المشهد الإسرائيلي

ملحق أسبوعي يتضمن مقالات صحفية وتحليلات نقدية ومتابعات عن كثب لمستجدات المشهد الإسرائيلي.
  • تقارير، وثائق، تغطيات خاصة
  • 1539

يحدد كاتب الورقة بعنوان "الخطر الديمغرافي: السكان الإسرائيليون "يهجرون" النقب والجليل"، الخطر الاستراتيجي الكامن في هجرة اليهود السلبية من الجليل والنقب إلى وسط إسرائيل في مستويين اثنين أساسيين، هما: "المستوى الاجتماعي ـ البيئي" و"المستوى القومي".

 

في المستوى الأول، "الاجتماعي ـ البيئي"، يعزو الكاتب انتقال سكان النقب والجليل إلى منطقة متروبولين غوش دان، وكذلك إصرار سكانها على البقاء فيها، إلى ما تتمتع به هذه المنطقة من "قوة اقتصادية واجتماعية هائلة" ولّدت "فهماً عاماً كارثياً" ـ كما يصفه ـ يربط ما بين السكن في هذه المنطقة وقدرة السكان على الفوز بمستويات تعليمية عالية، ثم التمتع بمستوى عال من الحياة وجودتها. لكن الثمن الاقتصادي المرتفع جدا المترتب على السكن في وسط البلاد لا يتيح الانتقال إلى هناك إلا للعائلات الميسورة فقط من النقب والجليل، بينما يبقى السكان ذوو الإمكانيات الاقتصادية المتوسطة والقليلة وحدهم في الضواحي الجغرافية. وهذا من شأنه تعميق الفجوات الاقتصادية ـ الاجتماعية القائمة في المجتمع الإسرائيلي أصلاً ومفاقمتها، أكثر فأكثر، تعميق اللامساواة، تعميق الشعور بالاغتراب والانفصال والاستمرار في نهج رصد وتوزيع الموارد بصورة غير متوازنة وغير متساوية في مختلف أنحاء البلاد.

في المقابل، من شأن الطلب المتزايد على السكن في منطقة وسط البلاد، بما يفوق المعدلات والاحتياجات الطبيعية والمقبولة، أن يؤدي إلى المس بجودة الحياة فيها. أولا، لأنه يؤدي إلى البناء المكثف وإلى إنشاء بنى تحتية داعمة كثيرة، مما سيقلص كثيرا من مساحات المناطق العامة المفتوحة، وهو ما تبدو آثاره وانعكاساته على الأرض واضحة اليوم ـ تقليص وتدمير شواطئ البحر والمناطق الزراعية، تدمير ما يسمى "الرئات الخضراء" (مناطق مشجرة وحدائق عامة) ومناطق الاستجمام والترفيه، ومنع تغلغل المياه إلى "المياه الجوفية". كما يؤدي هذا الطلب المتزايد إلى تقليص قدرة المنطقة (وسط البلاد) على معالجة المياه العادمة (مياه المجاري) والنفايات المختلفة، بما يحمل آثارا واسقاطات مدمرة على جودة المياه ومعدلات التلوث الأرضي. وهذا فضلا عما يسببه هذا الطلب المتزايد من ارتفاع متواصل في أسعار الدور السكنية في وسط البلاد، بما لهذا من انعكاسات تتمثل في زيادة غلاء المعيشة بوجه عام.

