توصلت دراسة صدرت مؤخراً عن "معهد الاستراتيجيا الصهيونية" حول ظاهرة الهجرة (السلبية) من دولة إسرائيل خلال العقود الأخيرة إلى أن ليست ثمة مشكلة "هجرة سلبية" من إسرائيل، إذ أن نسبة المهاجرين من إسرائيل مقارنة بمعدلات الهجرة العالمية ليست مرتفعة، بل متوسطة تماماً، كما تشير معطيات الهجرة خلال السنوات الأخيرة إلى انخفاض جدي، بعشرات بالمئة، في نسبة المهاجرين من بين مجموع السكان. كما تبين، أيضاً، أن جزءاً كبيراً من المهاجرين هم مهاجرون جدد إلى إسرائيل لم يتم استيعابهم فيها بصورة لائقة، بينما كثيرون من بينهم استحقوا الهجرة إلى إسرائيل بموجب "قانون العودة"، رغم أنهم "لا يمتلكون هوية يهودية قوية"، كما نوهت الدراسة.
كثيرون من بين الذين قرروا الهجرة من إسرائيل "يفتخرون بإسرائيليتهم" وجزء غير قليل منهم عاد إلى إسرائيل بعد بضع سنوات من مغادرتها والهجرة منها، بينما نسبة مرتفعة من الباقين في خارج البلاد هم أشخاص لم يكونوا اتخذوا قرارهم بترك البلاد بصورة عقلانية ومدروسة، وإنما اضطروا إلى ذلك بفعل ظروف محددة مختلفة وينتظرون التوقيت المناسب كي يعودوا إليها.
وتسعى هذه المعطيات إلى إلقاء نظرة مجددة على الإسرائيليين، وخصوصا منهم رجال الأعمال والأكاديميين، الذين يعيشون ويعملون في خارج البلاد، إذ يدعو معدّ الدراسة، أوري ألتمان، دولة إسرائيل إلى النظر إلى هؤلاء واعتبارهم "ثروة" وليس "عبئاً". فالإسرائيليون في دول العالم المختلفة "لا يشكلون تهديداً يعرض مرآة تعكس المشكلات الاقتصادية والاجتماعية في إسرائيل، وإنما هم جسر لعلاقات دولية، بل فرصة مواتية لتطوير وتسحين المنظومات الجماهيرية والتجارية المختلفة في إسرائيل، من ناحية مهنية".
تغير نظرة المجتمع الإسرائيلي إلى المهاجرين منه
جاءت الدراسة، التي نشرت تحت عنوان "الهجرة من إسرائيل: مشكلة أم فرصة؟"، في 76 صفحة موزعة على عدد من الأبواب والفصول تبدأ بالفصل الأول ـ عرض استهلالي لموضوع البحث ومحاولة لتوضيح اللغة الاصطلاحية في مجال الهجرة، بدءاً بالتحول الذي طرأ على اللغة الاصطلاحية الخاصة بموضوع الهجرة، مروراً بظاهرة الهويات العابرة للقوميات وانتهاء بميزان الهجرة. وعلاوة على هذا، يعرض هذا الفصل، أيضاً، منهجية البحث والبنية التي أجري البحث بموجيها.
في الفصل الثاني عرض للعوامل التي تدفع نحو الهجرة من إسرائيل ومميزاتها، في الماضي والحاضر. ويصف الفصل التغيير الذي طرأ على المجتمع الإسرائيلي في نظرته إلى المهاجرين وتعامله معهم: من النظرة النقدية الحادة على خلفية إدارة المهاجرين ظهورهم للمشروع الصهيوني وحتى النظرة الاحتوائية، بل المليئة بالإعجاب والتقدير حتى، على أمل أن يعودوا إلى البلاد في المستقبل القريب. التعابير السلبية، على غرار قولة إسحاق رابين الشهيرة التي وصف فيها المهاجرين من إسرائيل بأنهم "حثالات ضعاف نفوس"، استبدُلت بتعامل إيجابي ومتقبل، بل متعاطف في بعض الأحيان، حيال الإسرائيليين الذين هجروا البلاد وحققوا نجاحات مهنية واقتصادية.
