المشهد الإسرائيلي

ملحق أسبوعي يتضمن مقالات صحفية وتحليلات نقدية ومتابعات عن كثب لمستجدات المشهد الإسرائيلي.
  • تقارير، وثائق، تغطيات خاصة
  • 1213

أكدت غالبية ردود الفعل على التقرير الذي صدر في إسرائيل أخيرا وتناول موضوع التعاطي مع تراث اليهود الشرقيين في جهاز التربية والتعليم الإسرائيلي على أن هذا التقرير أعاد إلى مقدمة الأجندة الإسرائيلية موضوع التمزق الطائفي- الإثني في المجتمع الإسرائيلي (بين شرقيين وأشكناز) بعد أن سيطر لفترة طويلة الاعتقاد بأن المجتمع في إسرائيل تجاوز أو على الأقل غيّب هذا الانقسام الطائفي تحت السجادة.

كما أكدت أن هذا التقرير جاء في إطار توجهات اليمين في إسرائيل لتغيير النخب القديمة من خلال التستر بغاية "تحقيق العدالة الثقافية".

ويمكن القول إنه منذ حملة الانتخابات العامة الأخيرة (2015) تحديداً عاد هذا الانقسام الطائفي إلى السطح بقوة مذكرا المجتمع اليهودي بحدته كما كانت عليه في السبعينيات وأوائل الثمانينيات من القرن العشرين الفائت، عندما شهد هذا الانقسام تصريحات وانقسامات سياسية حادّة في تلك الفترة.

ففي حملة الانتخابات الأخيرة عادت هذه القضية بقوة إلى النقاش العمومي بسبب تصريحات أطلقت خلالها ولا تزال تطلق حتى الآن ضد ثقافة الشرقيين، وفي المقابل رفعت حركة "شاس" الدينية الشرقية شعار "الشرقي يصوت للشرقي" خلال الحملة الانتخابية، كما جاء تعيين ميري ريغف الليكودية ذات الأصول الشرقية وزيرة للثقافة تعزيزا لهذا الانقسام، فقد رفعت لواء مشروع تغيير النخب الثقافية القديمة (أي الأشكنازية "اليسارية")، ولواء إدخال الثقافة الشرقية إلى مركز المشهد الثقافي الإسرائيلي لتحقيق ما تسميه "العدالة الثقافية"، مما أثار حربا ثقافية في إسرائيل، سوقتها الوزيرة ونخب شرقية على أنها صراع بين الثقافة الغربية الأشكنازية والثقافية الشرقية اليهودية.
في هذا السياق جاءت "لجنة بيطون" لتعطي بعدا آخر لهذا الانقسام والنقاش حول الهوية الإسرائيلية.

وقد بادر وزير التربية والتعليم الإسرائيلي نفتالي بينيت، رئيس حزب "البيت اليهودي" الصهيوني الديني، إلى إقامة لجنة بهدف فحص دمج تراث اليهود الشرقيين في جهاز التعليم الرسمي، وتوجه بهذا الخصوص إلى الشاعر اليهودي الشرقي إيرز بيطون (مغربي)، لرئاسة اللجنة التي سميت "لجنة بيطون لتعزيز تراث يهود (يهودية) الأندلس والشرق في جهاز التربية والتعليم".
وبدأت هذه اللجنة أعمالها في شهر شباط 2016 وسلمت تقريها النهائي إلى الوزير في أواخر حزيران الماضي.

ووصل حجم التقرير إلى 360 صفحة، وقابلت اللجنة 120 متخصصا في مواضيع مختلفة متعلقة بعمل اللجنة بالإضافة إلى مؤسسات ذات صلة بالموضوع.

وأصدرت اللجنة نوعين من التوصيات: توصيات تتعلق بدمج الشرقيين في المؤسسة الأكاديمية الإسرائيلية، وتوصيات تتعلق بدمج تاريخ وسردية اليهود الشرقيين في مناهج التعليم الرسمية. وخصصت اللجنة لكل مجال توصيات خاصة به.

كما أوصت اللجنة بإنتاج سلسلة أفلام وثائقية عن تاريخ ودور اليهود الشرقيين في المشروع الصهيوني. وأوصت تحديدا بإنتاج حلقات تلفزيونية باسم "عمود النار الشرقي"، على غرار الحلقات الوثائقية "عمود النار" التي ادعت اللجنة بأنها تجاهلت دور الشرقيين في المشروع الصهيوني.

