المشهد الإسرائيلي

ملحق أسبوعي يتضمن مقالات صحفية وتحليلات نقدية ومتابعات عن كثب لمستجدات المشهد الإسرائيلي.
  • تقارير، وثائق، تغطيات خاصة
  • 4466
  • سليم سلامة

يقسم هليل كوهن، في مقالته الجديدة بعنوان "حربا 1948"، تلك الحرب إلى مرحلتين أساسيتين: الأولى ـ تلك التي استمرت نحو نصف سنة وتسمى "الحرب بين المجتمعات المحلية"، على خلفية كون اليهود والعرب خلالها "مجتمعين سياسيين يتمتعان بمكانة سياسية مماثلة" ـ كلاهما تحت سيطرة الانتداب البريطاني. وبدأت هذه المرحلة مع بدء المعارك القتالية، فور انتهاء التصويت في الأمم المتحدة على قرار التقسيم في نهاية تشرين الثاني 1947، واستمرت حتى الإعلان الرسمي عن

إقامة دولة إسرائيل، يوم 14 أيار 1948. أما المرحلة الثانية، التي استمرت نحو سنة وشهرين، فهي المعروفة باسم "فترة الحرب النظامية" أو "الحرب بين الدول"، لأنها دارت أساسا بين جيوش نظامية تابعة لدول سيادية. وبدأت هذه المرحلة مع بدء غزو الجيوش العربية، بعيد الإعلان عن تأسيس دولة إسرائيل، يوم 15 أيار 1948 وانتهت، رسميا، لدى التوقيع على اتفاقية وقف إطلاق النار الأخيرة بين إسرائيل والدول العربية، في تموز 1949.

المرحلة الأولى ـ "الحرب بين المجتمعات المحلية"

يقول كوهن إن المرحلة الأولى، الحرب بين المجتمعات المحلية، بدأت بالهجمات العربية ضد أهداف يهودية. أي أنها بدأت برأيه كحرب دفاعية عن "الييشوف اليهودي" الذي "كان يرغب، في البداية، في تقليص دائرة القتال". وخلال الأشهر الأولى من هذه المرحلة، كانت القوات اليهودية تتمتع بتفوق واضح، في العدد والعتاد، لكنها حصرت دائرة هجماتها "بسبب التواجد البريطاني في البلاد". لكن هذا لا يعني أن المبادرة كانت بأيدي القوات العربية، إذ بدأت القوات اليهودية ـ الهاغناه، إيتسل وليحي ـ بشن "هجمات محدودة"، خلال الأيام الأولى من بدء الصدامات. وقد دارت المعارك في تلك المرحلة، من كلا الطرفين، بواسطة قوات محلية غير نظامية استعانت بمقاتلين من الخارج: متطوعو جيش الإنقاذ العربي، بقيادة فوزي القاوقجي، الذين هبوا لنجدة عرب فلسطين، في مقابل يهود من خارج البلاد تطوعوا في صفوف القوات اليهودية المحلية.

خلال الأشهر الأولى من هذه المرحلة، دار القتال في ثلاث جبهات: 1 ـ في المدن المختلطة، حيث استخدم الطرفان القناصة، العبوات الناسفة والاقتحامات قصيرة المدى؛ 2 ـ في المحيط القروي، حيث هاجمت قوات عربية مستوطنات يهودية مثل كفار عتصيون، طيرات تسفي ويحيعام، بينما اقتحمت قوات يهودية قرى عربية، مثل بلد الشيخ والخصاص؛ 3 ـ في الشوارع بين المدن، حيث سيطرت قوات عربية على محاور الطرق المؤدية إلى القدس اليهودية ومحاور إضافية أخرى، بينما شن اليهود هجمات على محاور الطرق بين القرى العربية والمراكز المدينية.

في مطلع نيسان 1948، نشرت صحيفة "الدفاع" معطيات عن القتلى العرب واليهود منذ بدء المعارك: 963 قتيلا عربيا، من بينهم 249 مقاتلا، و1169 قتيلا يهوديا، من بينهم 625 مقاتلا. وبعد أيام قليلة من نشر هذه المعطيات، التي لخّصت أربعة أشهر من القتال، حصل تحول جدي في طابع المعارك بين المجتمعين المحليين، اليهودي والفلسطيني. فردّاً على الهجوم الذي نفذه "جيش الإنقاذ" بقيادة القاوقجي على قافلة يحيعام وعلى مشمار هعميق، وعلى النجاحات التي حققتها قوات "الجهاد المقدس" بقيادة عبد القادر الحسيني في هجماتها على قوافل الإمداد لقوات الهاغناه في محافظة القدس، شنت قوات الهاغناه "سلسلة من العمليات الهجومية" كانت في مقدمتها "عملية نحشون" التي أعدت لفتح الطريق إلى القدس، إضافة إلى "معركة دفاعية عن مشمار هعيمق استمرت وتحولت إلى حملة لاحتلال القرى العربية المحيطة بالمستوطنة".

