المشهد الإسرائيلي

ملحق أسبوعي يتضمن مقالات صحفية وتحليلات نقدية ومتابعات عن كثب لمستجدات المشهد الإسرائيلي.
  • تقارير، وثائق، تغطيات خاصة
  • 1544

يستعد اتحاد النقابات الإسرائيلية العامة "الهستدروت" لإجراء انتخابات عامة، في أواخر شهر أيار 2017. وحتى الآن يبدو وكأنه ستجري انتخابات بين كتلتين تجمع كل واحدة منها أحزابا، الأولى يرأسها الرئيس الحالي آفي نيسانكورين من حزب العمل، والثانية برئاسة النائبة من ذات الحزب شيلي يحيموفيتش، إلا أن الأخيرة تواجه مشكلة دستورية، تكمن في أحقيتها برئاسة كتلة "البيت الاجتماعي"، وهو ما ستبت به المحاكم في الأسابيع المقبلة.

وكان نيسانكورين قد نجح في الأشهر الأخيرة في اقامة ائتلاف شامل، يضم أيضا كتلة المعارضة الأكبر "البيت الاجتماعي"، في توجه واضح لعدم اجراء انتخابات، وأن تكون النتيجة بالتزكية، تثبّت من جديد التوزيعة الحزبية القائمة منذ انتخابات العام 2012. إلا أن شكل اندفاع يحيموفيتش إلى هذه الانتخابات، ومن قبلها شخصيات أخرى في الحزب، يؤكد أن "الهستدروت" التي فقدت بقدر كبير جدا، من القدرة المفترضة للدفاع عن حقوق العاملين، ما زالت مرتعا وملعبا داخليا لحزب العمل، رغم ضعف الحزب في الساحة السياسية العامة.

فقد أعلنت النائبة يحيموفيتش، قبل أسبوعين، نيتها خوض الانتخابات لرئاسة الهستدروت، على رأس القائمة الانتخابية "البيت الاجتماعي"، التي تشكلت في انتخابات 2012، برئاسة النائب من حزب العمل إيتان كابل، إلا أن كابل الذي خسر المنافسة، خرج فورا من عضوية المجلس العام للهستدروت، بينما التحالف تفرّق إلى كتل الأحزاب التي شكلته. في حين أن القائمة الأساسية التي في صلب هذا التحالف انخرطت في الائتلاف الذي يقود الهستدروت. ولا علاقة دستورية لكابل بالقائمة، ولا صلاحية له بالتوقيع على اي مستند متعلق بها.

ورغم ذلك فإن كابل وقع اتفاقا مع يحيموفيتش على أن ترأس القائمة، في حين أن الكتلة التي تمثل القائمة كان يجب ان تعلن عن نيتها خوض الانتخابات على رئاسة الهستدروت في الاسبوع قبل الأخير من شهر كانون الثاني الماضي، وهذا لم يتم. وقال القائمون على الكتلة إنهم يرفضون ترشيح يحيموفيتش، وأن لا حق من ناحية دستورية ولا قانونية لايتان كابل بالتوقيع على اتفاقية كهذه.

وفي اطار الحرب الداخلية في حزب العمل وفي "البيت الاجتماعي"، بادر كابل الى عقد اجتماع لما أسماه "مجلس عام البيت الاجتماعي"، واتخذ قرارا بترشيح يحيموفيتش. إلا أن الوكلاء القانونيين لهذه القائمة يصرون على عدم أحقية المجلس الذي اجتمع، وهم سيتوجهون الى القضاء، بدءا من الداخلي للبيت الاجتماعي، ومن ثم الى القضاء العام.

ولكن بمعزل عن وجود انتخابات عامة أو عدمها، فإن هذه الممارسات في حزب العمل، واستحضار شخصيات بعيدة في كل واحدة من الانتخابات للمنافسة على قيادة الهستدروت، يؤكد أن هذه المؤسسة كانت وما زالت مرتعا لحزب العمل ومركز قوة له تأثير على قواعد الحزب، كونها أيضا مشغّلا وصاحب خزينة ليست قليلة، رغم أنها باتت هامشية، أمام القوّة الاقتصادية الضخمة التي كانت لاتحاد النقابات على مر عشرات السنين.

خلفية تاريخية

بعد العام 1948، تحول الاتحاد العام للنقابات الخاص بالعمال اليهود في فلسطين، أيام الاستعمار البريطاني، إلى اتحاد النقابات المعترف به رسميا، "الهستدروت"، وبات العنوان شبه الوحيد للعمال والنقابات. وساعد في هذا أن "الهستدروت" كانت تحت سطوة العصابات الصهيونية، التي شكلت لاحقا حزب "مباي" (حزب عمال أرض إسرائيل)، حزب العمل حاليا، الذي انفرد تقريبا في الحكم، في السنوات الـ 29 الأولى لإسرائيل. وخلال تلك السنوات، حققت "الهستدروت" قوة ضخمة مستفيدة من حكومات حزبها، وبنت اقتصادا متشعبا، بلغ حتى مطلع سنوات التسعين من القرن الماضي، ما يعادل 30% من اجمالي الاقتصاد الإسرائيلي.