إلى جانب هذا كله، وفوقه، يؤدي الطلب المتزايد على السكن في منطقة وسط البلاد إلى رفع معدلات الكثافة السكانية فيها بصورة كبيرة، علما بأنها تُصنَّف اليوم بين أكثر المناطق اكتظاظا بالسكان في العالم الغربي قاطبة. ومن شأن ارتفاع معدلات الكثافة السكانية، إذا ما استمرت بهذه الوتيرة، تدمير شبكات المواصلات المحلية، علما بأن الشوارع في إسرائيل تحتل ـ حتى العام الماضي 2016 ـ المركز الأول في معدلات الاكتظاظ عليها من بين الدول المتطورة (أكثر من 2500 حافلة للكيلومتر الواحد). ففي غياب شبكة مواصلات عامة لائقة، يؤدي الاستخدام الزائد لوسائل النقل الخاصة (معدل "الزيادة الطبيعية" هي: نحو 500 ألف وسيلة نقل جديدة كل سنة) إلى دخول نحو 700 ألف وسيلة نقل إلى "متروبولين تل أبيب" يوميا (زيادة بنسبة 55% عما كانت عليه في العام 2000) وإلى زيادة متوسط السرعة في شوارع المنطقة إلى نحو 11 كيلومترا في الساعة. لكن تقليص المناطق المفتوحة في وسط البلاد ـ كما ذُكر آنفا ـ يحدّ كثيرا من إمكانيات توسيع الشوارع القائمة وشق شوارع جديدة، ما يعني أن التحولات الديمغرافية في هذه المنطقة ستؤدي، بالضرورة، إلى مفاقمة أزمات السير والاختناقات المرورية وإلى زيادة العبء على شبكات المواصلات في المنطقة، بما يترتب على ذلك من ارتفاع وتائر الضجيج والملوثات البيئية الأخرى التي تشكل أحد الأسباب الرئيسة في ارتفاع معدلات المرض والوفيات.

ينوه الكاتب، هنا، إلى أن الاكتظاظ السكاني في حد ذاته ليس هو المشكلة، ويسوق مدينة نيويورك مثالا على هذا: مساحة منطقتي تل أبيب ووسط إسرائيل تعادل أكثر من ضعفيّ مساحة نيويورك التي يسكن فيها، براحة تامة، أكثر من ضعفين ونصف الضعف من عدد السكان في المنطقتين المذكورتين في إسرائيل. لكن الفارق الجوهري بين الحالتين هو في البنى التحتية البلدية ـ فبينما تلك التي في نيويورك متطورة ومؤهلة لاستيعاب ذلك العدد من السكان وتلبية احتياجاتهم، عانت البنى التحتية نفسها في "متروبولين غوش دان" من إهمال فظيع على مدى سنوات طويلة.

وبناء على هذا كله، يحذر الكاتب من أن الاكتظاظ السكاني في منطقة وسط إسرائيل، بما يستتبعه من مسّ حاد ومتعدد الأوجه بمستوى الحياة وجودتها، لا بد من أن يؤدي إلى تدهور اجتماعي سيتمثل في المظاهرات، العجز عن تطبيق القوانين وفرضها والتراجع الحاد في الشعور بالأمن العام وبالأمن الفردي. وسيقود هذا كله، مجتمعا، برأي الكاتب، إلى نشر أجواء من اللامبالاة وعدم الاكتراث بما يجري في الدولة بين سكان هذه المنطقة الذين ستقودهم مصالحهم الخاصة، الاقتصادية وغيرها، إلى تفضيل استثمار أموالهم ومواردهم في خارج البلد، على حساب الاقتصاد المحلي، بل وربما يقودهم حتى إلى مغادرة البلاد والهجرة منها نهائيا.

في المستوى الثاني، القومي، يشير الكاتب بداية إلى أنه في مقابل "الهجرة السلبية المكثفة" المتزايدة بين السكان اليهود، من منطقتي النقب والجليل إلى منطقة وسط إسرائيل، خلال العقدين الأخيرين بوجه خاص، تتواصل "الزيادة الديمغرافية الجوهرية" بين السكان العرب الفلسطينيين في هاتين المنطقتين (النقب والجليل) وهو "ما يزعزع الميزان الديمغرافي بين اليهود والعرب في النقب والجليل، اللتين تشكلان معاً نحو 76% من مساحة الدولة الإجمالية"!

