المشهد الإسرائيلي

ملحق أسبوعي يتضمن مقالات صحفية وتحليلات نقدية ومتابعات عن كثب لمستجدات المشهد الإسرائيلي.

جاء الإعلان عن دمج الشركتين التلفزيونيتين الإسرائيليتين، "ريشت" و"القناة العاشرة"، بشكل مفاجئ، قبل نحو أسبوع، لدرجة نعته بأوصاف فاقت النسبيّة الواقعية! إذ رأى أكثر من محلل ومحرر أن الحدث بمثابة "انفجار كبير" ثان في عالم الإعلام

الاسرائيلي؛ ومعروف أن ذاك المصطلح يطلق على أكبر حدث فريد من نوعه في تاريخ الكون وبزوغه بمفهوم العلم؛ لذلك يأتي استخدامه هنا ليعكس أيضاً درجة عالية من الانفعالية المفرطة، التي لا تعتبر خاصيّة غريبة عن الحقل العام في إسرائيل، بما يشمل الإعلام والسياسة أيضاً.

وفقاً للصفقة المبرمة، ستسيطر شركة "ريشت" على 60% من القناة المستحدثة بعد الدمج، والبقية ستكون بسيطرة شركة RGE. وستطرأ تغييرات على نسبة سيطرة أصحاب الأسهم في الشركتين، وهم من يطلق عليهم "رجال أعمال" أي شريحة من كبار الأثرياء الذين تمتد أذرع الهيمنة لديهم على قطاعات مختلفة في الأموال والصناعة والتجارة والعقارات، وصولا الى الإعلام أيضاً، كجزء من تعزيز الهيمنة بل التأثير على مجريات وقرارات اقتصادية وسياسية بأدوات الإعلام، لمضاعفة أرباحهم.
الشركة الجديدة سيديرها مدير "ريشت" آفي تسفي وسيتولى مجلس إدارتها حامل الوظيفة في "ريشت" أيضاً، وفقا للتقديرات. وهو ما يشير الى الجهة التي ستحظى بقوة أكبر على تحديد السياسات الإعلامية. هذه نقطة هامة ليس على الصعيد الإداري بالطبع، وإنما من ناحية الوجهة النقدية والمساحة المعطاة للنقد فيها، وهو ما ميّز "القناة العاشرة" نسبياً عن سائر قنوات التلفزيون، لكن هذه الصفة تُثار حولها تساؤلات الآن بعد الدمج. فالحال الآن هي أن "ريشت" ستكون الشركة التي تضم "شركة الأخبار" التي عملت في "القناة العاشرة".

أخبار "القناة العاشرة" قد تجد نفسها "مقصوصة الجناحين"!

كتبت صحيفتا "غلوبس" و"هآرتس" بالتوازي أن المفاوضات بين أصحاب الشركتين المدمجتين دخلت مرحلة من التسارع في ضوء استمرار "النزيف" والخسائر الكبرى في سوق الإعلانات التجارية التلفزيونية. هذا سيفرز وضعاً يشمل تغيّرات دراماتيكية على مستوى المضمون. "غلوبس" أشارت الى أن هذا يعود الى تصنيف "القناة العاشرة" كقناة نوعيّة قدمت مادة صحافية بديلة للقناة التلفزيونية الثانية ممثلة بشركة "كيشت"، وهو ما قد تطوى صفحته الآن.

غاي فرحي كتب في "غلوبس" أن هذا الدمج يقع في غير صالح المشاهدين بل يعيد التلفزيون والصحافة في إسرائيل عقوداً الى الوراء. وتفسيره هو أن شركة الأخبار في القناة العاشرة سوف تفقد الحرية النسبية التي تمتعت بها، وقد تجد نفسها "مقصوصة الجناحين". والخشية بتقديره هي بالأساس من المساس المحتمل بمضامين الأخبار. فشركة الأخبار"الممتازة في القناة (العاشرة) التي حظيت بحرية نسبية ستضطر الآن للعمل تحت سيطرة رجال أعمال لديهم مصالح اقتصادية مختلفة"، فسّر. ويشير خصوصاً الى أن الخطر يهدد مراسلي/ات الأخبار وبرنامج التحقيقات "همكور"، الذي يتولاه الصحافيان رفيف دروكر وباروخ كرا، واللذان لديهما تاريخ طويل مع رئيس الحكومة بنيامين نتنياهو، وخصوصا الصحافي الأول، وليس صدفة أن الكثير من الأسئلة طرحت حول مستقبله هو بالذات أو على الأقل حول المساحة التي سيتمتع بها في حال استمر البرنامج واستمر عمله.