وشملت القوة الاقتصادية شبكة مصانع بنيوية ضخمة، وشركات بنى تحتية، وأكبر بنك إسرائيلي "بنك هبوعليم" (العمال)، وعدة قرى زراعية تعاونية، وأضخم شبكة عيادات مرضى، ولها أكبر شبكة مستشفيات، وكان ما يقارب 70% من المواطنين مؤمنين في هذه الشبكة، وهذا كان يمنحهم حق التصويت في الانتخابات العامة للهستدروت، التي كانت نتيجتها على مر السنين حكرا على حزب العمل، الذي طالما غير قرارات ودساتير، حينما كان يشعر أن أحد مجالس العمال في المدن والمناطق سيفلت من تحت سطوته.

وكانت الهستدروت مرتكز قوة سياسية ضخمة في السياسة العامة. وكونها مشغّلا كبيرا كان له تأثير على الشارع، ولكن أيضا على مجريات الأمور في الحزب، إذ أن الغالبية الساحقة جدا من كافة العاملين في مؤسسات الهستدروت، وفي اقتصادها المتشعب، كانت تُفرض عليهم عضوية حزب العمل إذا لم يكونوا من قبل اعضاء في الحزب، ليتحولوا إلى أذرع ناشطة في داخل الحزب والشارع، يحركهم المسؤولون عنهم.

ومع السنين، بات اتحاد النقابات "الهستدروت" رمزا كبيرا لفساد السلطة، ومع تطور العصر تغلغل التذمر من القيادة القديمة في الهستدروت، إلى داخل صفوف الحزب، فمنهم من رأى أن هذه القيادة باتت تشكل عائقا أمام تطور الحزب وتغيير قياداته. وتمهيدا لانتخابات "الهستدروت" للعام 1994، حصل انشقاق داخل الحزب، في ما يخص الانتخابات النقابية، وليس على المستوى البرلماني، إذ في حينه كان الحزب يقود الحكومة برئاسة إسحاق رابين.

وقد حصل الانشقاق بعد أن فشلت المجموعة المتمرّدة في ضمان ترشيحها على رأس قائمة الحزب. ومن قاد ذلك التمرد الوزير حاييم رامون، الذي سيظهر لاحقا أنه لم تكن دوافعه انقاذ "الهستدروت" من مستنقع الفساد الغارقة فيه، بل ما هو أكبر. وبالفعل فإن المتمردين هم من فازوا بالأغلبية الساحقة في تلك الانتخابات، وإذا ما جمعنا الفائزين مع "الخاسرين" من ذات الحزب، سنجد أنه في المحصلة فإن الغالبية الساحقة جدا من قيادة الهستدروت هي من ذات الحزب.

الهستدروت بعد 1994

دخل رامون إلى الهستدروت كالعاصفة مع فريقه، وأبرزهم النائب عمير بيرتس، المعروف في ذلك الحين بعلاقته بالشرائح الفقيرة، خاصة من اليهود الشرقيين. وكانت عاصفة اقتلاعية لكل ما كان قائما عليه الهستدروت. ففي المرحلة الأولى شرع رامون في بيع اقتصاد الهستدروت، بزعم تسديد العجز المالي الذي كان قائما. وكان في الانتظار حيتان المال الإسرائيليون، الذي بدأوا في تلك المرحلة بسحب استثماراتهم من الخارج، لتوظيفها في الاقتصاد الإسرائيلي، الذي بدأ يشهد تحولات، منها ما كان يتناغم في حينه مع "العولمة" الجديدة، ومنها ما كان استغلالا للنشاط الاقتصادي المتنامي، مع وصول مئات آلاف المهاجرين الجدد. وكان اقتصاد الهستدروت الفريسة الأكبر التي انقضت عليها حيتان المال.

والخطوة التالية كانت الفصل التام بين عضوية شبكة العيادات، وحق الانتخابات لمؤسسات الهستدروت، تحت غطاء تخفيف "عبء" رسوم عضوية النقابات عن المواطنين، وكان هذا سببا لخروج مئات آلاف الأعضاء، ليتقلص الاتحاد من حيث العضوية، ومعهم تقلصت مداخيل الهستدروت من رسوم العضوية بعشرات ملاين الدولارات سنويا، وهذا بموازاة تقلص القوة الاقتصادية. وهذا انعكس فورا على قوة تأثير الهستدروت على قرارات السياسة الاقتصادية.

