسرائيلي. وقال إنه لا يرى أفقاً للإصلاح ولا السلام الحقيقي ولا الحياة الجيدة في إسرائيل، عاداً أن هذا ما أدركه الكثيرون من الذين بحثوا عن مكان آخر للعيش فيه. فالعديد من نشطاء ما يسمى اليسار الراديكالي غادروا في العقد الماضي، وبينهم مؤسسون لبعض أهم المنظمات غير الحكومية، مثل: بتسيلم، وكسر الصمت، وائتلاف النساء من أجل السلام، وذاكرات، ومتسبين، والأخيرة هي حركة اشتراكية معادية للصهيونية أسسها مطلع ستينيات القرن الماضي أعضاء سابقون في الحزب الشيوعي ناصروا حل دولة واحدة تضم السكان العرب واليهود.
كذلك أورد التقرير قصة نيف غوردون (54 عاماً)، وهو أكاديمي إسرائيلي وكان رئيساً لقسم السياسة والحوكمة بجامعة "بن غوريون" في بئر السبع، وشارك في العديد من المظاهرات المناهضة للاحتلال، وكان جزءاً من حركة رفض الخدمة في الجيش الإسرائيلي، وأعلن دعمه لحركة المقاطعة واصفاً إسرائيل بأنها دولة فصل عنصري. وأصبح غوردون هدفاً للعديد من الحملات الإسرائيلية، ودعا وزير التعليم العام 2012 غدعون ساعر إلى إقالته. وقال إنه تلقى العديد من التهديدات، لكن ما دفعه للمغادرة في النهاية لم يكن صراعه مع مؤسسة التعليم العالي ولا التهديدات الشخصية، وإنما القلق على مستقبل أبنائه بعدما غاب الأفق، ليعمل لاحقاً في لندن التي استقر بها مع أسرته. ومثل غوردون، يقول زميله الأكاديمي المختص بدراسات المساواة في التخطيط المكاني والإسكان حاييم يعقوبي الذي انتقل إلى إنكلترا أيضاً، إنه لم يغادر بسبب المضايقات؛ وإنما لتساؤله ما الذي يريده لنفسه وأولاده بعد أن تحولت إسرائيل إلى رأس المشروع الاستعماري، وأصبحت دولة فصل عنصري. وأشار إلى صعوبة الهجرة في سن متأخرة، وقال إن العديد من زملائه في إسرائيل - حتى بين اليسار الراديكالي- عَدُّوا رحيله خيانة. وأضاف أن العنف السياسي في إسرائيل هو ما دفعه إلى إدراك أن الخروج هو الخيار الوحيد بالنسبة له.
التقرير استعرض أيضاً قصة المؤلفة والفنانة والمخرجة أريئيلا أزولاي التي كانت ضحية اضطهاد سياسي دفعها إلى المغادرة مع زوجها عادي أوفير، أستاذ الفلسفة والمحاضر بجامعة تل أبيب. وقال أوفير: "أصبحت التنازلات السياسية والأخلاقية التي تنطوي عليها الحياة في إسرائيل لا تطاق".
في كتابها الصادر حديثاً بعنوان، "التاريخ المحتمل.. إلغاء الإمبريالية"، تقدم أزولاي ما تسميها "دعوة عاجلة إلى نبذ الإمبريالية وإصلاح العالم العنيف الذي نتشاركه". ودعت إلى استكشاف الأسس الاستعمارية للمعرفة ورفض قيودها وانتهاكاتها العديدة. وتجادل أزولاي بأن المؤسسات التي تصنع عالمنا، مثل مؤسسات الأرشيف والمتاحف وأفكار السيادة وحقوق الإنسان وحتى التاريخ نفسه، كلها تعتمد على أنماط التفكير الإمبريالية التي تقسم السكان إلى مجموعات تحكمهم امتيازات مختلفة.
ومن خلال ممارسة ما تسميه "التاريخ المحتمل"، تجادل أزولاي بأنه لا يزال بإمكاننا رفض العنف الإمبراطوري الذي حطم المجتمعات والحياة والعوالم، من الشعوب الأصلية في الأميركتين في لحظة الاستعمار، إلى الكونغو التي حكمها ملك بلجيكا الوحشي ليوبولد الثاني، ومن الفلسطينيين المحرومين منذ نكبة عام 1948 إلى اللاجئين المهجرين في عصرنا. وتورد في كتابها قصصا كثيرة، منها لرجل فلسطيني عجوز رفض مغادرة قريته العام 1948، وأخرى لامرأة مجهولة الهوية في برلين التي مزقتها الحرب، وثالثة عن نهب أشياء ووثائق من عوالمهم ثم أصبحت الآن في الأرشيفات والمتاحف، وترسم عبر هذه القصص الطرق التي سعت عبرها الإمبريالية إلى صياغة الزمان والمكان والسياسة.