ناتي توكر كتب في "هآرتس" أن محامياً اسمه شاحر بن مئير قدم اعتراضاً على هذا الدمج الى مفوّضية مكافحة الاحتكار، بتسويغ أن الدمج سوف يمس بالحرية الصحافية. وهو يتطرق الى مسألة السيطرة والإدارة في الشركة الجديدة في سياق الأخبار والتحقيقات الصحافية، والتي تشكل الجانب الأهم والأكثر ارتباطاً بحرية الصحافة وتنويعة الآراء. وقد جاء في نص الاعتراض: "إن أصحاب الأسهم الرئيسيين في شركة ريشت هم أصحاب مصالح تجارية كبيرة في بعض كبريات الشركات داخل الاقتصاد الإسرائيلي (...) وقسم كبير من هذه الشركات خاضع لتأثير جوهري على أعماله من قبل قرارات مخوّلة بإصدارها جهات سلطوية؛ والسيطرة على وسائل الإعلام تتيح لأصحاب السيطرة المذكورين، التأثير على الجدل العام، على إمكانية منع معلومات صحافية عن الجمهور في مسائل لا تروق لهم (أصحاب الأسهم) وبالطبع على تقديم خدمات إيجابية لسياسيين، يتعلق بهم نجاح مصالحهم التجارية الأخرى الى حد بعيد"!

تضييق المساحات الصحافية سببه قرارات اتخذها "غرباء" عن المهنة

دمج "ريشت" و "القناة العاشرة" هو في نهاية المطاف دمج لشركتين، لإطاريّ "بزنس"، وهذا يعود الى أن الإعلام بمعظمه الساحق في إسرائيل هو إعلام تجاري. بمعنى أنه مملوك لجهات خاصة، يسيطر على أسهمها وبالتالي سياستها وقراراتها، أصحاب مصالح تتجاوز ما يفترض أن توفره الصحافة بمفهومها "البسيط": الحق والحرية في التعبير وحق الجمهور في معرفة الحقيقة. فهذا معيار سيختلف سياقه وإطاره حين يتولى البت فيه من قد يعتبر التعبير والمعرفة مصدر ضرر لأرباحهم.
يلخص هذا جزئياً الحاصل في خارطة الإعلام الإسرائيلي. فبزوغ قنوات البث التجارية، التي كسرت احتكار الإعلام الرسمي الإسرائيلي التلفزيوني المشهد، حمل معه سلبيات الى جانب الإيجابيات المتعلقة بتوسيع المساحة المضاءة بالكشّافات الصحافية. لقد دخل اللاعبون التجاريون والاقتصاديون، وهم بطبيعة الحال من كبار الأثرياء، الى المشهد وباتوا أصحاب قرار بعيد المدى.

ما يمكن أن يحدث الآن من حيث تضييق مساحات التغطية التي توجه النقد للحكومة والسلطات عموماً، لا يعود الى تغيير في وجهة نظر محررين أو صحافيين، بل سببه قرارات اتخذها عمليا "غرباء" عن المهنة؛ وفي الوقت نفسه المسيطرون على مصادر تمويلها وتشغيلها. هذه معضلة لا يمكن إلا الإقرار بها، والتي قلما يقترب منها أشد النقّاد حدّة في إسرائيل. ذلك لأن الصفة التجارية للإعلام تحظى بما يشبه القداسة، المشتقة من تقديس السوق الحرّة، كما تُسمى.