وعلى الرغم من أن اتحاد النقابات الإسرائيلية كان معروفا بتواطئه مع السياسات الحكومية الاقتصادية، وأنه ليس من تلك الأصناف التي عرفتها نقابات ثورية في العالم، إلا أن هذه التغيرات انعكست سلبا أكثر من أي وقت مضى على سوق العمل الإسرائيلية. والمتضرر الأول من هذا كان القطاع الخاص، الذي لم تعد تسري عليه اتفاقيات عمل، تفرضها "الهستدروت"، وشيئا فشيئا باتت "الهستدروت" تجمع النقابات الكبيرة، وبالذات في الشركات الحكومية، التي لنقاباتها نوع من الاحتكار في كل ما يتعلق بفرص التشغيل، وشروط العمل، وليس دائما لصالح جمهور العاملين.

وعلى الرغم من الوضع القائم هذا، إلا أنه ما زال للهستدروت تأثير في سوق العمل، وبشكل خاص في القطاع العام، بمعنى مؤسسات الحكم، والشركات الحكومية، أو تلك التي للحكومة أسهم فيها.

يبقى ملعبا للحزب

غادر رامون رئاسة الهستدروت، بعد عام ونصف العام من توليها، عائدا إلى الحكومة في أعقاب اغتيال رئيس الوزراء رابين، وعلى الرغم مما بدا وكأن رامون قفز لينقذ حكومة حزبه، إلا أن في حساباته ما هو أكثر: اعتقاده بالفرصة التي باتت سانحة للمنافسة على قيادة الحزب مستقبلا، ولكنه لم يفعل ذلك لاحقا.

وسلّم رامون قيادة الهستدروت لشريكه عمير بيرتس، الذي رسّخ التغييرات في الهستدروت. وعلى الرغم من الانشقاق، إلا أن بيرتس واصل هو أيضا عضويته البرلمانية في كتلة حزب العمل، أيضا في انتخابات الكنيست في العام 1996. ولكن في العام 1999، انشق بيرتس عن الحزب برلمانيا، واقام حزب "عام أحاد"، وخاض به انتخابات ذلك العام محققا 3 مقاعد، ليحله قبل انتخابات 2003 عائدا للحزب.

لكن على الرغم من هذا الانشقاق، إلا أن بيرتس لم ينفك عن حزب العمل. وبالإمكان القول إن الانشقاق كان صوريا في قواعد العمل، ولاحقا باتت الكتلة واحدة في قيادة الهستدروت ولكن بتسمية "عوغنيم". وفي العام 2006، حينما بات بيرتس رئيسا لحزب العمل، بعد أن هزم شمعون بيريس، قرر الاستقالة من رئاسة الهستدروت، إذ أنه بموجب القانون الذي أقر من قبل، فإن عضو الكنيست لا يمكنه أن يكون رئيسا للهستدروت، في اطار منع ازدواجية المناصب الفعلية.

وسّلم بيرتس رئاسة الهستدروت للرجل القوي في الحزب وفي الهستدروت، عوفر عيني، الذي كان رئيس قسم التنظيم المهني. ورئاسته للهستدروت زادته قوة في الحزب، وبات يتدخل أكثر في حزب العمل، وتميّز بعلاقاته المتشعبة بحيتان المال. ومعروف عنه أنه كان عراب دخول حزب العمل برئاسة إيهود باراك إلى حكومة بنيامين نتنياهو في العام 2009.

وخاض عيني الانتخابات لرئاسة الهستدروت على رأس قائمة "عوغنيم"، التي بضمنها حزب العمل وأحزاب أخرى، في أيار 2012. أما منافسه فكان النائب إيتان كابل، السابق ذكره، والبارز في حزب العمل وشكّل هو أيضا قائمة تضم أحزابا، وحصلت القائمة على ما يزيد عن 30% من الاصوات، قبل أن تتفكك إلى عدة كتل في الهستدروت، وبدأت تنضم تدريجيا إلى ائتلاف عيني.

وفي حينه كان كابل أبعد ما يكون عن القضايا الاجتماعية والعمالية، وكما يبدو بحث لنفسه عن منصة ليقفز من خلالها إلى واجهة الأحداث. واختار كسابقيه خشبة القفز المسماة "الهستدروت"، إلا أنه لم يكن يجيد أصول اللعبة، ولم يدرك أن اتحاد النقابات حصن من فيه، أي حصن الجهاز القادر على صد أي داخل جديد.

