المشهد الإسرائيلي

ملحق أسبوعي يتضمن مقالات صحفية وتحليلات نقدية ومتابعات عن كثب لمستجدات المشهد الإسرائيلي.

في كل مواجهة أو عملية عقابية ضد قطاع غزة وسكانه يتكرر الادعاء الإسرائيلي القائل بأننا (إسرائيل) "خرجنا من غزة".
وهكذا، مثلاً، تشمل الحملة الدعائية، التي تسعى إلى تبرير سياسة إطلاق النار في اتجاه المتظاهرين في منطقة الحدود مع القطاع، ادعاء فحواه أن الحديث ليس عن متظاهرين إنما عن مجموعة "غريبة" تحاول اقتحام الحدود.

ويتمثل الرد الرائج لليسار الإسرائيلي في وضع الأمور في نصابها، والقول إن إسرائيل لم تخرج من القطاع بل تفرض عليه حصاراً وتتحكم بجوانب كثيرة من حياة السكان. وهناك أيضاً من يتوسعون أكثر في تفصيل الضائقة الفظيعة، ويستعرضون الخراب الذي أحدثته حرب "الجرف الصامد"، التي شنها الجيش الإسرائيلي على القطاع في صيف 2014، والذي ينعكس أكثر شيء في النقص الرهيب في الكهرباء، والمياه، والأدوية... إلخ. أما الحل- أي البديل الذي يطرح من جانب هذا اليسار لسياسة الحكومة- فهو إجراء تسهيلات في الحصار، وتقديم مساعدة اقتصادية، وتخفيف القبضة الشديدة بدرجة أو بأخرى. هناك من يضيف، من جهته، أنه من الأجدر أن تقوم حركة "حماس" باستثمار جهودها في المدينة/ الدولة في القطاع بدلاً من الانشغال بمحاربة إسرائيل.

وفيما يتعلق بإسرائيل وبالحصار على وجه الخصوص، لا شك في أن الرد المذكور صائب، وفي أن الخطوات التي تطرح ضرورية. إلا أن هناك مسألة أصبحت بمثابة افتراض مشترك في الجدل حول غزة ألا وهي قبول سياسة فرق تسد تجاه القطاع والضفة، وكأنه من المفهوم ضمناً بأن إسرائيل تستطيع "الخروج من غزة"، والنقاش هو بين يدعون بأن الاحتلال "هناك" انتهى وهو مستمر في الضفة فقط، وبين من يدعون بأنه لم ينته تماماً وبأن هناك حاجة لخطوات إضافية، وإذا ما قمنا بذلك وقامت "حماس" بالانشغال بمسائل القطاع فإن كل شيء سيكون على ما يرام(!)

يجدر بنا أن نعود إلى البداية. في أحيان كثيرة يتعامل الناس مع خطة الانفصال عن غزة (2005)، التي كانت أحادية الجانب وكافأت "حماس" بدلا من السلطة، كغلطة أو كإخفاق متهور. لكنها ليست كذلك، فهي ليست خطأً في البرمجة بل خاصية مبرمجة. وعملياً كان هذا هو الهدف من تلك الخطة، وقد شهد على ذلك دوف فايسغلاس، مستشار شارون الكبير وأحد المبادرين لخطة الانفصال، في سياق مقابلة مع آري شافيط (في صحيفة "هآرتس") بالرغم من أن ذلك كان واضحاً للعيان أيضاً.

فماذا كانت الفكرة من وراء ذلك؟
وقفت اتفاقية أوسلو (1993) أو حاولت الوقوف على رجلين: التسويات الانتقالية، والاعتراف بوحدة فلسطينية لأراضي الضفة والقطاع تحت حكم السلطة الوطنية الفلسطينية. غير أن بنيامين نتنياهو وبالأساس إيهود باراك، اللذين اعترضا بشدة على التسويات الانتقالية منذ البداية، قطعا هذه الرجل. وحتى من يريد الإطراء لباراك على مقترحاته في قمة كامب ديفيد يتعين عليه الاعتراف بأن هذه الخطوة كانت بمثابة وضع شاهد على ضريح أوسلو، وذلك حين أعلن أن المرحلة الثالثة من الانسحاب لن تتم، ولنذهب (أو لا نذهب) مباشرةً إلى مفاوضات على الحل الدائم.