في مقدمة التقرير كتب رئيس اللجنة بيطون: "إن التيار المهيمن في التشكل الإسرائيلي لا يعترف بالهوية الشرقية، وبحسب تصوره هنالك تشكل إسرائيلي نابع من أيديولوجية بوتقة الصهر، (بمعنى) بناء هوية الصابرا الجديد، نظيفا من كل ميزة للمنفى، ومتنازلا برغبة عن التشكل اليهودي (مقابل الإسرائيلي الصابرا). لذلك فان التشكل المهيمن أخذ لنفسه التعامل مع الشرقيين كمن يصرون على التنازل عن حالة المنفى (أي عن جذورهم وتاريخهم)".

ويضيف بيطون في مقدمة التقرير: "يطالب يهود الأندلس والشرق تعبيرا عن التشكل الشرقي الخاص بهم، ولا نبالغ إذا قلنا إننا صعقنا أمام قلة التطرق إلى الهوية اليهودية الشرقية في جهاز التعليم الرسمي وغير الرسمي. في فحص عميق للوضع القائم في مناهج التعليم يتضح أن ثمة نقصا كبيرا (لهوية وتاريخ اليهود الشرقيين) في كل مجالات التعليم: في البحث الأكاديمي، التاريخ، الأدب، الفكر، تعليم المواطنة، وفي التعليم الرسمي وفي التعليم الديني الرسمي".

توصيات اللجنة

قدمت "لجنة بيطون" توصيات عامة، يدور حولها التقرير كله، وأهمها:
أولا: تعديل مناهج التعليم في جهاز التعليم الرسمي، بحيث تشمل إدراج الدراسة الإلزامية لأدباء وشعراء شرقيين، وتعليما إلزاميا لتاريخ اليهود الشرقيين ويهود الأندلس.
ثانيا: إنتاج مسلسل تلفزيوني وثائقي بعنوان "عمود النار الشرقي"، ينتجه التلفزيون التربوي، يكون تصحيحا لمسلسل "عمود النار" المشهور.

ثالثا: تمثيل لأكاديميين شرقيين في مجلس التعليم العالي، وهو المجلس المسؤول عن وضع السياسات العامة للمشهد الأكاديمي في إسرائيل.

رابعا: تشكيل جسم يتابع إدخال مساقات تعليمية حول الشرقيين في الجامعات ويكون تابعا للجنة التخطيط والموازنة التابعة لمجلس لتعليم العالي، وهي أهم لجان مجلس التعليم العالي والمسؤولة عن وضع السياسات المالية والأكاديمية للجامعات والكليات الأكاديمية في إسرائيل.

خامسا: إقامة مراكز أبحاث متخصصة ببحث اليهود الشرقيين، وإقامة كليات خاصة في الجامعات متخصصة باليهود الشرقيين، ضمن كليات العلوم الإنسانية.

سادسا: إقامة متاحف تهتم بكل مجموعة يهودية شرقية، تاريخها وتراثها. بالإضافة إلى إقامة متحف مركزي موحد لكل المجموعات اليهودية الشرقية.

سابعا: تنظيم رحلات تعليمية للأندلس، المغرب ودول البلقان للتعرف على الجذور وتاريخ اليهود الشرقيين.

ثامنا: تخليد شخصيات مركزية في اليهودية الشرقية، من خلال إطلاق أسمائها على الشوارع، المؤسسات والمدارس.

كما أوصت اللجنة بإقامة مؤسستين، مثل "السلطة الرسمية للتربية ومناهج التعليم"، التي تهدف إلى اعداد المناهج حول اليهود الشرقيين في مناهج التعليم الرسمية، وإقامة "الإدارة لتعزيز تراث يهود الأندلس والشرق" تعمل على نطاق أوسع من مناهج التعليم. وأوضح التقرير أن الميزانية لتنفيذ توصيات التقرير تصل إلى مليار ومئتين وخمسين مليون شيكل لمدة خمس سنوات، أي بمعدل 250 مليون شيكل كل سنة، على أن تكون هذه الميزانية جزءا أساسيا من ميزانية الوزارة وليست ملحقا لها وطارئا عليها.

وفي أعقاب نشر تقرير اللجنة وتوصياتها، ثار نقاش في المجتمع الإسرائيلي بين مؤيد ومعارض لتوصياتها، فالمؤيدون اعتبروا تقرير اللجنة تصحيحا للظلم التاريخي الذي لحق باليهود الشرقيين وثقافتهم قبل قيام الدولة من خلال تغييب دورهم في المشروع الصهيوني، وبعد قيام الدولة في إقصاء خصوصيتهم الثقافية، واعتبروا تقرير اللجنة لحظة تاريخية للاعتراف بهذا الغبن التاريخي وتصحيحه وبناء هوية إسرائيلية جديدة تضم في جنباتها الخصوصية الشرقية وسردية اليهود الشرقيين.

