ما تزال تقارير وأبحاث إسرائيلية كثيرة تسأل عن أسباب وأد حملة الاحتجاجات الشعبية، التي اندلعت في إسرائيل فجأة في مثل هذه الأيام قبل خمس سنوات (عام 2011). وقد بدأت في وسط مدينة تل أبيب، وانتشرت في مدن أخرى، ولكن سرعان ما تلاشت كليا في غضون بضعة أسابيع. أما تقارير اليوم، فإنها تؤكد أن كل "الثمار" المحدودة التي انتجتها حملة الاحتجاجات تلك تلاشت شيئا فشيئا، وحتى أن الأوضاع اليوم أسوأ مما كانت عليه قبل خمس سنوات، خاصة في ما يخصّ أسعار البيوت التي كانت الشرارة الأولى لتلك الاحتجاجات.
وكانت إسرائيل قد شهدت في أوائل صيف العام 2011 حملة احتجاجات، بدأت باحتجاج شابة، ومن ثم مجموعة شبان وشابات في مدينة تل أبيب على غلاء البيوت وإيجارات البيوت، فحملت الأولى امتعتها وانتقلت إلى خيمة نصبتها في أحد ميادين المدينة ليلحق بها آخرون، وخلال أيام تطور الاحتجاج من احتجاج يقتصر على أسعار السكن، إلى احتجاج على غلاء المعيشة.
وكان واضحا منذ البداية أن التنظيم غائب عن تلك الاحتجاجات، فسعت عدة أطر للتدخل بهدف التنظيم وحتى فرض أجندات. وشهدت تلك الحملة مظاهرات ضخمة، بلغت ذروتها بخروج ما يقارب نصف مليون نسمة في عدة مظاهرات في ليلة واحدة، كانت أكبرها في مدينة تل أبيب.
إلا أن عملية تفجيرية واحدة على الحدود مع سيناء في شهر آب من العام ذاته، كانت كفيلة بأن تلغي نشاطات الاحتجاج في الأسبوع ذاته، الذي سبقه أسبوع الذروة، ولم تنجح كل محاولات استنهاض الحملة لإعادتها إلى تلك الذروة، لتتلاشى الحملة تدريجيا بعد بضعة أسابيع على اندلاعها. كما أن المحاولات لاستنهاضها في صيف العام التالي 2012 باءت بالفشل الذريع.
وكان هذا موضوع عدة أبحاث، منها ما أجري في بنك إسرائيل المركزي. ولم تنجح تلك الأبحاث في تفسير عدم مبالاة الجمهور حيال استمرار ارتفاع غلاء المعيشة، وبشكل خاص ارتفاع أسعار البيوت، خاصة وأن كل الاجراءات المحدودة التي تبعت تلك الحملة، ومن بينها خفض بعض أسعار المواد الغذائية، قد تلاشت.
وكانت حكومة بنيامين نتنياهو في حينه قد تفاجأت من الحملة، وسعت بكل الطرق إلى إسكاتها، بداية بمهاجمتها، ومن ثم بتشكيل لجنة خاصة "لجنة تراختنبرغ" لفحص كيفية خفض غلاء المعيشة، وقد خرجت اللجنة بسلسلة توصيات، إلا أن الحكومة لم تتعامل معها بكامل الجدية، إذ أنه ما أن أنهت اللجنة عملها حتى تلاشت الحملة.
ارتفاع الأسعار وكلفة المعيشة
واندلعت تلك الاحتجاجات في موضوعين مركزيين: الأول كان أسعار البيوت وكلفة الايجار، والثاني كان يحمل شعار "جبنة الكوتج"، وهي أحد منتوجات الألبان المصنّعة، الشهيرة في إسرائيل، ولكنها بفعل سعرها من نصيب الشرائح الوسطى العليا. واللافت أن هذه الحملة حظيت بدعم إعلامي، وبالذات من وسائل الإعلام الخاصة الكبرى، التابعة لسلطة البث الثانية، وأيضا الصحف الكبرى. ولكن هذا الدعم تراجع بسرعة لاحقا، نظرا لدخول عناوين مركزية أخرى على حملة الاحتجاجات الشعبية.
فأسعار البيوت وأسعار المواد الغذائية طُرحت في أوج جدل اقتصادي، يقف من خلفه حيتان المال، الذين اتهموا الحكومة بارتفاع أسعار البيوت، بسبب ارتفاع أسعار الأراضي، بادعاء أن الحكومة "لا تفرج عن أراض للبناء بالقدر الكافي"، كما طالبوا الحكومة بخفض أسعار الأراضي، إلى الحضيض، وحتى الصفر. ولكن لم يكن في الإعلام الخاص أي حديث عن كلفة البناء، وأرباح شركات البناء الكبرى، لذا فإن الحملة الشعبية ضد أسعار البيوت، وفي المسار الذي دخلت فيه، كانت دعما ضمنيا لما يطرحه حيتان المال.