وقبل عامين غادر عيني منصبه، متوجها لعالم الاقتصاد. وحسب تقارير فقد تحول عيني من "عمالي" إلى مستثمر شريك لحيتان مال. وتولى مكانه آفي نيسانكورين، الذي كان هو أيضا رئيسا لقسم التنظيم المهني، إلا أنه كان في الظل، ولا يتمتع بالشخصية القوية التي لدى سلفه. ولكن الرئيس الجديد نجح في تشكيل ائتلاف شامل في الهستدروت، تمهيدا للانتخابات المفترضة؛ وبقصد واضح هو أن لا تتم الانتخابات، من خلال تثبيت الوضع القائم لجميع الكتل، التي ستستفيد من توزيع الوظائف في قيادة الهستدروت، والميزانيات التي تتلقاها الكتل والأحزاب خلال الدورة الجديدة.

يحيموفيتش

قرار شيلي يحيموفيتش المنافسة على رئاسة الهستدروت يندرج في ذات حسابات سابقيها. فهذه الصحافية التي تميزت بمواقفها الجريئة، سياسيا واقتصاديا واجتماعيا، حينما كانت خلف المايكروفون، في أشهر برنامج إذاعي في القناة الإذاعية العامة، دخلت إلى الكنيست في العام 2006، بعد أن تلاقت مع رئيس حزب العمل في تلك المرحلة عمير بيرتس، وحصلت على مكان متقدم في لائحة الحزب.

إلا أن يحيموفيتش بدأت شيئا فشيئا تتقلب في مواقفها، وفي كثير من المحطات أبدت تواطؤا مع مواقف اليمين سياسيا واقتصاديا. ولاحقا نجحت في الفوز برئاسة حزب العمل، بعد انشقاق رئيس الحزب إيهود باراك في مطلع العام 2011 عنه. وقادت يحيموفيتش حزبها في انتخابات 2013. وفي حملة الانتخابات قالت إنه يجب انزال قضية الصراع الإسرائيلي الفلسطيني عن واجهة أجندة العمل السياسي، لأنه لا شريك في الجانب الفلسطيني، وأن على إسرائيل أن تقوي اقتصادها، لأنه بقوة اقتصادها تستطيع فرض حلول.

وواجهت يحيموفيتش انتقادات حادة حتى داخل حزبها، وحملها الحزب مسؤولية النتيجة الهزيلة التي حصل عليها في تلك الانتخابات، 15 مقعدا، رغم أنه زاد بمقعدين عن انتخابات 2009. وخسرت رئاسة الحزب بعد عام لصالح إسحاق هيرتسوغ.

وكما يبدو، تستنتج يحيموفيتش استحالة عودتها لرئاسة الحزب، بعد أن المحت في وقت سابق إلى احتمال منافستها مجددا. ولهذا فهي ستجرب "حظها" في النقابات، رغم صعوبة ترشحها كما يبدو حتى الآن.

وفي المحصلة، من الضروري الإشارة إلى أنه على الرغم من سطوة حزب العمل على اتحاد النقابات، إلا أن الاتحاد يبقى أضعف من أن يعيد القوة السابقة التي عرفها الحزب، وأن يعيده إلى منافس قوي على السلطة.

ضرب النقابات يتحقق

بعد 23 عاما على الانقلاب الذي قاده حاييم رامون، ومن يقف خلفه، يتأكد أن هدف "التحديث" المزعوم كان ضرب مكانة النقابات، كأمر ضروري للانفلات الاقتصادي الذي سعى له حيتان المال، وإلى جانبهم المؤسسة الحاكمة. فاتفاقيات الأجور هي من نصيب النقابات القوية فقط، في حين أن الاتفاقيات العامة، خاصة تلك المتعلقة بالقطاع الخاص، باتت في خبر كان.

وهذا ما تدفع ثمنه الشرائح الفقيرة، وخاصة أولئك الذين يتقاضون رواتب الحد الأدنى وما دون، أو الذين يتقاضون رواتب ترتكز على راتب الحد الأدنى مع اضافات. فعلى الرغم من أن الراتب ارتفع في السنوات الأربع الأخيرة بنسبة 15%، وفي السنوات العشر الأخيرة ككل بنسبة 30%، إلا أن هذه الزيادة جاءت بعد جمود سنوات، والقيمة الشرائية لراتب الحد الأدنى، أقل مما كانت عليه قبل 17 عاما.

ورأينا أن ثلاثة رؤساء للهستدروت في الفترة السابقة ومنافسين مركزيين آخرين على رئاسة الهستدروت بمن فيهما يحيموفيتش، استخدموا الهستدروت كخشبة قفز سياسية أو اقتصادية، وأيضا كأداة لخدمة أرباب العمل وحيتان المال، على حساب الشغيلة.

المشهد الإسرائيلي

أحدث المقالات