ينظر الإسرائيليون، وغيرهم أيضا، إلى اليهود المتزمتين دينيا – الذين يعرفون بـ"الحريديم" – على أنهم كتلة واحدة، يرتدون ثيابا سوداء ولديهم المعتقدات ذاتها ولا توجد فروق بينهم. لكن هذا الوصف غير صحيح ولا يعكس الواقع، بحسب كتاب نُشر في إسرائيل، مؤخرا، بعنوان "دليل المجتمع الحريدي - معتقدات وتيارات" من تأليف البروفسور بنيامين براون، وصدر عن دار النشر "عام عوفيد" و"المعهد الإسرائيلي للديمقراطية".
توجد في المجتمع الحريدي في إسرائيل تيارات ومجموعات وفصائل، وحتى طبيعة شخصيات، عديدة ومتنوعة جدا. كذلك فإنهم يتركزون في أماكن مختلفة وينقسمون إلى مستويات مختلفة. ولذلك، ثمة حاجة إلى خريطة من أجل رسم صورة للمجتمع الحريدي والتعرف على تفاصيله.
وتحول الحريديم من أقلية صغيرة وضعيفة وهامشية تقريبا، وكانت تنظر إليهم الأغلبية العلمانية خصوصا على أنهم يشكلون "الآخر" الذي يساهم في بلورة الهوية اليهودية بصورة سلبية، إلى مجموعة كبيرة وقوية ذات تأثير على بلورة الهوية الإسرائيلية الجديدة. وليس التكاثر الطبيعي فقط هو سبب هذا التغيير في مكانة الحريديم. فقد بدا حتى ستينيات القرن الماضي أن المجتمع الحريدي كان يواجه صراعا على البقاء، بينما منذ السبعينيات بات هذا المجتمع يتقدم بسرعة ويعزز قوته التعليمية والاجتماعية والسياسية. لكن التراجع المتواصل في أوضاعه الاقتصادية هو الذي يؤخر تقدم هذا المجتمع.
وتبين منذ بضعة عقود أن البنية الاجتماعية للحريديم أصبحت أقل متانة مما كان يعتقد. وبدأت تظهر تصدعات أولية، كما برزت تحولات مثيرة في هذا المجتمع الذي كان يُصور دائما باللونين الأبيض والأسود، جعلت الجمهور الواسع في إسرائيل يطلع على التعقيدات الموجودة في المجتمع الحريدي. وبدأ الحريديم يثيرون اهتمام الجمهور الإسرائيلي، ويتجلى ذلك من خلال الصحافة الإسرائيلية التي أخذت تنشر أخبارهم بشكل يومي. وصدرت كتب، وألّفت مسرحيات وبُثّت مسلسلات تلفزيونية وبرامج إذاعية تمحورت حول الحريديم، الأمر الذي ساهم كثيرا في تغلغل الجمهور الحريدي إلى الوعي العام الإسرائيلي. وهناك مراسل واحد على الأقل متخصص في شؤون المجتمع الحريدي في كل واحدة من الصحف الكبرى.
وطرحت هذه الوسائل الإعلامية القضايا المتعلقة بالحريديم، وأبرزها التجنيد للجيش والاندماج في سوق العمل وإقصاء النساء والتمييز ضد اليهود الشرقيين والتهوّد وغير ذلك من القضايا المرتبطة بالعلاقة بين الدين والدولة. وفي هامش هذا المشهد، جرى أيضا تناول فضائح في هامش المجتمع الحريدي، الذي كان يعتبر أن لدى أفراده مستوى دينيا – أخلاقيا مرتفعا. وكلما ازداد حضور الحريديم في الأجندة العامة، برز أكثر تنوعهم الكبير، ما بين أوساط ومجموعات وتفرعات أخرى يتميز بها هذا المجتمع.
من هو الحريدي؟
نظرت المحكمة العليا الإسرائيلية في التماس قدمه "معالاه – المركز للصهيونية الدينية" ضد وزير التربية والتعليم، في العام 1992، حول تخصيص ميزانية إلى "أنشطة ثقافية للحريديم"، بمبلغ عشرة ملايين شيكل. وطالب هذا المركز بالحصول على قسم من هذه الميزانية، وبرر طلبه بأن "الحريدي هو الشخص الورع من أقوال الرب"، وبناء على هذا التعريف فإن هذا المركز يستحق الحصول على قسم من الميزانية.