في الجليل، أخذت نسبة السكان اليهود في الانخفاض الحاد والمتواصل ابتداء من العام 1991، حتى وصلت في العام 2015 إلى 1ر43% "فقط" من مجموع السكان في الجليل، في الوقت الذي انخفضت فيه نسبتهم في ثلاث مناطق مركزية، هي نتسيرت عيليت وكرميئيل ومسجاف (البطوف)، إلى 20% "فقط". وهي سيرورة مرشحة للاستمرار حيال معدلات التكاثر الطبيعي السنوية بين السكان اليهود (4ر1%)، مقارنة بمعدلاته بين السكان العرب (7ر1%) وحيال استمرار هجرة السكان اليهود السلبية من الجليل.

وفي النقب، ثمة سيرورة مماثلة أيضا، إذ أخذت نسبة السكان اليهود في الانخفاض الحاد ابتداء من العام 1995 (نهاية موجات الهجرة اليهودية من شمال أفريقيا والاتحاد السوفييتي السابق)، حتى وصلت في العام 2015 إلى 7ر59% "فقط" من مجموع السكان في النقب. وفي هذه المنطقة، أيضا، من المرجح استمرار هذه السيرورة بفعل معدلات التكاثر الطبيعي السنوية بين السكان اليهود في المنطقة (6ر1%) مقابل معدلاته بين السكان العرب هناك (7ر3%).

يقول الكاتب إن الإخلال بالميزان الديمغرافي في الجليل والنقب "ينطوي على خطر جيو سياسي يتهدد دولة إسرائيل". وهو خطر يرسمه، بالأساس، التاريخ الدولي الذي يفيد بأن "الأقليات التي تتمتع بوعي وطني ولديها قيادات وطنية، والتي تشكل أغلبية سكانية في منطقة جغرافية خاصة بها، تجنح في العادة إلى تحقيق تطلعاتها القومية من خلال المطالبة، العنيفة أو الهادئة على حد سواء، بـ"الاستقلال الذاتي" (كتالونيا في إسبانيا) أو بالالتحاق بدولة أخرى قد تكون ذات حدود مشتركة (شبه جزيرة القرم). وعلى هذا، فليس من المستبعد أن يتحرك المواطنون العرب في إسرائيل ـ الذين يعبرون باستمرار عن عدم الرضى من الوضع القائم، السياسي والاجتماعي، في الدولة ـ بمثل ما فعلت أقليات أخرى في العالم من قبل.

وعلى هذا، فإن استمرار تجمع السكان اليهود في وسط إسرائيل، برأي الكاتب، "قد يحوّل هذه المنطقة، في يوم من الأيام، إلى مدينة ـ دولة من غير ظهر لوجستيّ"! ذلك أن "التواصل الجغرافي ـ الإقليمي العربي ما بين الجليل، يهودا والسامرة (الضفة الغربية)، النقب، قطاع غزة والأردن، سيجعل التنقل العسكري والمدني بين أجزاء الدولة الإسرائيلية صعباً جداً، وسيجعل الجمهور اليهودي، المركَّز في موقع واحد، معرضاً لأخطار جسيمة"!

ويستدرك الكاتب فينوه إلى أن "هذا السيناريو لا يبدو قابلا للتحقق في المستقبل المنظور" طالما بقي الانتماء إلى دولة إسرائيل "الخيار الأفضل والأكثر جاذبية بالنسبة للعرب في إسرائيل"!

ولكن، ورغم ضآلة احتمال تحقق هذا السيناريو، يشدد الكاتب على أن "تبلور أغلبية عربية وازنة في منطقتي النقب والجليل سيؤدي، تدريجيا، إلى تآكل حدود السيادة الإسرائيلية الجوهرية وإلى تقليص قدرتها على فرض القوانين وتطبيقها فيهما"! ويعتبر أن "الصعوبات التي تواجهها الحكومة في مجال تطبيق سياساتها حيال البناء غير المرخص بين البدو في النقب تشكل أحد الأعراض المركزية لذلك".