وكذا الأمر بالنسبة لأسعار المواد الغذائية، وتلك الجبنة، فهذا جاء وسط دعوات من حيتان مال لكسر الاحتكارات في سوق الأغذية، من خلال فتح الأسواق المحلية أمام استيراد المواد الغذائية من العالم لرفع مستوى المنافسة.
وطالما كانت أيام الحملة الأولى تتركز في هذين المطلبين كان الدعم من وسائل الإعلام كبيرا، وهذا أدخل الحكومة ورئيسها بنيامين نتنياهو في ضغط واضح. ولكن لاحقا، بعد انضمام قوى سياسية معروفة بتوجهاتها الاقتصادية الاجتماعية، وأيضا أطر شعبية أخرى، ودخول مواضيع أخرى وذات عمق أشد، في مواضيع الحملة، مثل المطالبة برفع الحد الأدنى للأجر، ووقف العمل في المؤسسات العامة من خلال شركات قوى عاملة استغلالية، وضم مطالب الجماهير العربية في إسرائيل، بدأنا نشهد تراجعا كبيرا في دعم وسائل الإعلام الكبرى، حتى انقلبت على موقفها الأول، وباتت محرضة ضد الحملة، وهذا ساهم في إضعافها.
ونشرت صحيفة "ذي ماركر" الاقتصادية التابعة لصحيفة "هآرتس" الإسرائيلية، في ملحقها الأسبوعي، الأسبوع الماضي، بالتعاون مع أحد معاهد الاستطلاعات، مسحا واستطلاعا حول ما جرى في السنوات الخمس الأخيرة؛ بمعنى منذ فترة حملة الاحتجاجات صيف 2011 وحتى العام الجاري 2016. وتبين أن كلفة فوائد القروض الاسكانية ارتفعت بنسبة 48%، من النسبة التي كانت قائمة في حينه. وارتفعت أسعار البيوت بالمعدل بنسبة 26%.
ويشار هنا إلى أن ارتفاع أسعار البيوت في تل أبيب، التي اندلعت منها حملة الاحتجاجات الشعبية، كان في السنوات الخميس الأخيرة ما بين 30% إلى 35%. كذلك ارتفع إيجار البيوت المستأجرة بنسبة 14%، فيما ارتفعت أسعار المواد الغذائية بنسبة 4%، على الرغم من أن اجمالي التضخم في السنوات الثلاث الأخيرة يسجل تراجعا. أما الرواتب فقد ارتفعت بنسبة 8% فقط. وهذا يعني أن الفجوة بين المداخيل وكلفة المعيشة اتسعت أكثر.
وتقول الصحيفة في تقريرها إن الوضع الناشئ في أسعار البيوت، أدى إلى تراجع أعداد مشتري البيوت بنسبة 3%، مقابل ارتفاع أعداد من يستأجرون بنسبة 7%.
وكان من الممكن أن يكون ارتفاع كلفة المعيشة أكبر مما ورد في التقرير، إلا أن انخفاض أسعار النفط، وبالتالي أسعار وقود السيارات والنقليات بشكل عام، لجم جزءا من ارتفاع الأسعار، على البضائع المحلية، وحتى المستوردة، في جزئية تكاليف النقل. فأسعار الوقود للسيارات في إسرائيل انخفضت بنسبة 20%، ما يعني أن انقلابا في توجهات أسعار النفط عالميا، قد يؤدي إلى ارتفاع آخر في كلفة المعيشة.
كذلك الأمر بالنسبة لتراجع أسعار الملابس والأحذية بنسبة 11% مقارنة مع ما كان قبل 5 سنوات. وتقول الصحيفة إن التراجع في هذا القطاع كان نابعا من تراجع أسعار عالمية (مواد خام)، ودخول شركات ملابس عالمية إلى السوق الإسرائيلية، ما زاد من حجم المنافسة. وتضيف الصحيفة أنه في كل الأحوال، فإن حملة الاحتجاجات رفعت مستوى الوعي واليقظة لدى الجمهور، الذي بات أكثر تمسكا في البحث عن الأسعار الأدنى، ما ساهم في تراجعات أسعار أو كثرة حملات التخفيض الواقعية.
وقبل عامين، في الذكرى الثالثة لاندلاع حملة الاحتجاجات تلك، صدر بحث أعده الباحثان د. روبي نتنزون، وإيتمار غازلة، في مركز "ماكرو للاقتصاد السياسي"، ويظهر من البحث أنه في حين ارتفع التضخم من العام 2011 إلى 2013 بنسبة 1ر7% فإن أسعار المواد الغذائية وحدها ارتفعت بنسبة 6ر13%، كما أن أسعار الخدمات الصحية والمواد الطبية ارتفعت بنسبة 6ر9%، وتواصل ارتفاع أسعار البيوت بنسبة تفوق 20% خلال ثلاث سنوات.