لكن المحكمة العليا ردّت هذا الالتماس، واقترحت تعريفا خاصا بها لمن هو الحريدي. في البداية، قالت المحكمة إن "حريديم" هو تعبير غير واضح. لكن من أجل أن تحسم في القضية القانونية الماثلة أمامها، وضعت المحكمة تعريفا لغرض تطبيق قانون الميزانيات فقط. ووفقا لتعريف المحكمة، فإن "حريديم" هم يهود يحافظون على تنفيذ الفرائض الدينية، ويتميزون بتشددهم في أساليب التعليم وطبيعة مجتمعهم ونمط حياتهم، الذي يميزهم عن باقي اليهود المتدينين.
ويعرف اليهودي الحريدي بالأساس بحسب لباسه، الذي يشمل قميصا أبيض تحت معطف أسود طويل ويعتمر قلنسوة سوداء. وهناك أمور أخرى تميز الحريدي، بينها أن الحريدي هو من يرى بنفسه أنه ملتزم بالشريعة اليهودية التقليدية، وملتزم تجاه الحاخامين، وخاصة تجاه حاخامي "كبار الجيل" كمفسرين مخولين للشرائع والكتب الدينية، ومن ينصاع للحاخامين الذين يوصفون بأنهم "كبار (علماء) التوراة" حتى في أمور ليس دينية، ومن يرفض ميولا لإجراء تغيير جوهري في نمط الحياة اليهودي، ويظهر تحفظا تجاه الصهيونية ودولة إسرائيل لأسباب دينية، ويحافظ بقدر كبير على لباس تقليدي، ومتشدد في اللباس النسائي المحتشم، ونقدي تجاه معظم القيم الثقافية العصرية وينظر بشكل إيجابي إلى العيش في مناطق سكنية منفصلة ولا يوجد فيها حضور كبير للعلمانيين والمتدينين الصهاينة.
لم يكن هناك تناقض دائم بين الحريديم والصهيونية الدينية. وبدأ الخلاف بين هذين التيارين في خمسينيات القرن الماضي، عندما حدث الشرخ الكبير في اليهودية الأرثوذكسية، ما أدى إلى انقسامها إلى تيارين مختلفين هما الصهيونية الدينية واليهودية الحريدية. وقبل هذا الانقسام كان المصطلح "حريدي" يتطابق مع المصطلح "أرثوذكسي"، ولذلك كان بإمكان شخص أن يعرف نفسه بأنه "حريدي صهيوني" من دون أن يشعر بأنه يعبر عن تناقض داخلي. لكن منذ الخمسينيات لم يعد هناك مجال لعبارة كهذه. وفي السنوات الأخيرة ظهرت عبارة "حردل" وهي اختصار لكلمتي "حريدي قومي"، لكن هذا ليس مرتبطا بالتيار الحريدي وإنما هو وصف للمتشددين جدا داخل تيار الصهيونية الدينية.
وظهرت تسمية "حريدي" لأول مرة في نهاية القرن الثامن عشر أو بداية القرن التاسع عشر، عندما تعالت أصوات بين اليهود في العالم تدعو إلى "تصحيحات دينية"، ووقف ضدهم أولئك الذين طالبوا بحماية الشريعة اليهودية التقليدية. وأطلقت على الذين يطالبون بتصحيحات تسمية "الإصلاحيين"، وتمت تسميتهم بالعبرية "المجددون" أو "المتجددون"، بينما تمت تسمية أولئك الذين طالبوا بالحفاظ على الشريعة التقليدية "أرثوذكس"، وبالعبرية "حريديم" و"الورعون".
الحريديم والصهيونية
انقسمت اليهودية الأرثوذكسية إلى حريديم وصهيونية دينية، لدى ظهور الحركة الصهيونية، في نهاية القرن التاسع عشر، وكان هذا انقسام داخل الجناح الذي وصف نفسه بأنه "حريدي". واستمرت الصهيونية الدينية والمتدينون المناهضون للصهيونية، برغم الخلاف الكبير بينهما، بالانتماء إلى التيار الديني الاجتماعي نفسه داخل اليهودية. فقد تحدثوا اللغة نفسها، وسكنوا في الأحياء نفسها، وتعلموا في الييشيفوت (المعاهد الدينية) نفسها، وارتدوا اللباس نفسه، وتزاوجوا من بعضهم.