منطق ترانسفيريّ وجرائم حرب

اعتمد الهجوم اليهودي المضاد على "الخطة دالت"، التي أعدتها قيادة الهاغناه في آذار 1948 "تمهيدا للجلاء البريطاني والغزو المتوقع من قبل الجيوش العربية". وقد حُدد هدف تلك الخطة على النحو التالي: "الاستيلاء على كامل مناطق الدولة العبرية والدفاع عن حدودها، وكذلك عن الكتل الاستيطانية والسكانية العبرية الواقعة خارج الحدود". وبكلمات أخرى، "استندت الخطة إلى مبدأ الهجوم من أجل الدفاع، وكان احتلال مناطق أخرى بغية السيطرة عليها أحد مركباتها الأساسية".

يقول كوهن إن انطلاق هجمات الهاغناه في نيسان 1948 شكل التحول الأول في مجريات الحرب. فقد احتلت القوات اليهودية مدن طبريا وصفد وحيفا والقرى المحيطة بها، إضافة إلى مدينة يافا. ونتيجة لذلك، اقتُلع مئات آلاف السكان الفلسطينيين من بيوتهم وبلداتهم. وفي المحصلة، اقتُلع خلال فترة "الحرب بين المجتمعات المحلية" أكثر من ثلاثمئة ألف فلسطيني من بيوتهم في المدن والقرى التي تم احتلالها خلال تلك المرحلة، إضافة إلى نحو سبعين ألف فلسطيني هُجروا قبل بدء الهجمات ونحو رُبع مليون فلسطيني هُجروا بعد الهجمات. ومع انتهاء تلك الهجمات، عشية الإعلان عن قيام إسرائيل في أيار 1948، انتهت المرحلة الأولى من الحرب ـ "الحرب بين المجتمعات المحلية".

ويضيف أنه "من الصعب أن نحدد بدقة النقطة التي يتحول فيها الدفاع عن النفس، بما في ذلك الدفاع الهجومي، إلى هجوم حقيقي يستهدف "تطهير" مناطق بأكملها من سكانها العرب". و"يتجسد هذا التعقيد في صياغة "الخطة دالت" ـ التي عُرّفت بأنها خطة دفاعية بينما تقترح أدوات هجومية وتقر احتلال مناطق مختلفة وطرد سكانها ـ كما في العمليات الميدانية التي نفذتها القوات اليهودية التي تصرفت، أحيانا، بمنطق ترانسفيريّ ونفّذت، غير مرة، جرائم حرب لا تبررها حتى حجج الدفاع عن النفس، مثل طرد السكان المدنيين غير الضالعين في القتال". وبرغم ذلك ـ يضيف كوهن ـ "لا يجوز التغاضي عن أن الدافع الأساس لعمليات الاحتلال في تلك المرحلة تمثل في الدفاع عن النفس في مواجهة خطر ملموس وفوري، وخاصة على ضوء الغزو المتوقع من جانب دول عربية"!

المرحلة الثانية ـ "الحرب النظامية"

بدأت مرحلة "الحرب النظامية" بعد يوم واحد من الإعلان الرسمي عن قيام إسرائيل، وذلك بغزو الجيوش العربية أراضي فلسطين. من وجهة النظر الإسرائيلية، تنقسم هذه المرحلة إلى ثلاث مراحل ثانوية من القتال: مرحلة دفاعية، ومرحلة دفاعية ـ هجومية، ومرحلة هجومية.

استمرت المرحلة الأولى من الحرب النظامية نحو أربعة أسابيع. في تلك الفترة، تحركت قوات الجيوش من الأردن، سورية، مصر والعراق، ومعها قوات صغيرة من دول عربية أخرى، نحو أرض فلسطين الانتدابية، وكان هدفها المعلن منع إقامة دولة إسرائيل، أو كما صاغه أمين عام جامعة الدول العربية عبد الرحمن عزام: "شن حرب إبادة"! غير أن "التصريحات شيء والتقارير الداخلية شيء آخر تماما"، كما ينوه كوهن. "فقد قدرت الجيوش العربية، وبحق، أن ليس في مقدورها هزم القوات اليهودية، وكان أحد الدوافع الهامة وراء انخراطها في الحرب، رغم ذلك، رغبتها في وضع حد لاقتلاع الفلسطينيين من بلداتهم". كما حالت الصراعات الداخلية بين الدول العربية دون وضع خطة استراتيجية متفق عليها.

في أعقاب الغزو، وجد الجانب الإسرائيلي نفسه في وضع مختلف تماما عما كان عليه الحال في الأسابيع السابقة، إذ كان أقل عدديا بكثير واضطر إلى القتال على جبهات مختلفة، مقابل تفوق عسكري واضح، فصب جهده المركزي في معارك لصد الغزو، تكلل معظمها بالنجاح، لكن الجيش الإسرائيلي لم يفلح في الانتقال إلى شن هجمات مضادة ناجعة مقابل القوات العربية النظامية.
كانت التغيرات الإقليمية التي ترتبت على تلك المرحلة محدودة النطاق. ورغم ذلك، نزح عشرات آلاف الفلسطينيين من المناطق التي استطاعت القوات اليهودية احتلالها، وخاصة من مدينة عكا والقرى المحيطة بها ومن قرى الجليل الشرقي.