ويقول البحث إن أسعار البيوت في إسرائيل سجلت ارتفاعا حادا بنسبة 30% من العام 2005 إلى العام 2011، ولكن بعد حملة الاحتجاجات الشعبية، التي كانت مسألة المسكن في صلبها، واصلت ارتفاعها، ومن المتوقع أن تكون أسعار البيوت قد ارتفعت حتى العام المقبل بأكثر من 40% خلال عشر سنوات.
وفي حين كان المواطن في إسرائيل يحتاج في العام 2005 إلى 102 راتب شهري لشراء بيت، فقد ارتفع عدد الرواتب في العام 2013 إلى 137 راتبا، ومن المتوقع ان يواصل هذا العدد ارتفاعه ليصل في العام المقبل إلى 144 راتبا.
لو أرادت الحكومة لفعلت
في الاستطلاع الذي أجرته صحيفة "ذي ماركر" بشأن نظرة الجمهور إلى غلاء المعيشة وأسبابه، رأى 32% أن السبب أسعار البيوت، و15% رأوا أن السبب غلاء المعيشة بشكل عام، و9% ارتفاع أسعار الغذاء، ثم سلسلة من النسب الهامشية على مختلف الأوضاع والسياسات، وكان اللافت نسبة الأوضاع الأمنية التي لم تحظ بأكثر من 2%، رغم أنها المقرر في الانتخابات البرلمانية.
وأصابع الاتهام تتوجه دائما إلى الحكومة وإلى سياستها الاقتصادية، ولكن شكل الاتهام وجوهره يتعلقان أكثر بهوية الذي يوجه الاتهام، وغالبا فإن حيتان المال خارج دائرة الاتهام. فمثلا تقول "ذي ماركر" في تقريرها أنه لو أرادت الحكومة لفعلت، وأن الاثبات على هذا سوق الاتصالات، وبشكل خاص الاتصالات الخليوية. فقرار الحكومة قبل سنوات قليلة بفتح سوق المنافسة، وزيادة عدد الشركات، اضافة إلى أنظمة تحدد الكلفة، ساهمت في تخفيض كلفة الاتصالات للمواطن بما بين 40% إلى 60%.
لكن الاعتراف الأبرز بشأن عدم تحقيق نتائج من حملة الاحتجاجات الشعبية، وبأن الحكومة لم تفعل شيئا لإصلاح الأوضاع، جاء من محافظة بنك إسرائيل كارنيت فلوغ بالذات، التي قالت في مقابلة مع صحيفة "كالكاليست" إن المواطنين يتلقون خدمات متواضعة في المجالات الاجتماعية على أنواعها. إلا أن فلوغ عزت الأمر إلى انخفاض المستويات الضريبية، وهي تطالب برفع الضرائب، كي تزداد مداخيل الخزينة، وبالتالي تزداد قدرة الحكومة على تقديم الخدمات بمستوى أفضل. وقالت إن الجمهور لا يستوعب بعد أنه إذا دفع أكثر ضرائب، فإنه سيحصل على خدمات أفضل.
وجاءت تصريحاتها هذه في الوقت الذي تخطط فيه الحكومة لفعل عكس ما تنادي به فلوغ، بمعنى أن الحكومة، وبالذات وزير المالية موشيه كحلون، يتجه إلى تخفيض الضريبة، وخاصة ضريبة الشركات، في ميزانية العامين المقبلين، 2017 و2018. وقالت إن الجمهور يدفع الضرائب، وحينما يكون فائضا في الضرائب، فإن على هذه الأموال أن تعود لدافعيها. ولكن كحلون غيّب فكرة محاولة تقليص الفجوة في الموارد، من خلال فرض الضرائب على ذوي المداخيل العالية، وتوزيع الميزانيات من خلال خدمات على الجمهور الأضعف.
وقالت فلوغ في المقابلة ذاتها إنه يجب تحديد أسباب غلاء المعيشة، فهل هو نابع فقط من ارتفاع الأسعار، أم أيضا من مستويات الرواتب. وقالت: "إذا كانوا في النرويج يدفعون أكثر في صالون الحلاقة، فإنهم لا يعترضون، لأنهم يتقاضون رواتب مناسبة لتلك الأسعار. ولهذا فإن السؤال يجب ان يكون مطروحا أيضا حول القدرة على تحقيق رواتب اعلى، وعلى مستويات تأهيل في سوق العمل أعلى مما هو قائم في سوق العمل الإسرائيلية".