هذه السيطرة التجارية تمس الصحافة من نافذتي المصداقيّة والحرية. على اعتبار أن المصداقية هي درجة الصحّة، أو قوّة حقيقة المعلومة الصحافيّة المطروحة؛ وأن الحريّة هي المسألة المرتبطة بالرأي: الحدود المفتوحة أو المتاحة للرأي، ومدى استيعاب آراء مختلفة حدّ التناقض بينها في وسيط اعلامي ما. وكل تدخّل "غريب الاعتبارات" في مسألة النشر والتحقيق الصحافي وطرح مروحة واسعة من الآراء والتحليلات، يمس مباشرة بالمصداقية والحرية. ويزداد هذا حدّة وسلبية حين تكون الاعتبارات عبارة عن تقاطع ما بين أصحاب مصالح مالية (أثرياء مسيطرون في وسيلة إعلام) وبين متخذي قرار سلطوي، يملكون تأثيراً على حركة الاقتصاد بشتى قطاعاته، وبالتالي أرباحه.

سياسة "التنافس الوهمي" الحكومية تؤدي فعليا إلى انهيار وسائل إعلام

بدوره طالب "المعهد الإسرائيلي للديمقراطية" مفوضيّة مكافحة الاحتكار باشتراط المصادقة على الدمج ببنود توضح العلاقات بين أصحاب الأسهم وبين العاملين في مجال المضامين الإخبارية.
وأضاف، على لسان د. تهيلا شفارتس ألتشولر، وهي زميلة بحث كبيرة في المعهد، أن هذا الدمج هو دليل ميداني على أن تصريحات وزير الإعلام وأعضاء كنيست بأن وضع الأنظمة سوف يؤدي الى منافسة سليمة في السوق، هي تصريحات منزوعة من الواقع. هذه التصريحات الفارغة وسياسة الإعلام التي تقودها الحكومة، والتي تتجسد أخيراً بقانون للنائب الليكودي يوآف كيش لـ"فتح سوق الإعلام"، تؤدي فعليا الى انهيار وسائل إعلام ولا تعالج المشاكل الجوهرية في سوق الإعلام الاسرائيلي المحدود والمغلق، أضافت.

الباحثة تشير الى أن الحكومة مشغولة منذ ثلاث سنوات بشكل مهووس بقنوات البث والإعلام العامة الرسمية، بدلا من تركها تعمل، وهي تدفع بإجراءات لتعميق التنافس التجاري الوهمي على سوق صغيرة. ويجري هذا وسط تجاهل سوق الإعلام الرقمي الذي يفتقر لأي تنظيم.

الإعلام المسيطر يمشيعموماً يداً بيد مع جهاز الحكم!

هناك جوانب أعمق وأكثر خطورة من هذه المواجهة النفعيّة- السياسية في أي تقليص "للحراك الصحافي النقدي" على محدوديته في اسرائيل. لأنه قد يسد حتى الهامش الضيّق المتاح الذي يؤلفه هنا وهناك صحافيون ومحللون قلائل يقولون الحقيقة بصوت واضح، عما ترتكبه إسرائيل كمؤسسة حاكمة وحكومة وسلطة ضد الفلسطينيين. هنا يجدر التمعّن فيما كتبه الصحافي أوري أفنيري أخيراً تعليقاً على الصمت النقدي النسبي في الإعلام الإسرائيلي الذي رافق مواجهة مظاهرات الغزيين بالقناصة والرصاص الاحتلالي القاتل.