وظهرت مؤشرات الانقسام والانفصال بين هذين التيارين في النصف الأول من القرن العشرين، إلا أن الانقسام المركزي حدث بعد قيام إسرائيل. وفي أعقاب ذلك برز هذان التياران كقوتين منفصلتين ليس بما يتعلق بنظرتهما إلى الصهيونية فقط، وإنما بروحهما الدينية والاجتماعية. وبات أولاد وبنات هذين التيارين مختلفين بكل ما يتعلق باللغة والأسماء وأماكن السكن والخدمة العسكرية والمستوى التعليمي والثقافة المستهلكة، كما برز الاختلاف بينهم من حيث القيادة الدينية ومقدار الانصياع لها والمثل الدينية وحتى في مقدار الحرص على تنفيذ الفرائض الدينية. كذلك توقفوا عن الزواج من بعضهم، والاتصال اليومي بين أبناء التيارين توقف بالكامل تقريبا.
ورغم أن تسمية "اليهودية الأرثوذكسية" بقي ساريا على التيارين الحريدي والصهيوني الديني، لكنه فرغ من مضمونه من الناحية الفعلية. على أثر ذلك أصبحت هناك مجموعتان أرثوذكسيتان. الصهيونية الدينية ترى قيمة دينية عليا بالاندماج في مؤسسات وحياة الدولة والمساهمة في بنائها، والحريديم يرون قيمة عليا في بناء "عالم التوراة"، أي منظومة الييشيفوت والكوليليم (أي المعاهد الدينية للبالغين المتزوجين).
وكانت هذه عملية تحول طويلة، بدايتها في مطلع القرن العشرين، وبرزت بشكل واضح بعد قيام إسرائيل، في العام 1948. وشكل تفكك "الجبهة الدينية الموحدة"، وهي الكتلة السياسية التي وحدت المتدينين الصهاينة والحريديم، في العام 1951، أبرز نقطة انكسار في اليهودية الأرثوذكسية كمجموعة واحدة.
"مجتمع الدارسين"
ينبع تطلع الحريديم إلى ترميم "عالم التوراة" في إسرائيل، بعد تدميره في أوروبا خاصة إبان الحرب العالمية الثانية، من الإيمان الذي يعتبر أن "تعلم التوراة هو عمل وجودي بالنسبة للشعب اليهودي". وتجدر الإشارة إلى أن تفسير الحريديم لتعلم التوراة يختلف عن الاعتقاد السائد، إذ أنهم يقصدون بتعلم التوراة دراسة الغمرا أو التلمود وتفسيراتهما.
بعد دمار مراكز اليهود والحريديم في أوروبا، بقيت الولايات المتحدة ومن ثم إسرائيل بعد قيامها بمثابة المركزين الكبيرين الوحيدين لتعلم التوراة. وهذان المركزان لم يكونا بارزين قبل المحرقة التي ارتكبها النازيون. وتطورت في هذين البلدين مراكز هامة لتعلم التوراة وكذلك لليهود الحريديم، لكن كلا المركزين، الإسرائيلي والأميركي، كانا مختلفين عن بعضهما؛ إذ يدرس في مؤسسات تعلم التوراة في الولايات المتحدة طلاب حتى سن الزواج أو بعد الزواج بسنوات قليلة، وقلة من الحريديم فقط درسوا في هذه المؤسسات لفترة أطول بعد الزواج. في المقابل، تطورت في إسرائيل مؤسسة الـ"كوليل"، التي يدرس فيها الحريديم الرجال المتزوجون. وهكذا، تطورت في السنوات الأولى بعد قيام إسرائيل ظاهرة فريدة من نوعها، وصفها علماء الاجتماع الإسرائيليون بـ"مجتمع الدارسين".