السبب المركزي للهجرة من إسرائيل خلال العقود الأخيرة هو الرغبة في تحسين مستوى الحياة من الناحية الاقتصادية. وبالرغم من الواقع الأمني المعقد في إسرائيل، إلا أن هذا الاعتبار ليس من بين الاعتبارات المركزية في قرار الهجرة. والمهاجرون من إسرائيل يشبهون، عملياً وبصورة عامة، مهاجرين كثيرين في أنحاء مختلفة من العالم يبحثون عن فرص اقتصادية ومهنية جديدة في دول غنية ومتطورة، مع المحافظة على العلاقات الأساسية مع العائلة والمجتمع في بلاد الأصل. وهي مهمة أصبحت أكثر سهولة بكثير بفضل استخدام الانترنت على نطاق واسع.
الفصل الثالث يعرض معطيات محدَّثة، بالأرقام، عن المهاجرين من إسرائيل خلال العقود الأخيرة. وتبين المعطيات أن الهجرة من إسرائيل سجّلت خلال العقد الأخير انخفاضاً ملحوظاً ولا تشذّ عن الوضع العام في العالم. وتشهد نسبة المغادرين وميزان الهجرة (الفارق بين عدد الإسرائيليين المغادرين وبين عدد الإسرائيليين العائدين) تراجعاً وانخفاضاً متواصلين خلال السنوات الأخيرة. كما يجدر التنويه بأن نسبة المغادرين لم تشهد أي تغيير خلال السنوات اللاحقة.
تبين المعطيات أن تأثير حملات الاحتجاج الشعبية الواسعة التي شهدتها إسرائيل في صيف العام 2011 كان ضئيلاً جداً على الهجرة من إسرائيل، إن كان لها ثمة تأثير أصلاً. ومن الحري التوقف عند حقيقة أن جزءاً كبيراً من المهاجرين هم مهاجرون جدد قدموا إلى إسرائيل خلال موجات الهجرة اليهودية المختلفة إليها، ما يعني أن التغيير في عدد المهاجرين هو نتيجة الهجرة إلى إسرائيل في تلك السنوات. ويستدل من المعطيات أن نسبة مرتفعة من الهجرة (من إسرائيل) سُجلت بين حَملة الشهادات الجامعية العليا الذين يرتبط تقدمهم المهني، اشتراطاً، بالبقاء في جامعات أجنبية في الخارج لبضع سنوات. وعلى صناع القرار العمل من أجل موازنة هذا الوضع المستجد وتهيئة الأرضية المناسبة من أجل عودة المهاجرين عموما، والأكاديميين خصوصاً، إلى إسرائيل.
يقدم الفصل الرابع معلومات عن مجتمعات الإسرائيليين المركزية في العالم اليوم: في الولايات المتحدة، ألمانيا وإنكلترا. غالبية المهاجرين من إسرائيل تتوجه إلى الولايات المتحدة، حيث أصبح تجمع الإسرائيليين فيها، خلال السنوات الأخيرة، مجتمعاً منظماً، بل ذا قوة سياسية أيضاً. وتحاول المنظمات المحلية في هذا التجمع مكافحة ظاهرة ومنحى تفكك وضمور الهوية الإسرائيلية والهوية اليهودية بين أبناء الجيل الثاني من المهاجرين، الذين يميلون إلى الاختلاط بصورة كاملة تماماً في البيئة الأميركية التي ترعرعوا فيها.
أما المهاجرون الإسرائيليون في ألمانيا فهم يختلفون عن المهاجرين الآخرين من إسرائيل: فهم يعتبَرون أكثر علمانية وذوي مواقف أكثر نقدية حيال إسرائيل. وبينما يفاخر معظم المهاجرين من إسرائيل بإسرائيليتهم ويفكرون أحياناً بالعودة إلى إسرائيل، نجد أن جزءاً كيراً من الإسرائيليين المهاجرين إلى ألمانيا قد تركوا إسرائيل بشعور سلبي ولا يرون أنفسهم عائدين إليها في المستقبل. وعلى الرغم من الأصداء الإعلامية التي أثارها الإسرائيليون في ألمانيا عامة، وفي برلين خاصة، إلا أن الدراسات التي أجرت خلال السنوات الأخيرة تقدر عدد الإسرائيليين المقيمين في ألمانيا اليوم بنحو 25 ألفاً، وهو ما يعادل نحو 4% فقط من مجمل الإسرائيليين في "المَهاجر".
