أكدت ورقة تقدير موقف صادرة عن "معهد أبحاث الأمن القومي" في جامعة تل أبيب أن هناك حاجة إلى حوار إسرائيلي- أميركي مكثف من أجل بلورة سبل تحقيق المبادىء التي تضمّنتها وثيقة استراتيجيا الأمن القومي التي عرضها الرئيس الأميركي دونالد ترامب، في أواسط كانون الأول الفائت وجاءت ضمن إطار "استراتيجية أميركا أولاً" التي وعد بها ترامب خلال حملته الانتخابية.
وجاء في هذه الورقة التي كتبها اللواء احتياط عاموس يدلين، رئيس "معهد أبحاث الأمن القومي"، وأفنير غولوب، الباحث في المعهد:
في 18 كانون الأول 2017 عرض الرئيس الأميركي، دونالد ترامب، وثيقة استراتيجيا الأمن القومي لإدارته. وتضمّنت الوثيقة بالتفصيل وجهة نظر الإدارة الأميركية في مجال الأمن القومي، والمبادىء الأساسية التي يجب أن توجِّه عمل الإدارة من أجل تحقيقها. وتمزج الوثيقة الحالية السياسة في الموضوعات الداخلية الأميركية بالسياسة الخارجية، ضمن إطار استراتيجية "أميركا أولاً" التي وعد بها الرئيس ترامب خلال المعركة الانتخابية. وعلى الرغم من أن الوثيقة لا تقدّم خطة استراتيجية منظمة، فإنها تشير إلى المبادىء المركزية التي توجّه الإدارة الأميركية، وتؤكد الحاجة إلى حوار أميركي- إسرائيلي من أجل بلورة سياسية أمنية منسقة في الشرق الأوسط.
بحسب الوثيقة الأميركية، تمتاز الساحة الدولية بالصراع بين الولايات المتحدة وبين ثلاث مجموعات متعددة من التهديدات: المجموعة الأولى هي الدول العظمى "التصحيحية"، الصين وروسيا؛ الثانية هي الدول "المارقة"، إيران وكوريا الشمالية؛ الثالثة تشمل التنظيمات الإرهابية الجهادية، مثل تنظيم "الدولة الإسلامية" والقاعدة. ومن أجل الانتصار في هذا الصراع يتعين على الولايات المتحدة الدفاع عن أرصدتها ومواطنيها داخل حدودها، والدفع قُدُماً بمصالحها في شتى أنحاء العالم، من خلال الاعتماد على التعاون وتعزيز تحالفاتها مع لاعبين إقليميين يشاطرونها مصالح وقيم مشتركة. وبخلاف ما ذكره جزء من منتقدي ترامب، ليس المقصود هنا استراتيجيا انعزالية، بل هي حصيلة رغبة أميركا في التأثير في النظام والسياسة الدوليين بالاستناد إلى الفهم أن المقصود هو مصلحة أميركية تنبع من الاعتراف بالدور التاريخي للولايات المتحدة. كما أنه ليس المقصود استراتيجيا تشجع الحرب واستخدام القوة، بل على وجه التحديد استراتيجيا تشدد على التطلع إلى الاستقرار من خلال تعزيز القوة الأميركية، ونشرها على شبكة تحالفاتها الدولية.
استراتيجية الشرق الأوسط
فيما يتعلق بالشرق الأوسط، تتطرق الوثيقة إلى ثلاثة تهديدات مركزية: تمركُز التنظيمات الإرهابية في المنطقة وتصدير الإرهاب منها إلى سائر العالم؛ توسُّع النفوذ الإيراني في المنطقة، وضمن هذا الإطار دعم إيران للإرهاب والتآمر؛ تهديد استقرار سوق الطاقة العالمية.