فقد كتب أفنيري تحت عنوان "أدمغتنا مغسولة لكننا لا نبدو كذلك"! بأنه "يوجد في البلاد عدد قليل من الكتّاب والمحللين الذين لا يخشون من قول الحقيقة، حتى عندما يعتبر هذا خيانة. يجب الاهتمام بأن يتم إسماع صوتهم، يجب تشجيعهم بإظهار الدعم علناً. يجب الطلب من كل وسائل الاعلام تخصيص مساحة مناسبة لبيانات من الجانب الثاني، "العدو الداخلي"، التي تناقض بيانات الدعاية الرسمية من أجل إعطاء المواطن إمكانية للموازنة. يجب تمكين وسائل الاعلام الاجنبية من الوصول الحر إلى المعلومات، حتى عندما تكون الصحافة الاجنبية انتقادية، "معادية، لاسامية" وماذا بعد. يجب تشجيع دعاة السلام الإسرائيلي الفلسطيني في أرجاء العالم على الضغط على وسائل الاعلام المحلية لديهم كي تقوم بإصدار تقارير حقيقية حول ما يجري في البلاد. انا لا أحب كلمة "يجب" في هذا السياق، لكن لا توجد كلمة أخرى. إن قوة الحقيقة أمام ماكينة رسمية لغسل الأدمغة دائما قليلة، لكن في نهاية المطاف الحقيقة تنتصر، حتى لو استغرق هذا وقتاً واحتاج إلى شجاعة".

وبطبيعة الحال حتى هذه المهمة الصعبة تصبح أصعب في ظلّ تقليص مساحات التغطية وإخضاعها لاعتبارات ومصالح وأرباح أثرياء، لديهم ما يكسبونه من استرضاء شخصيات الحُكم والحكومة عبر تقليص مساحة انتقادهم!

أحياناً تهب رياح تغيير من وسائل إعلام رئيسية في إسرائيل، رسمية وتجارية، لكنها تظل محدودة وجزئية.

التغيير المقصود هو ذلك الذي يبدو من خلال البدء بطرق أسئلة كان يجب أن تُسأل منذ زمن مضى. هذا ينطبق عادة على ما وُصف هنا بـ"القضايا السياسة الكبيرة"، إذ يمشي الإعلام المسيطر عموماً هنا يداً بيد مع جهاز الحكم السياسي. هكذا كان في الحروب الاسرائيلية نحو الشمال ونحو الجنوب.. وهكذا كان في الاغتيالات وفي جدار الفصل العنصري وفي هدم البيوت وفي شتى السياسات القمعية.

معادلة الربح والخسارة من "الدمج" واضحة ويمكن اشتقاقها بسهولة!

تطرح الآن أسئلة عن هوية الرابح الأكبر من دمج "القناة العاشرة" و"ريشت"، وذلك من باب احتمال تقليص مساحة الحرية الصحافية الإخبارية في الشركة الجديدة. وهناك تلميحات واضحة الى أن أكبر المستفيدين هم من يقودون معارك وحروباً ضد أية جهة نقدية صحافية، وتقع "القناة العاشرة" في صفوفها الأولى، بينما يقف في مواجهتها وفي الصفوف الأولى أيضاً وزراء اليمين الحاكم وفي مقدمتهم رئيس الحكومة بنيامين نتنياهو. أي أن معادلة الربح والخسارة واضحة ويمكن اشتقاقها بسهولة.
خلفية هذا التقدير هي المعركة الشعواء التي تواصلها الحكومة الحالية ورئيسها بنيامين نتنياهو، تحديدا وشخصيا، ضد كل جهاز إعلام إسرائيلي لا يتساوق مع طروحاته وغاياته – على الرغم من أنه يمنحه الغطاء التام في السياسات "الكبرى" ضد الفلسطينيين والعرب! – وقد تدخل نتنياهو بشكل فظ محاولا تغيير بل تقويض الخارطة الإعلامية الإسرائيلية.

لقد هاجم بنيامين نتنياهو وسائل الاعلام الإسرائيلية مراراً، متهما إياها باختلاق أخبار مزيفة. مثلا، في إحدى المرات زعم أن وسائل الإعلام تحدثت عن مواجهة لم تكن قائمة، بعد انتهاء التحقيق معه وزوجته سارة وابنه يائير في الملف 4000، مع شهود الادعاء ممن تم تجنيدهم. ربما لم تكن معلومة أدلى بها صحافي ما، مرة من بين ألف مرة، كاملة الدقة، لكنها تتحول بيدي نتنياهو الى فرصة للهجوم المضاد.

