المشهد الإسرائيلي

ملحق أسبوعي يتضمن مقالات صحفية وتحليلات نقدية ومتابعات عن كثب لمستجدات المشهد الإسرائيلي.

على نحوٍ مضطرد، تزداد مركزية الشخوص في الجدل السياسي الإسرائيلي، عوضاً عن البرامج والطروحات والأفكار. ويأخذ الأمر حالته المتطرفة في عمليات الانتخابات بوصفها تجمع عناصر دراميّة عدة معاً: تنافس مشحون على السلطة، وسباق مع الوقت المحدود حتى يوم الاقتراع، وما لا يُحصى من المؤثرات الصوتية والبصرية التي تتجمع في الدعاية الانتخابيّة. يتجسّد هذا بقوّة في الانتخابات البرلمانية الراهنة التي من المقرر إجراؤها بعد عشرين يوماً، في التاسع من نيسان القادم.

غياب الجدل السياسي متعدد الأسباب. وربما أولها هو انعدام الأجوبة على المسائل الكبرى، وأولها القضية الفلسطينية. يهرب الجميع بلا استثناء تقريباً في الأحزاب الصهيونية من السؤال البسيط: إذا كنتم ضد الانسحاب، أنتم وجيشكم ومستوطناتكم، من المناطق الفلسطينية المحتلة عام 1967، وضد إقامة دولة فلسطينية، فمعنى ذلك أنكم تقيمون نظام أبرتهايد فيه منظومة قانونية مختلفة دُنيا لملايين الفلسطينيين، لكنكم في الوقت نفسه تستشيطون غضباً من مجرد ذكر مصطلح الأبرتهايد، فهل يعني هذا منح المواطنة لملايين الفلسطينيين وبالتالي إنهاء طغيان الأكثرية اليهودية، لكنكم تفقدون الرشد لو قيل لكم يجب إلغاء يهودية الدولة، فماذا تقترحون؟

حتى سنوات قليلة مضت كانت تتردد عبارة "حل الدولتين" بلهجات سياسية مختلفة في الحلبة السياسية الإسرائيلية، جميعها خجولة. وكانت دوما تتحدث عن دولة اسمها إسرائيل وأقل من دولة بكثير اسمها فلسطين. لكن حتى هذه التسوية الضئيلة المنقوصة المختلّة قد غابت، لأن كل الحلبة السياسية الاسرائيلية انزاحت نحو اليمين.

عن تحويل الفلسطينيين في إسرائيل الى "أداة اتهام"

الأمر نفسه في قضية المساواة للفلسطينيين حاملي مواطنة إسرائيل. ما يرتبط بهذه القضية مباشرة هو نزع الشرعية السياسية عن هؤلاء المواطنين، وتحويلهم الى أداة اتهام. هذا جزء من إستراتيجية بنيامين نتنياهو، بل جزء أساسي فيها. العرب في خطابه أداة تدرّ الأصوات حين يتم تحويلهم إلى مصدر خطر وتهديد مرعب. وقد نجح في الانتخابات السابقة بتحشيد معسكره حين "دبّ الصوت" وزعم أن "العرب يتوافدون على صناديق الاقتراع بباصات توفرها لهم جمعيات اليسار". هذه الأداة لم تصدأ، وقد استلّ اليوم صيغة مطوّرة منها مفادها: أحزاب العرب تسعى للقضاء على إسرائيل، وخصومه يعتمدون عليهم ضمن "كتلة مانعة". لا خيانة تفوق هذه.

الفرضيّة هنا أن دعاية نتنياهو ما كانت لتنجح لولا اتفاق خصومه معه بصمت على أن العرب غير شرعيين سياسياً. حادثة تصريح لمقدمة برامج وعارضة أزياء اسرائيلية تُدعى روتم سيلع، استغربت فيه التشكيك بحق ومكانة مواطنين يَنتخبون ويُنتخبون، كانت آخر ما يمكن توقعه في سبيل كشف الكم الهائل للنفاق، ليس في أحزاب اليمين، بل في أحزاب الوسط وأولها تحالف "كحول لفان".