وفي أعقاب ذلك جاء شارون ليقطع الرجل الثانية- الوحدة الإقليمية الفلسطينية- وليفصل بين الضفة وغزة كي يحول دون إمكانية التفاوض السياسي. وفي تقديري أن شارون لم يتنبأ بسيطرة "حماس" إنما بحدوث فوضى تكون "حماس" فيها القوة المركزية وتطلق القذائف كما يحلو لها في حين تكون السلطة الحكم الاعتباري. ولكن ذلك ليس بالأمر المهم، بل المهم هو نهج فرّق تسد المقصود كلياً والذي سعى إلى افشال أي احتمال للجلوس المشترك على طاولة المفاوضات.

إن تبادل إطلاق النار بين الفينة والأخرى بين غزة وإسرائيل ليس خطأ برمجياً هو الآخر بل خاصية مبرمجة، كذلك الحصار والأزمة التي يخلقها ما دامت هذه تجري على نار هادئة (وهي تجري على نار هادئة من ناحية إسرائيل، فالاحتجاجات تستحق الثمن الذي تجنيه، وبفضلها لا يوجد مع من نتحدث ولا يوجد أي ضغط للتحدث أصلاً!). لهذا، فمن يتابع التسلسل الزمني (كما يفعل ذلك بصورة جيدة المدوّن الإسرائيلي عيدان لانداو) يستطيع أن يرى بوضوح أن إسرائيل هي من تبادر إلى التدهور في معظم الحالات منذ الانفصال عن غزة، وبالأساس عندما يكون هناك خطر بأن يحصل تقارب بين السلطة و"حماس".

هكذا عملياً يتم تفريق الاحتلال إلى خمسة أشكال مختلفة: الجيب في غزة، الجيوب في كل من مناطق أ و ب و ج، وشرقي القدس. أيضاً فيما يتعلق بالمقاومة الفلسطينية للاحتلال في الضفة، بإمكاننا أن نسمع أكثر فأكثر الادعاء القائل بأن الفلسطينيين بغالبيتهم هم عملياً "مواطنو السلطة" ولا يعقل أن يطالبوا لا بالاستقلال من إسرائيل (ضمن حل الدولتين) ولا بحقوق سياسية في إسرائيل (دولة واحدة).

على خلفية هذا الواقع يجب أن يكون واضحاً أنه لا يوجد سحر أو طريقة مختصرة لحل الأزمة في القطاع.

هذا ليس إخفاقاً للحكومة الإسرائيلية كون الوضع هناك صعباً، وبرأيي أن حكم "حماس" وأزمة القطاع هما كنز لسياسة تخليد الاحتلال، ولن يكون هناك تغيير فعلي من دون تغيير السياسة.
من دون إدراك ذلك، ليس بالإمكان فهم شيء من الطريقة التي تدير فيها إسرائيل الأمور.

إن محاولة طرح حلول لمسألة قطاع غزة بمعزل عن أي سياق سياسي هو خطأ مضاعف، فهي تنطوي على اعتراف وقبول للفصل بين القطاع والضفة، وعلى تعاون مع إجماع معناه تخليد الاحتلال، كما أن مصيرها الفشل، لأن المقاومة الفلسطينية لا تنبع فقط من الضائقة مهما كانت فظاعتها. ممنوع أن نوافق على خطوات تقوم فيها إسرائيل بإحاطة منطقة فلسطينية ما بجدار وتعلن "هنا لا يوجد احتلال" وتطالب سكانها بأن يعترفوا بفصلهم عن أخوتهم وعن النضال القومي.

_________________________

(*) أستاذ في الجامعة الإسرائيلية المفتوحة. نشرت هذه المقالة في موقع "هعوكتس" (اللسعة) على شبكة الإنترنت.

 

المصطلحات المستخدمة:

هآرتس, بنيامين نتنياهو, باراك

المشهد الإسرائيلي

أحدث المقالات