في المقابل انقسم المعارضون للجنة إلى قسمين: الأول اعتبر أن توصيات اللجنة جارفة وكبيرة ويصعب تحقيقها، وما هي الا علاقات عامة لوزير التربية والتعليم في سعيه لجذب مؤيدين من الجمهور الشرقي، حيث أن تنفيذ التوصيات شبه مستحيل بسبب التكلفة الكبيرة التي يحتاجها. أما التوجه المعارض الثاني فقد اعتبر أن التقرير فيه تشويه للتاريخ الصهيوني من جهة، وتشويه لثقافة الشرقيين من جهة ثانية.

توجهات المؤيدين

في افتتاحية أنشأتها صحيفة "هآرتس"، باركت الصحيفة ذات التوجهات اليسارية الليبرالية توصيات "لجنة بيطون"، واعتبرتها مرحلة هامة في فتح النقاش العمومي حول تمثيل شرائح مختلفة في المجتمع الإسرائيلي في جهاز التعليم الرسمي.
كما اعتبر الكاتب الشرقي مئير بوزاغلو أن قرارات اللجنة عادلة وشجاعة وتضع تراث اليهود الشرقيين في مكانها الصحيح، وخاصة في جهاز التعليم الرسمي والمؤسسة الأكاديمية الإسرائيلية.

وفي نفس الاتجاه كتب محلل الشؤون الشرق أوسطية في صحيفة "هآرتس"، تسفي برئيل، مقالا اعتبر فيه تقرير بيطون من أهم الوثائق في تاريخ دولة إسرائيل، حيث إنه يحمل في جنباته اعترافا بالحضارة العربية والإسلامية كسياق نشأت فيه الثقافة اليهودية الشرقية، حيث أن الهوية الشرقية تبدأ باللغة العربية. واعتبر أن تقرير "لجنة بيطون" هو إعادة تعريف للهوية الإسرائيلية وهوية دولة إسرائيل، من خلال استحضار ثقافة الشرق إلى داخل هذه الهويات عبر الاعتراف الرسمي بها في جهاز التعليم الرسمي. وقال برئيل إن التقرير: "يدعو إسرائيل للمصالحة مع ثقافة يهودية اعتبرتها متدنية (الشرقية)، ويمكن أن تفتح الطريق إلى (المصالحة) مع ثقافة تعتبرها معادية (العربية)، ويعطي الشرعية لإلغاء الخوف من الثقافة الشرقية العربية".

كما رحب بقرارات وتوصيات اللجنة أدباء وسياسيون شرقيون يرون في الهوية الشرقية مركبا أساسيا في عملهم السياسي والأدبي والثقافي، فمثلا اعتبر الموسيقار أفيهو مدينا أن قرارات اللجنة تساهم في إلغاء الشعور لدى اليهود الشرقيين بأنهم عبء على الدولة إلى ناحية أنهم شركاء في المشروع السياسي وبناء الدولة.

أما وزيرة الثقافة، ميري ريغف، وهي يهودية شرقية تقود حربا ضروسا ضد النخب الثقافية الأشكنازية، فقد اعتبرت تقرير اللجنة مساندا لها في تحقيق العدالة الثقافية في إسرائيل، واستحضار الثقافة الشرقية التي تم إقصاؤها في العقود الماضية، واعتبرت العام 2016 بداية العصر الذهبي للثقافة الشرقية في إسرائيل.
وعقب يوسي يونا وهو باحث يهودي من أصل عراقي وعضو كنيست من حزب العمل ("المعسكر الصهيوني")، بأن أهمية اللجنة تكمن في كشفها للغبن التاريخي الذي لحق باليهود الشرقيين وثقافتهم وتغييب هذه الثقافة في جهاز التعليم في إسرائيل.

توجهات المعارضين

انتقد الصحافي والكاتب الشرقي من أصل مغربي دانيال بن سيمون بشدة تقرير "لجنة بيطون". واعتبر بن سيمون الذي شغل في السابق منصب عضو كنيست عن حزب العمل، أن التقرير يصب في إطار المصلحة السياسية لوزير التربية نفتالي بينيت الطامح لتولي منصب رئاسة الوزراء، ويسعى من خلال إقامة اللجنة وتبني توصياتها إلى استمالة جمهور الشرقيين لدعمه انتخابيا. وقال إن أعضاء اللجنة ورئيسها وقعوا في فخ بينيت.