في الحادي عشر من حزيران 1948، اتفق الجانبان على وقف إطلاق النار بموجب اقتراح تقدمت به الأمم المتحدة فتوقف القتال لأربعة أسابيع، رغم خرقه من كلا الطرفين من حين إلى آخر. غير أن هذه الهدنة سرعان ما انتهت "حين رفض العرب تجديدها"، كما يقول كوهن. وهكذا، بدأت المرحلة الثانية من الحرب النظامية، وهي المرحلة المعروفة باسم "معارك الأيام العشرة"، من 9 حتى 19 تموز 1948 والتي شهدت انقلابا حقيقيا في موازين القوى في الحرب النظامية؛ فقد انتقل الجيش الإسرائيلي من الصدّ إلى الهجوم ونجح في احتلال مساحات واسعة من المناطق التي خصصها قرار التقسيم للدولة العربية ـ في منطقة شفاعمرو والناصرة، ومنطقة اللد والرملة والقرى في رواق القدس، من دون مقاومة حقيقية وجدية، بينما دارت معارك قاسية جدا مع الجيش المصري على الجبهة الجنوبية.

لم يكن مصير السكان العرب في تلك المرحلة واحداً. فمع انتهاء القتال، بقي معظم سكان الناصرة في بيوتهم، برغم محاولة ضابط في الجيش الإسرائيلي طردهم (بسبب تدخل دافيد بن غوريون وأوامره الصريحة بالامتناع عن ذلك، نظرا لمكانة الناصرة كمدينة مقدسة). في المقابل، قامت قوات الجيش الإسرائيلي بطرد سكان اللد والرملة بصورة منظمة، كما تم اقتلاع سكان قرى عديدة في السهل الساحلي وفي رواق القدس، خلال أيام القتال تلك. وبلغ مجموع الذين تم طردهم وتهجيرهم في تلك المرحلة نحو 130 ألف إنسان.

مع انتهاء "معارك الأيام العشرة"، في 19 تموز، بدأت هدنة جديدة، استمرت ما يزيد عن ثلاثة أشهر حتى تم خرقها بمبادرة إسرائيلية: في 15 تشرين الأول 1948، شن الجيش الإسرائيلي هجوما واسعا في جنوب البلاد، ثم في شمالها. وهكذا بدأت المرحلة الثالثة والأخيرة من الحرب النظامية.

كانت الحملات الهجومية التي نفذتها القوات الإسرائيلية في المرحلة الأخيرة تستهدف، إذن، تمكين دولة إسرائيل من العودة إلى الحياة الطبيعية، وتوسيع حدودها إلى ما وراء خطوط وقف إطلاق النار وإلى ما وراء حدود التقسيم، إضافة إلى تقليص عدد العرب الباقين في نطاق حدود الدولة الجديدة، إلى الحد الأدنى الممكن "وهو هدف يمكن وصفه بأنه تطهير عرقي"، كما يؤكد كوهن ويضيف: "إن المعارك الأساسية التي خاضها الجيش الإسرائيلي في الجنوب كانت موجهة ضد الجيش المصري النظامي فدحرته من منطقة الشاطئ الجنوبي ـ أسدود والمجدل (أشدود وأشكلون) ـ ومن منطقة بئر السبع. سكان البلدات والقرى العرب في المناطق التي تم احتلالها، نحو مئة ألف إنسان، نزحوا سوية مع الجيش المصري المُنسحِب. وأحفادهم يملؤون اليوم مخيمات اللاجئين في قطاع غزة. ووحدها القبائل البدوية القليلة التي تعاونت مع الجيش الإسرائيلي أو ظلت على الحياد هي التي بقيت ضمن حدود دولة إسرائيل".

وفي الشمال، شن الجيش الإسرائيلي عملية "حيرام" التي احتل، في إطارها، منطقة الجليل الأعلى، من دون قتال يذكر تقريبا. وبقيت بعض القرى العربية هناك على حالها، بينما جرى اقتلاع أخرى، جراء عمليات طرد وذبح نفذتها وحدات الجيش الإسرائيلي التي احتلت المنطقة. وقد استمرت عمليات الطرد هذه حتى بعد انتهاء المعارك أيضا. وبلغ عدد المهجّرين من قرى الجليل خلال "عملية حيرام" نحو ثلاثين ألف شخص، نزحت غالبيتهم إلى مخيمات اللاجئين في لبنان.

وتمثلت إحدى مميزات "عملية حيرام" الأبرز في أعمال القتل بدون تمييز بين السكان المدنيين، والتي كان الهدف منها دب الرعب بين السكان في المنطقة وحملهم على الرحيل الجماعي. وهذا ما حصل في الصفصاف، وفي مجد الكروم، وفي عيلبون، وفي سعسع وغيرها. كما تخللت العمليات في الجنوب حالات مشابهة أيضا: في بئر السبع ـ إطلاق نيران على السكان المدنيين بدون تمييز وطرد سكان المنطقة، ثم مجزرة كبيرة في قرية الدوايمة عند سفح جبال الخليل وطرد السكان من المنطقة.

 

المشهد الإسرائيلي

أحدث المقالات