هذا "الوسط" لا يجرؤ على استخدام ادعاء من مجال القانون الإسرائيلي مفاده أن هؤلاء المواطنين يصوّتون وفقا لقانون دولة إسرائيل، أسوة بسائر المواطنين. لا حاجة بهم لأية مقولة أخلاقية ولا حتى لموقف. بل يكفيهم اقتباس القانون، وربما القول لنتنياهو، أنت رئيس الحكومة والائتلاف فلماذا لم تغير القانون؟ لن يكلّفهم الأمر أي تضامن ولا أيّ تعاطف مع المواطنين العرب. لكن حتى هذا يمتنعون عن قوله، لأنهم جبناء لا يجرؤون على التعرّض ولو بإزميل رفيع لطبقات العنصرية المنتنة التي تكلست في الرأي العام وفيما يسمى "الإجماع القومي" و"الوعي الزائف" الإسرائيلي.

رئيس حكومة ينقضّ على الفريسة

"ما المشكلة مع العرب؟"، كتبت عارضة الأزياء سيلع عبر إنستغرام. "يا الله، هناك أيضا مواطنون عرب في هذا البلد. متى بحق الجحيم سيأتي شخص في هذه الحكومة ليقول للجمهور إن إسرائيل دولة لمجمل مواطنيها وإن كل الناس قد خلقوا متساوين، وإن العرب والدروز والمثليين – بشكل صادم – هم بشر أيضا".

نتنياهو عرف بدهائه السياسي أن هذه مادة دسمة للتحشيد ومادة خام مطواعة للتحريض. وعلى وقع دعاية الليكود التي كرّرتها، مثلا، وزيرة الثقافة ميري ريغف في مقابلة تلفزيونية بأن زعيم حزب "كحول لفان" المنافس، بيني غانتس، سيحاول تشكيل ائتلاف مع الأحزاب العربية، سارع زعيم اليمين الى الردّ على المذيعة. فكتب لها بلهجة الوالد البالغ الناضج عبر حسابه الخاص على إنستغرام: "عزيزتي روتم، تصحيح مهم: إسرائيل ليست دولة جميع مواطنيها. وفقا لقانون الدولة القومية الذي مررناه، إسرائيل هي الدولة القومية للشعب اليهودي – وليس أي شخص آخر. كما كتبت، لا توجد مشكلة مع مواطني إسرائيل العرب. إنهم يتمتعون بحقوق متساوية، وقد استثمرت حكومة الليكود أكثر من أي حكومة أخرى في المجتمع العربي. لكن حكومة بقيادة غانتس تضم الأحزاب العربية ستقوض أمن الدولة".

نتنياهو رمى الحجر وكالمتوقع بدأت التراشقات السياسية تتسع كحلقات على سطح مستنقع آسن. وزير التعليم نفتالي بينيت الباحث دوماً عن قناع أمني، رد على نتنياهو قائلا بمزايدة وتحدٍّ: "اهتم بحماس بدلاً من مهاجمة مذيعة". إيهود باراك الذي يقود حملة كاملة خاصة لممثل وحيد ضد نتنياهو كتب مقالا دعا فيه الجميع لمحاكاة الممثلة بالقول "كونوا جميعا روتم سيلع".

رئيس دولة اسرائيل رؤوفين ريفلين عبّر عن موقف مختلف، ربما بسبب الحساب المفتوح مع نتنياهو، أو لأن منصبه يستدعي التحدث بذلك النوع من المسؤولية البلاستيكية، فقال: "من يؤمن بضرورة كون دولة إسرائيل يهودية وديمقراطية بكل معنى الكلمة، عليه أن يتذكر على الدوام أن في دولة إسرائيل حقوقا متساوية لجميع مواطنيها". وزعم أنه "لا يوجد مواطنون درجة أولى، ولا يوجد ناخبون درجة ثانية، جميعنا متساوون أمام صندوق الاقتراع، يهودا وعربا. وفي الكنيست يكون لنا ممثلونا جميعا، اليهود وغير اليهود". ربما لو قال ريفلين إن هذا هو المنشود وليس الموجود، لكان فاز ببضع نقاط على الصدق في الكلام. فالواقع مناقض تماما لما قال. الواقع مرسوم بألوان سياسة نتنياهو القاتمة.