وانتقد بن سيمون، مثلا، أن يتم تشبيه واقع اليهود الشرقيين في المغرب مع واقع اليهود في أوروبا معتبرا أن البحث عن تماه في الرواية بين الواقعين يشوه واقع اليهود الشرقيين في المغرب، واعتبر أن اللجنة تسرد سردية وهمية عن الشرقيين في إسرائيل في محاولة لمجاراة السردية اليهودية الأشكنازية، خاصة وأن اليهود في المغرب عاشوا في ظل تعايش مع المسلمين ولم يتعرضوا لملاحقة سياسية أو تنكيل كما تعرض له اليهود في أوروبا.

كما انتقد الباحث الإسرائيلي نتان إفراتي، المتخصص في دراسة اليهود الشرقيين، إقامة اللجنة من الأساس وتوصياتها، واعتبرها مجرد أداة سياسية لوزير التربية للحصول على تأييد سياسي، وشدد على أنه لا حاجة للجنة من أجل كتابة تقريرها، فالجامعات الإسرائيلية ومراكز البحث تدرس بشكل مكثف اليهود الشرقيين، ففي وزارة التعليم هناك مركز أبحاث يعمل على دمج مواد تدريسية حول اليهود الشرقيين في مناهج التعليم، ووزير التعليم ليس بحاجة إلى لجنة من أجل تعزيز سردية الشرقيين في مناهج التعليم.

ورأى الإعلامي رون كحليلي أن توصيات اللجنة هامة، ولكنه وضع علامات سؤال حول إمكانية تحقيقها، كما انتقد توصيات ومضمون التقرير، في تغاضيه عن جوهر اليهودية الشرقية، معتبرا أن التقرير تجاهل عدة حقائق عن اليهودية الشرقية وذلك في سعيه للمقارنة مع اليهودية الأوروبية، فمثلا الهوية الشرقية هي هوية تعايش وشراكة وليست هوية ضحوية وهولوكوستية، وهي ثقافة ما تزال حية ونابضة وليست فولكلورا وتراثا.

وقال محلل الشؤون التعليمية في القناة التلفزيونية العاشرة، عومري منيف، إن اللجنة أخطأت هدفها ومصيرها الفشل، واعتبر أن اللجنة كتبت توصياتها دون أن تحدد مصادر الميزانية لهذه التوصيات فلم يرافق عمل اللجنة متخصص في الشؤون الاقتصادية، خاصة وأن اللجنة زجت بكل التوصيات في ملعب وزير التعليم، وهو غير قادر وحده على تنفيذ هذه التوصيات، وهنالك شك في أن تتوفر الميزانيات اللازمة لتنفيذها. ورأى أن أعضاء اللجنة تصرفوا وكأن كل شيء ممكنا فكانت توصياتهم جارفة وشاملة، والكل يعرف أنه لا يمكن تطبيقها كلها وليس فقط لاعتبارات مالية، فتوصيات اللجنة تمس بالحرية الأكاديمية عندما تقرر للجامعات ما عليها أن تدرس وأي كليات تقيم وأي طاقم تقبل، وهذا لن تقبله الجامعات التي تقرر سياساتها حسب اعتبارات أكاديمية أو مالية، وليس حسب اعتبارات اللجنة. كما أن اللجنة تعيد إلى السطح هوية كل صاحب منصب هل هو شرقي أو اشكنازي، بدلا من بناء سردية مشتركة.

كما شكك خبراء في قدرة وزير التربية والتعليم على تنفيذ التوصيات المقترحة، حيث اعترف الأخير بأنه لم يتوقع أن تكون التوصيات شاملة وكبيرة.

ويعتقد الخبراء أن هنالك عائقين أمام تنفيذ الخطة: أولا، معارضة مؤسسات التعليم العالي التي لن تقبل التدخل في شؤونها الأكاديمية والمالية والذي تعتبره انتهاكا للحرية الأكاديمية، وثانيا، العائق المالي، حيث يذكر الخبراء خطتين كبيرتين بادر لهما وزير التربية والتعليم الحالي (هما خطة إضافة مساعدة ثانية لرياض الأطفال، وخطة تقليل عدد الطلاب في الصفوف) وخاض من أجلهما حربا ضروسا للحصول على ميزانية من وزارة المالية وصلت إلى مليار شيكل، وتساءلوا من أين سيحصل الوزير على ميزانية تفوق ميزانية هاتين الخطتين، خاصة وأن اللجنة تطالب بأن تكون ميزانية تطبيق توصياتها ضمن الميزانية الأساسية للوزارة؟.

المصطلحات المستخدمة:

هآرتس, يوسي يونا, نفتالي بينيت

المشهد الإسرائيلي

أحدث المقالات