مقابل الإسرائيليين في ألمانيا، يمتاز الإسرائيليون المهاجرون في إنكلترا بالمشاعر الإيجابية تجاه إسرائيل، حتى أن كثيرين منهم يفكرون بإمكانية العودة إليها. القرب النسبي بين إنكلترا وإسرائيل، مقارنة بدول أخرى ناطقة بالإنكليزية، الجامعات الرائدة وفرص العمل الجذابة ـ هذه جميعها جعلت إنكلترا هدفاً سهلاً للهجرة، نسبياً. وجدير بالذكر أن المجتمع الإسرائيلي في إنكلترا يمر بإجراءات لتنظيمه، اقتصاديا وسياسيا، على ضوء القطيعة القائمة بين مجتمع الإسرائيليين ومجتمع اليهود المحلي في إنكلترا، وهي قطيعة موجودة في الغالبية الساحقة من الدول التي هاجر إليها إسرائيليون.
يعالج الفصل الخامس المعطيات التي تبينت من الدراسة ويبحث فيها، ثم يقترح أن تكون الثقة بالنفس الإسرائيلية متينة حتى مقابل الإسرائيليين المهاجرين، خصوصاً بعد أكثر من 70 سنة تحولت خلالها دولة إسرائيل من دولة فقيرة تحتضن اللاجئين إلى دولة عظمى، اقتصاديا وأمنياً. ويتعين على دولة إسرائيل عدم اعتبار هؤلاء تهديداً على مناعتها الداخلية، بل بناء جسر لهم لتعزيز الهوية الإسرائيلية، وخاصة لدى أبناء الجيل الثاني الذين يميلون إلى الاختلاط التام في البيئة التي كبروا وترعرعوا فيها، إلى جانب الإبقاء على مسار متاح للعودة، يزيد من احتمالات عودتهم إلى إسرائيل مستقبلاً.
اختلاف التعريف ومميزات الهجرة من إسرائيل
يختلف الباحثون فيما بينهم بشأن كيفية تعريف الإسرائيليين في الدول المختلفة، وهو ما ينطوي على تأثير على تقدير عدد الإسرائيليين المقيمين اليوم في خارج دولة إسرائيل. التعريف الأضيق هو أن المهاجرين الإسرائيليين هم مواطنون إسرائيليون كانوا يقيمون في إسرائيل في السابق فقط، بينما يشمل التعريف الأوسع أبناء وأحفاد المهاجرين الإسرائيليين حتى الجيل الثالث وكذلك المواطنين اليهود الذين يحملون جنسية إسرائيلية ويشعرون برابطة قوية تجاه دولة إسرائيل، رغم أنهم لم يقيموا فيها إطلاقاً.
يعتبر المكتب المركزي للإحصاء "مهاجراً" كل مواطن إسرائيلي عاش في إسرائيل لبضعة أشهر على الأقل، ثم ترك البلاد لفترة تزيد عن سنة واحدة.
السبب المركزي والأكثر انتشارا للهجرة من إسرائيل هو الرغبة في تحسين مستوى المعيشة، وهو السبب الذي كان وراء هجرة مئات آلاف الإسرائيليين خلال السنوات منذ إقامة الدولة ورحيلهم إلى دولة أكثر ثراء وازدهارا اقتصاديا. كذلك تتميز الهجرة من إسرائيل بأنها تنجم عن أسباب أخرى، أبرزها الوضع الأمني المتوتر على الدوام، إلى جانب موقف المجتمع الإسرائيلي السلبي حيال المهاجرين طالبي العمل في إسرائيل وتعامله السيء معهم.
الدولة الأكثر تفضيلاً لدى الإسرائيليين المهاجرين هي الولايات المتحدة، بدون منازع، إذ يعتبرها هؤلاء "دولة قوية وغنية ومتطورة تفتح أمام المهاجر فرصا متعددة ومتنوعة". بالإضافة إليها، هاجر عشرات الآلاف من الإسرائيليين إلى كندا، إنكلترا، ألمانيا وأستراليا، بينما هاجر بضعة آلاف إلى هولندا، روسيا وفرنسا.
وطبقا لمعطيات المكتب المركزي للإحصاء، فإنه منذ قيام دولة إسرائيل وحتى نهاية 2017، هاجر منها 732 ألف مواطن، لم يعودوا إليها نهائياً. ويشمل هذا العدد، أيضا، الإسرائيليين الذين توفوا خارج البلاد، والذين يقدر عددهم بنحو 133 ـ 171 ألفاً، ما يعني أن عدد الإسرائيليين المهاجرين الذين يعيشون في دول مختلفة، خارج إسرائيل، يتراوح بين 561 و591 ألفاً. وهذا الرقم لا يشمل الأطفال الذين ولدوا لأزواج مواطنين إسرائيليين خارج البلاد.