وتشدد الوثيقة على عدم نية الولايات المتحدة الانسحاب من الشرق الأوسط أو تقليص وجودها في المنطقة. ومعنى هذا الكلام أن الرئيس ترامب لا ينوي الاستمرار في استراتيجية "الانتقال" من الشرق الأوسط إلى شرق آسيا، التي قادها الرئيس الذي سبقه باراك أوباما. بالإضافة إلى ذلك جاء في الوثيقة أن الولايات المتحدة لن تفرض إصلاحات ديمقراطية على أنظمة المنطقة، كما جرى خلال ولاية الرئيس جورج بوش الإبن. ومع ذلك، تمت الإشارة إلى أن الولايات المتحدة ستدعم الأنظمة التي ستقرر من تلقاء ذاتها الدفع قُدُماً بإصلاحات، وفي هذا الإطار جرى ذكر السعودية ومصر.
وورد في المذكرة أيضاً أن الإدارة الحالية ترفض تقدير الإدارت السابقة بأن النزاع الإسرائيلي - الفلسطيني هو عقبة مركزية أمام السلام في الشرق الأوسط. وفي مقابل ذلك، تكرر الوثيقة تقدير الرئيس ترامب بأن إيران هي العامل المركزي في عدم الاستقرار في المنطقة، وأنها ليست جزءاً من الحل بل هي جزء من مشكلات المنطقة. وعملياً، ما يجري الحديث عنه هو تبني الحجج الإسرائيلية.
بالإضافة إلى ذلك، توضح الوثيقة أن حل التهديد الإيراني يكون ضمن إطار تحالف ينشىء جبهة موحدة وواسعة يمكنها أن تخلق توازن قوى إقليمياً ضد إيران وإرساء الاستقرار في الشرق الأوسط. وبحسب الوثيقة يجب على هذا التحالف أن يستند إلى التعاون بين دول الخليج السنّية وأن يتضمن أيضاً تعاوناً مع إسرائيل. وهذان شرطان لم ينضجا بعد، ومن الصعب التوقع أنهما سينضجان في وقت قريب.
الانعكاسات على إسرائيل
تتيح الوثيقة الاستراتيجية الأميركية للزعامة الإسرائيلية تقدير الفرص والتحديات التي تواجهها، والتي من المفترض أن تتأثر بالنظرة العامة الأميركية والسياسة الناتجة منها فيما يتعلق بالشرق الأوسط.
بداية من المهم التشديد على أن الوثيقة تكشف فجوات في الاستراتيجية الأميركية، ولا تعرض بالتفصيل خطوات محددة يجب على الإدارة القيام بها كي تترجم الاستراتيجية المعلنة إلى أفعال. ومصدر التخوف هو احتمال ألاّ تُترجم المقاربة المقترحة إلى أفعال، ونتيجة ذلك أن تواصل إيران سعيها لتوسيع نفوذها في المنطقة من دون إزعاج كبير. ومن المتوقع أن يجري درس هذه الفجوة في إطار الحوار بين أذرع الإدارة المتعددة وداخلها فيما يتعلق بالسياسة التي يجب انتهاجها في ضوء مبادىء الوثيقة، وخصوصاً على المستوى الاستراتيجي العسكري. ومعنى هذا أنه سيكون لإسرائيل في الفترة المقبلة تأثير في بلورة السياسة الأميركية عملياً.
لذلك ثمة حاجة إلى اجراء حوار وثيق ودائم بين إسرائيل والولايات المتحدة، هدفه بلورة استراتيجية أميركية - إسرائيلية منسقة ضد إيران، تضمن تحقيق المبادىء التي تضمّنتها الوثيقة الأميركية، وبالإضافة إلى ذلك تحافظ على المصالح الإسرائيلية. ويجب أن تتضمن هذه الاستراتيجية المشتركة اتفاقاً بين واشنطن وإسرائيل يرتكز على مبادىء عملية منسقة في حال حدوث خروقات إيرانية متعددة للاتفاق النووي الموقّع بين إيران والدول العظمى (والذي لم تكن إسرائيل طرفاً فيه). هذا الاتفاق الجانبي يجب أن يتضمن الحفاظ على قدرة إسرائيلية مستقلة لمنع إيران من تجاوز العتبة النووية كمخرج أخير. كما يجب إدخال قضايا الجهد الاستخباراتي، وأُطر تحسين الاتفاق النووي، ومواجهة مشروع الصواريخ الإيرانية، من ضمن التفاهمات التي يجب بلورتها. بالإضافة إلى ذلك، يجب على إسرائيل والولايات المتحدة تنسيق تحركاتهما ضد التهديدات الإيرانية التي لا علاقة لها بالمشروع الإيراني، وبصورة خاصة نشر الإرهاب والسلاح في الشرق الأوسط، والتمركز الإيراني في سورية.