وإلى جانب هذا، يحذر الكاتب من أن تبلور أغلبية عربية في منطقتي النقب والجليل، "تختلف معاييرها وأعرافها، جوهريا، عن تلك السائدة في دولة إسرائيل" ـ في المجالات الثقافية، القانونية، السكانية، الدينية واللغوية ـ "قد يحمل في طياته تأثيرات حادة، بل حاسمة، على طابع دولة إسرائيل وهويتها"!

ما العمل؟!

يرى الكاتب أن مواجهة هذه المخاطر المفصلة آنفا، ثم "التهديد الاستراتيجي الوجودي" المترتب عليها، تحتاج إلى "خطة لتشجيع الاستيطان اليهودي في النقب والجليل، تكون مغايرة لما سبقها من الخطط والمشاريع" التي أخفقت في تحقيق أهدافها، نظرا لسبب مركزي ـ يصفه الكاتب بأنه "الادعاء المركزي في هذه المقالة" ـ يتمثل في أنها "لم تسع إلى إحداث تغيير استراتيجي مستديم، منظم وشامل، في جودة حياة السكان في هاتين المنطقتين"، بل ارتكزت على استراتيجيتين إشكاليتين ثبت فشلهما هما "منح المحفزات والامتيازات الاقتصادية لتطوير الاستيطان وحل مشاكل عينية فقط".

أما "الخطة الجديدة المغايرة لما سبقها" التي يقترح الكاتب اعتمادها لتشجيع الاستيطان اليهودي في النقب والجليل، فينبغي أن تقوم على أساس تطبيقها على "مرحلتين اثنتين":
المرحلة الأولى ـ وقف "الهجرة السلبية" اليهودية من النقب والجليل، من خلال توظيف موارد وميزانيات حكومية كبيرة بشكل خاص لتطوير وتحسين البنى التحتية ذات التأثير المباشر على جودة حياة السكان في هاتين المنطقتين. ويحتاج هذا إلى تشكيل "طاقم مستقل في ديوان رئيس الحكومة" يتولى مهمة تنسيق وتنفيذ الخطوات والمشاريع العملية بين الوزارات والأذرع الحكومية المختلفة، يحل الخلافات فيما بينها ويبلور "أفكارا منظمة وناظمة لتطوير النقب والجليل". ويرى الكاتب، في الحديث عن هذه المرحلة، ضرورة "تجنيد وتجند جهات سياسية مؤثرة وذات مصلحة مركزية في تطوير النقب والجليل لمساندة عمل هذا الطاقم"، وهو ما برز غيابه في كل الخطط السابقة خلال السنوات الماضية، ونجم ـ بشكل رئيس ـ عن "غياب تمثيل مناطق واسعة من النقب والجليل في الكنيست".

ويقترح الكاتب تركيز الجهود كلها، في المرحلة الأولى، في تطوير وتحسين ثلاثة مجالات خدماتية مركزية، وخاصة في المدن الكبرى في النقب والجليل، مثل بئر السبع، ديمونا، كرميئيل وطبريا، هي: مجال العمل والتشغيل، مجال التعليم ومجال الصحة.

مع استكمال هذه المرحلة فقط، بما يوصل سكان الجليل والنقب اليهود إلى قناعة راسخة بجدوى بقائهم هناك وبما ينطوي عليه ذلك من إمكانيات وآفاق مستقبلية كامنة، يمكن الانتقال إلى المرحلة الثانية وهي: محاولة اجتذاب أعداد وقطاعات أخرى من السكان اليهود من مناطق مختلفة من إسرائيل للانتقال إلى السكن في منطقتي النقب والجليل، "ليس طمعاً بالفوز بالمحفزات والامتيازات المالية وإنما طمعاً بتحسين مستوى حياتهم وجودتها، انطلاقا من القناعة بتوفر هذه الإمكانية وديمومتها".

 

المصطلحات المستخدمة:

كرميئيل, ديمونا, الكنيست, رئيس الحكومة

المشهد الإسرائيلي

أحدث المقالات