وقد خلق "مجتمع الدارسين" نظاما جديدا. فمنذ خمسينيات القرن الماضي، وبالأساس منذ الستينيات، طولب الرجل الحريدي بالتنازل عن حرية الاختيار في تحديد مستقبله والدراسة، التي تمنحه تأهيلا مهنيا وبابا لكسب الرزق، وبدلا من ذلك التوجه إلى الدراسة من خلال ما يوصف بأنه "عمل التوراة". وطولبت المرأة الحريدية بالتنازل عن قيام زوجها بالعمل وعن مستوى حياة معقول، وبأن تتوجه هي إلى العمل من أجل إعالة زوجها الذي يستمر في دراسته بعد زواجه أيضا. كذلك طولب ذوو الأزواج الحريديم الشبان بأن يتفهموا الظروف الجديدة، وأن يدعموا أبناءهم من الناحية الاقتصادية. ونتج عن ذلك أن العائلة كلها اضطرت إلى الاكتفاء بمستوى معيشة متدن أكثر بكثير من المعدل العام في إسرائيل. كما طولبت الدولة بأن تساهم من خلال تحرير أبناء الييشيفوت من الخدمة العسكرية الإلزامية، الأمر الذي شكل محفزا آخر للشبان الحريديم على البقاء في "عالم التوراة". وبعد ذلك طالب الحريديم بميزانيات.
ودفع هذا الوضع الحريديم إلى دفع ثمن أيديولوجي، إذ لم يكن مناص أمام الحريديم، غير الصهيونيين، سوى الانضمام إلى سيرورة الدولة كي يضمنوا دعمها الاقتصادي لمؤسساتهم التي قامت من دون أساس اقتصادي، وبذلك نشأ التعلق المادي "لعالم التوراة" بالمؤسسة الحاكمة العلمانية.
ويعتبر تعلم التوراة قيمة أساسية في المجتمع الحريدي، لأنه كانت دائما قيمة بالغة الأهمية في التقاليد اليهودية المتوارثة. وبحسب المعتقدات الدينية اليهودية، فإنه منذ فترة "حازال" (اختصار لـ"حكمائنا رحمهم الله")، في القرن السادس قبل الميلاد، اعتبر "التلميذ النجيب" أحد المثل المركزية، وربما الأرفع، في اليهودية. لذلك ليس مستغربا أنه تم التشديد بشكل كبير على تعلم التوراة في المراكز اليهودية الكبرى التي تطورت في القرون الوسطى، وطلاب هذه المراكز الذين برزوا أكثر من غيرهم تمتعوا بسلطة كبيرة ومكانة مرموقة في مجتمعهم.
إلى جانب هذه القيمة التقليدية لتعلم التوراة، ثمة أهمية اجتماعية خاصة لها في العصر الحديث، في أعقاب "أزمة الحداثة"؛ إذ أصبحت المؤسسات التوراتية العامل الذي سعى من حوله المربون الحريديم إلى بناء الالتزام بقيم المجتمع الحريدي ونمط حياته والانفصال قدر الإمكان عن قيم المجتمع العلماني المحيط به ونمط حياته. ولم ينجح الحريديم في تحقيق نجاح في هذه الناحية في أوروبا الشرقية وقبل المحرقة، لكنهم نجحوا بالانفصال عن المجتمع العلماني في العقود الأولى التي أعقبت قيام إسرائيل، بينما تراجع ذلك كثيرا في الفترة الحالية.
إضافة إلى ذلك، فإن الإعفاء من الخدمة العسكرية الإلزامية لطلاب الييشيفوت، الذين يوصفون بأن "توراتهم حرفتهم"، جعل الكثير من الحريديم الذين لم يرغبوا بالتجند للجيش بالبقاء في "خيمة التوراة" إلى حين يتجاوزون سن التجنيد أو اضطروا إلى الخروج إلى العمل من أجل تزويج أولادهم.
لقد أصبح "مجتمع الدارسين" ميزة بارزة للحريديم الإسرائيليين. ويبدو أن استكمال هذا التحول، الذي بدأ في الستينيات، تم في الثمانينيات. ومنذئذ وحتى اليوم يتعلم الرجل الحريدي العادي التوراة حتى سن أربعين عاما، وأحيانا أكثر من ذلك أيضا. ويتلقى في المقابل منحة مالية متواضعة من الكوليل، بينما إعالة العائلة ملقى بالأساس على كاهل الزوجة. وتشارك الدولة من خلال تمويل الكوليل وأيضا من خلال مخصصات تدفعها مؤسسة التأمين الوطني ومخصصات أخرى مثل ميزانيات للمؤسسات التعليمية. كذلك يتبرع أثرياء يهود من أنحاء العالم لمؤسسات التعليم الحريدية.