وهكذا كتب نتنياهو عبر صفحته في الفيسبوك منشورا والى جانبه شعارات جميع وسائل الاعلام الإسرائيلية التي تمثل برأيه اليسار الإسرائيلي وقال: "ها هنا مثال آخر للأخبار المزيفة اليومية: مراسلون ومحللون منفوخون بالأهمية الذاتية أمثال موشيه نوسباوم، يتحدثون عن مواجهات مع شهود الادعاء- وهذا الامر لم يكن موجودا أصلا. هم يستمرون بالكذب عليكم كل مساء. هذا ما تشكله تقاريرهم، أخبار مزيفة كبيرة".

أبرز أشكال تدخل نتنياهو جلب عليه ملف القضية 2000

أبرز أشكال تدخل نتنياهو هو ما جلب عليه ملف التحقيق الذي يعُرف بالقضية 2000، وموضوعها تسجيلات تحمل الشبهة بأن رئيس الحكومة الإسرائيلية، خطط لعقد صفقة مع صاحب صحيفة "يديعوت أحرونوت" أرنون موزيس، في مركزها إضعاف صحيفة "يسرائيل هيوم" المجانية (التي يقال تهكماً إن نتنياهو هو محررها الفعلي لشدة إيجابيّة تغطيتها له)، مقابل تغيير سياسة النشر في صحيفة موزيس. في هذا الإطار يقول محللون إن الشرطة تنسب لرئيس الحكومة شبهة الرشوة كون إضعاف الصحيفة المجانية سيخدم منافستها مالياً مباشرة من خلال المساحات الإعلانية. وكانت صحيفة "هآرتس" الاسرائيلية نشرت أن لقاءات نتنياهو وموزيس بدأت منذ العام 2009. حيث كان نتنياهو يقف أمام معركة انتخابية صعبة وحاول إحباط الهجوم عليه من قبل الصحيفة الأكثر انتشارا في البلاد آنذاك.

ولزيادة التحديد، هناك معركة بين نتنياهو وبين القناة العاشرة التي باتت مساحة حريتها في التغطية الصحافية محل تساؤلات. فالصحافي رفيف دروكر العامل في هذه القناة تقدم بالتماس الى المحكمة العليا (بعد أن رفضت المحكمة المركزية طلبه) لاستصدار قرار يلزم نتنياهو بكشف مواعيد محادثات أجراها مع ناشر صحيفة "يسرائيل هيوم" الثري الأميركي اليهودي، شيلدون إدلسون، ومحرر الصحيفة السابق، عاموس ريغف. دروكر أراد عملياً كشف ما إذا كان نتنياهو هو "رئيس التحرير الفعلي" للصحيفة، بمعنى أنه يتدخل في مضامين بل في عناوين الصحيفة، كما تدعي جهات صحافية إسرائيلية. وبعد أن أمرت المحكمة نتنياهو بذلك، توجه الأخير اليها طالبا إعادة النظر في القرار كونه "يمس بشكل كبير بالحق بالخصوصية"..