ضمن هذا السياق، من المهم التشديد على أن الرد الأميركي على التهديد الإيراني، كما جرى التعبير عنه في الوثيقة الاستراتيجية التي قدمها الرئيس ترامب، مكتوب بلغة دفاعية: الهدف هو وضع حد للتحركات الإيرانية، أساساً بواسطة إنشاء جبهة تخلق توازن قوى إقليميا. والمقصود هو كبح النشاطات الإيرانية وتقليص ضررها، بالتعاون مع لاعبين إقليميين مؤيدين للأميركيين، كشرط لتحقيق هذه الأهداف. وعملياً، تبقي هذه المقاربة إسرائيل في جبهة الصراع في مواجهة إيران، بينما القدرة على إقامة جبهة إقليمية واسعة مشروطة بقدرة دول الخليج على التعاون، وتحديداً في هذا الوقت الذي يزداد فيه التوتر بينها، في ضوء محاولة السعودية الدفع قدُماً بسياستها بطريقة عنيفة ومحاولة فرضها على سائر دول الخليج. علاوة على ذلك، وفي ضوء عدم حدوث تقدم في العملية السياسية بين إسرائيل والفلسطينيين من المتوقع أن تظهر دول الخليج، وبينها السعودية، استعداداً محدوداً جداً للتعاون مع إسرائيل. لذا، يجب أن نبحث في الحوار الإسرائيلي – الأميركي بدائل عمليات مشتركة على افتراض عدم القدرة على تحقيق فكرة جبهة إقليمية معادية لإيران.
ثمة فجوة أخرى في الوثيقة الاستراتيجية الأميركية هي عدم وجود سلم أولويات بين الساحات المتعددة. ويوجد تخوف من أنه على الرغم من عدم نية الإدارة الأميركية نقل الاهتمام والموارد من الشرق الأوسط إلى آسيا، فإنها هذا تقدم على ذلك، جرّاء ازدياد التهديد الصيني، وازدياد أهمية آسيا المركزية الاقتصادية، والتهديد النووي لكوريا الشمالية. على هذه الخلفية، يتعين على إسرائيل فحص تأثير السيناريوهات المختلفة في الاستعدادات الأميركية لتحقيق الاستراتيجية المعلنة في الشرق الأوسط، وإشراك الجانب الأميركي في نتائج هذا الفحص، في أثناء النقاش معه من ضمن إطار التنسيق الاستراتيجي.
ختاماً، لا تتطرق الوثيقة الأميركية إلى الدور الأساس الذي تقوم به روسيا في سورية وإلى تصاعد نفوذها في الشرق الأوسط كله. والمقصود هنا قضية أساسية تتعلق بالتنسيق بين إسرائيل والولايات المتحدة، بينما توصف روسيا كخصم استراتيجي للولايات المتحدة يعمل ضد المصالح الأميركية. يتعين على الزعامة الإسرائيلية المحافطة على التنسيق الوثيق مع موسكو بسبب وجودها في سورية واحتمال التصعيد بين إسرائيل وروسيا بشأن سورية، وأيضاً بسبب فرص الاستعانة بروسيا من أجل كبح جزء من التحركات الإيرانية في هذه الدولة. لذلك، يجب أن يتضمن الحوار الأميركي – الإسرائيلي معالجة لهذه الدينامية الثلاثية، والتركيز على تنسيق التوقعات بين إسرائيل وواشنطن فيما يتعلق بالسياسة إزاء سورية، وخصوصاً ايجاد آليات تساعد في إقناع روسيا باستخدام نفوذها لكبح النفوذ الإيراني في المنطقة.