من جهة ثانية، فإن نمو المؤسسات التوراتية في إسرائيل، التي أقامها الحريديم بالأساس، حوّلت إسرائيل إلى مركز توراتي كبير وهام. فهناك جمهور كبير يتعلم التوراة، وعدد كبير يُدرسون التوراة، كما أن "الإنتاج التوراتي المدون" في نمو متزايد. ورغم العزلة التي فرضها المجتمع الحريدي على نفسه، إلا أن هذا الازدهار في تعلم التوراة هو أحد العوامل التي أثّرت بشكل غير مباشر على تزايد تدريس التوراة في المجتمع الإسرائيلي غير الحريدي.
إلا أن التزايد الكبير في حجم "مجتمع الدارسين" دفعه في العقود الأخيرة إلى أزمة. فمن جهة، تصاعدت الضغوط على أجزاء مختلفة في الجمهور العلماني وحتى في الجمهور الصهيوني الديني، الذين دعوا إلى تقليص دعم الدولة للمؤسسات الحريدية ودفع الحريديم، بالإكراه أو بواسطة استخدام رافعات ضغط أخرى، إلى التجند للجيش. ومن الجهة الأخرى، بدأت تتطور داخل المجتمع الحريدي شريحة من الشبان الذي يسعون إلى رفع مستوى حياتهم أو المستوى التعليمي لأولادهم. فقد أخذ الفقر يزعج الكثيرين، ومنظومة المؤسسات الخيرية المتشعبة في المجتمع الحريدي لم تتمكن من الصمود أمام الأعباء. إضافة إلى ذلك، فإنه داخل الييشيفوت أيضا تزايدت أعداد الطلاب الذين تذمروا من تعلم التوراة.
عندما كان المجتمع الحريدي صغيرا والتوجه إلى الدراسة في الييشيفاه كان طوعيا، كان بالإمكان الاعتقاد أن الكثيرين من الطلاب ملائمون لهذا النوع من الدراسة. لكن كلما كبر المجتمع الحريدي والتوجه إلى الييشيفاه، وبعد ذلك إلى الكوليل، أصبح نمط حياة جاهزا مسبقا، ارتفع في موازاة ذلك أيضا عدد الطلاب الذين لا يبدون اهتماما بدراسة الغمرا وبحثوا عن أمور أخرى تثير اهتمامهم. وحاول جهاز التعليم الحريدي، ضمن الحدود المحافظة الملتزم بها، توفير رد على هذه المشاكل، لكنه حقق نجاحا في حالات قليلة فقط منع فيها تزايد أعداد الشبان الراغبين بالابتعاد عن المؤسسات التعليمية الدينية.
ويبدو أن للانترنت عموما، والانترنت الحريدي خصوصا، دورا مركزيا وبالغ الأهمية في هذا التحول. وهذه القضية تطرح تساؤلات حيال نظرية ما إذا كان "مجتمع الدارسين" سيستمر في تفسير المبدأ الذي ينظم المجتمع الحريدي في المستقبل أم أن هذا المجتمع سيتجه نحو بناء وجه جديد له.
وكان الباحث الإسرائيلي الأبرز في موضوع المجتمع الحريدي، البروفسور مناحيم فريدمان، الذي وضع نظرية "مجتمع الدارسين"، قد توقع أن هذا المجتمع سيتفكك في نهاية الأمر بسبب الضغط الاقتصادي والضغط الجماهيري من جانب أوساط أخرى في المجتمع الإسرائيلي سترفض دعم الحريديم. إلا أن جزءا صغيرا من التحولات التي تمر على المجتمع الحريدي مصدرها في هذه الضغوط.
من الجهة الأخرى، فإن مجتمعات حريدية في الولايات المتحدة ودول أخرى لم تتطور باتجاه "مجتمع الدارسين"، ورغم ذلك حافظت هذه المجتمعات على هويتها الحريدية. وهذا الحال كان سائدا في المجتمع الحريدي في إسرائيل قبل ستينيات القرن الماضي. وفي حال استمرار التحولات الحالية فإنه ليس واضحا ما إذا كان الحريديم الإسرائيليون سيحافظون على هذا المجتمع ضمن حدوده الاجتماعية الحالية أم أنه سينظم نفسه حول مثل أخرى أقل صرامة.