أكبر المستفيدين هم من يقودون معارك وحروباً ضد أية جهة نقدية صحافية

قبل أشهر كتب أوري سافير، أحد الدبلوماسيين السابقين، أن "رئيس الحكومة بنيامين نتنياهو يتصرف كمن يتطلع إلى الإعلام الزائف. وحسب فكره، فإن المواطنين المعنيين بحقائق الحياة (مثل تحقيقات الشرطة) هم خطر على حكمه، وهم ضحايا "الإعلام اليساري" الذي يعنى بصيد الساحرات ضده. كل حقيقة هي أنباء ملفقة. الإعلام هو بالفعل كلب الحراسة للديمقراطية. فكلما كان النظام أقل ديمقراطية، فان أكاذيب الحكومة تكون أكبر، وكل شيء في الدولة يحصل بذنب قوى المعارضة. الاحتلال ليس احتلالا، بل تحرير لبلاد آبائنا وأجدادنا؛ محافل إنفاذ القانون تدار غير مرة من جماعات سياسية ذات مصالح؛ محكمة العدل العليا هي يسارية على نحو ظاهر. كل العرب مخربون؛ العالم كله ضدنا؛ الإعلام يساري والمعارضة خائنة. هذه فقط جزء من الشعارات التي تبيعها الحكومة للجمهور. في مواجهة هذه الظاهرة الخطيرة، سواء في أميركا ترامب أم في إسرائيل نتنياهو، هناك واجب لمعارضة شجاعة، مجتمع مدني نشط يخرج للتظاهر وإعلام نزيه. دوره هو أن يعكس الواقع بشكل موضوعي، حتى لو لم يكن حياديا دوما".

ويتابع سافير: "مسموح للصحافي أن يعرب عن مواقفه، ولكن ألا يشوه الواقع. المصداقية والأخلاقية تقبعان في اساس مهنة الإعلام. هذا صحيح بالنسبة لمعظم الإعلام الاسرائيلي، ناهيك عن الصحافيين الأكثر شجاعة، مثل إيلانا دايان، رفيف دروكر، أمنون أبرموفتش، بن كسبيت وغيرهم. ليس لديهم خشية من سلطة الحكم، وهم يستندون إلى مصادر ذات مصداقية. أما صناعة الأنباء الملفقة فتديرها الإدارة، هنا وفي دول أخرى. هدف الحكومة بحكم طبيعتها هو أن تسوق نفسها للجمهور ولهذا فإنها تلون الواقع بألوان الدعاية. هذه المعركة في إسرائيل هي اليوم في ذروتها، ونتنياهو لا شك انه لا يزال يتصدرها. ولكن الأوان لم يفت بعد".

إعلام لا يكشف أمام الجمهور مكامن الخلل السياسي العميق

هذا مثال على تعمّق الجدل الذي لا ينحصر في "مصير وسيلة إعلام" محددة، بل يطال ركائز سياسية وثقافية عميقة في الحلبة الإسرائيلية. ولكن يجب القول، بل إعادة تأكيد القول بالأحرى، إن إبقاء الإعلام بأكثر صيغه جرأة على تابوهات ومسائل يُخشى الاقتراب منها، ليس خوفاً من السلطة الحاكمة، بل من "الرأي العام للإجماع القومي"، وهو المرتبط بمصلحة أصحاب وسائل إعلامية من "التجّار" في مغازلة السوق والزبائن، يبقي أي جدل بعيداً عن الوصول إلى العمق المطلوب. وهنا يستغل سياسيون يتقنون الانتهازية والتحريض الأمر لاتهام الإعلام الذي ينتقدهم بـ"اليسارية" وهو الذي يحاذر كيلا تعلق به هذه "التهمة"، فيصبح مخطئا مرتين: مرة حين يغازل القاسم المشترك الواسع ويتساوق مع الحكومة في "المسائل الكبرى"، ومرة أخرى حين لا يكشف أمام الجمهور مكامن الخلل السياسي العميق، لتبقى الشرائح الواسعة في جيب السلطة، قابلة للاستغلال والتحريض على الدوام.

هذه الخاصيّة لا تقتصر على الإعلام الذي يتزيى بالليبرالية، بل تنطبق في الحقيقة على معسكر كبير في إسرائيل يستخدم جميع مفاهيم ومصطلحات وعبارات "الحكم السليم" و"النزاهة في الحكم" و"النزاهة القانونية"، لكنه يتوقف عن الكلام حين يصطدم بمسائل تطلق عليها السلطة صفات مثل "أمنية" و"قومية" وما شابه. في هذا العمق تكمن الأرضية التي تتيح ليمين شعبوي تزييف الواقع وتفاصيله لأغراض التحريض والتحشيد، وتتيح له أن يحقق النجاحات أيضاً!

 

المشهد الإسرائيلي

أحدث المقالات