الأحزاب العربية كإسفين رئيسي للحملة الانتخابية الحالية

وسائل الإعلام العالمية اقتبست تصريح نتنياهو: "إسرائيل ليست لجميع مواطنيها"، وهو ما لن يستوعبه كجملة اعتيادية، كل من هو ليس صهيونياً! وبدا أن الحرج ضرب مؤسسات صهيونية في الخارج، فمثلا سارعت كارول نوريل، مديرة مكتب الفرع الاسرائيلي لـ"الرابطة ضد التشهير" الأميركية، للتحفّظ والقول في بيان رسمي: "يظهر دور الأحزاب العربية في الكنيست الإسرائيلي بشكل متزايد كإسفين رئيسي للحملة الانتخابية الحالية، حيث يتعهد العديد من قادة الأحزاب والسياسيين بعدم إشراكهم في أي ائتلاف مستقبلي، بينما يتهمون أعداءهم السياسيين بالرغبة في القيام بذلك".

الصحافي ناحوم برنياع (يديعوت أحرونوت) اختار عرض إشكالية تصريح نتنياهو على النحو التالي: "عزيزتي، تصحيح مهم"، كتب، "دولتنا ليست دولة عموم مواطنيها. وفقا لقوانين القومية التي شرعناها فإن دولتنا هي الدولة القومية لشعبنا. سعينا فقط لأن نؤكد المسألة المركزية في هذه الانتخابات: حكومة يمين قوية، أم حكومة يسار بدعم اليهود. يوم سعيد". وفسّر: "ليس لدي مثل هذه الرسالة. مثلما يرد في الاعلانات، الصيغة للتجسيد فقط. لقد أخذت البيان الذي نشره نتنياهو ردا على البوست الذي نشرته مقدمة البرامج التلفزيونية روتم سيلع، ونسخته هنا، بتعديلات طفيفة...".

تلك المذيعة كشفت بما قالته، بمجرد تصريحها حول المسألة، مدى ضجيج الصمت الذي يتورط فيه معظم أحزاب اسرائيل الصهيونية حول واحدة من أكثر المظاهر العنصرية التي تشهدها هذه الانتخابات. هذا الصمت مماثل في معناه للتحريض الذي يطلقه نتنياهو ضد المواطنين العرب، واستخدامهم كـ"إسفين" وقد تم تحويلهم الى خطر وتصويرهم كطابور خامس.

التحريض استراتيجيّة ما كانت ستنجح لولا الخصوم

نتنياهو يعتمد التحريض ويمارسه ويقترفه كاستراتيجية كاملة. وهي لم تبدأ منذ اليوم. بدأها قبل عقدين بمقولة "اليسار نسي معنى أن يكون يهودياً" التي التقطتها الميكروفونات حين أسَرّ بها هامساً في أذن حاخام يهودي مغربي يحظى بتقدير وشعبية عاليين. وكذلك شعاره "نتنياهو جيد لليهود" الذي انتشر على لافتات الشوارع في يوم انتخابات 1996. واليوم، يَجمع زعيم اليمين حليف الكهانيين، المعلن عنهم في الولايات المتحدة تنظيما إرهابيا، بين موضوعي معادلة التحريض، على شاكلة أن خصومه من تحالف "كحول لفان" هم "يسار ضعيف" يعتمد على "كتلة مانعة" مؤلفة من العرب.

هكذا يقبض نتنياهو على الانحطاط من طرفيه. وكل هذا في معادلة كاذبة بجميع مركباتها، فلا أحزاب هذا التحالف تريد الاعتماد على عرب (غانتس بالمناسبة أطلق أعنف حملة دعائية ضمّت مفاخرة وحشيّة بالقتل والدمار في قطاع غزة إبّان عدوان عام 2014، خلال توليه قيادة أركان جيش الاحتلال). ومن الجهة الأخرى فإن ممثلي حزب غانتس من شق "يش عتيد (يوجد مستقبل)" بزعامة شريكه يائير لبيد صوّتوا في لجنة الانتخابات المركزيّة على شطب أحزاب كاملة ومرشحين في تحالفَي الأحزاب الفاعلة بين العرب الفلسطينيين في إسرائيل. لكن من قال أصلا إن الحقيقة شيء له أية قيمة تذكر في معركة الديمقراطية الاسرائيلية على عتبة العقد الثاني من القرن الحادي والعشرين؟!

 

 

المشهد الإسرائيلي

أحدث المقالات