المشهد الإسرائيلي

ملحق أسبوعي يتضمن مقالات صحفية وتحليلات نقدية ومتابعات عن كثب لمستجدات المشهد الإسرائيلي.
  • تقارير، وثائق، تغطيات خاصة
  • 1852

موضوع التربية المدنية / الموطن (أو، "المدنيات"، كما يسمى في إسرائيل) هو أحد المواضيع الأكثر أهمية ومركزية، إن لم يكن أكثرها على الإطلاق، في التربية على القيم الديمقراطية وعلى مبادئ الحياة المشتركة وفي بناء مواطَنة ديمقراطية ومجتمع تعددي ومتنوع. وفي هذه الفترة بالذات، وبينما تتسع مظاهر العنصرية وتتفشى في المجتمع الإسرائيلي وبينما تؤكد استطلاعات الرأي والأبحاث المختلفة واقع تراجع القيم الديمقراطية، الحاد والخطير، وخاصة في أوساط الشبيبة اليهودية في إسرائيل، وبدلا من العمل المكثف على لجم هذا التدهور، تعمد وزارة التربية والتعليم الإسرائيلية إلى ما يكرس هذا التراجع ويفاقم هذا التدهور، أكثر فأكثر، وخاصة في كل ما يتصل بالفلسطينيين مواطني دولة إسرائيل، ظروفهم المعيشية، مكانتهم، مواقفهم، حقوقهم وواقع حياتهم بوجه عام.

فالصيغة الجديدة من كتاب "أن نكون مواطنين في إسرائيل" لتدريس موضوع "المدنيات" في المدارس الثانوية، والتي أعدتها وزارة التربية والتعليم مؤخرا وتعكف على إصدارها قريبا جدا، تحمل في طياتها العديد من النواقص في هذا المجال، بل العديد من المضامين التي تتناقض، جوهريا، مع ماهية التربية الديمقراطية، ناهيك عما فيه من مضامين خطرة تشكل تزويرا فظا للتاريخ وللرواية الفلسطينية ولواقع المواطنين الفلسطينيين في إسرائيل، علاوة على تقديمهم ليس كأقلية قومية، بل كمجموعة من الطوائف المنفصلة. وهو ما دفع برئيس لجنة المتابعة العليا للجماهير العربية في إسرائيل، عضو الكنيست السابق محمد بركة، إلى التهديد/ التصريح بأن لجنة المتابعة والهيئات الشعبية التمثيلية للمواطنين العرب في إسرائيل "جاهزة لإصدار كتاب مدنيات بديل، يتضمن الرواية الفلسطينية ورؤية جماهيرنا العربية للنظام الديمقراطي. وسيكون الكتاب جاهزاً في مطلع السنة الدراسية المقبلة، إذا ما أصرت وزارة التعليم على إصدار وتوزيع كتاب المدنيات الجديد"!

لجنة التعليم البرلمانية تبحث الموضوع

وقد جاء تصريح/ تهديد بركة هذا خلال الجلسة الخاصة التي عقدتها لجنة التربية والتعليم التابعة للكنيست لبحث موضوع "كتاب المدنيات الجديد"، يوم 22 كانون الأول الأخير، بمبادرة من عضوي الكنيست يوسف جبارين (القائمة المشتركة) وزهافا غالئون (ميرتس).

وقال بركة إن الأبحاث التي جرت في وزارة التعليم لإصدار كتاب المدنيات تمت من دون إشراك مختصين عرب وإن المنهاج الجديد هو انتقائي لا يميز بين العرب واليهود فحسب، بل حتى بين اليهود واليهود، وبين العرب والعرب، ويجعلهم مجموعة طوائف متفرقة. كما أن الكتاب محكوم لرواية أحادية الجانب.

وطالب بركة بإعادة النظر في الكتاب الجديد وفي كراسة المصطلحات الموَجِّهة الجديدة، وقال إن التزييف ينتشر في عدة فصول، ولكن بشكل خاص في فصل الديمقراطية، وفصل ما يسمى "الدولة اليهودية". وقال إن في هذين الفصلين مغالطات وإقصاء واضحا للجماهير العربية وتجاهلا لحقوقها المدنية.

وتوجه بركة الى أعضاء الكنيست قائلا: لا تحشروا الجماهير العربية في رواية خارج المواطنة وخارج المدنيات. وتوجه إلى مندوبي وزارة التعليم في الجلسة ذاتها قائلا: إذا أصرّت الوزارة على إصدار هذا الكتاب المزور، فليكن معلوما أن لدينا القدرات العلمية والأكاديمية، بما يؤهلنا لصياغة كتاب مدنيات آخر، يستند إلى منهاج ديمقراطي ومدني وأن لدى لجنة المتابعة العليا لقضايا الجماهير العربية والهيئات التمثيلية والشعبية بين جماهيرنا القدرة على اصدار الكتاب في مطلع العام الدراسي المقبل.

وقالت عضو الكنيست زهافا غالئون، في الجلسة: "من الواضح أن الجهة التي تمتلك القوة السياسية الآن تسعى إلى شطب المركّب الديمقراطي من هوية الدولة وإلى تصوير المواطنين العرب كمواطنين مع وقف التنفيذ"! وأوضحت: "بدلاً من التركيز على المعركة ضد العنصرية ومحاولة نشر أجواء حوارية بين الطلاب اليهود والعرب، تذهب الوزارة إلى تصنيف المواطنين العرب وتدريجهم طبقا لمدى ولائهم للدولة وتفتيتهم إلى طوائف ـ مسلمين، مسحيين ودروزا"!

وقال عضو الكنيست يوسف جبارين إن الملاحظات التي قدمها غالبية الأكاديميين العرب الذين تم إشراكهم في مناقشة وإعداد مواد الكتاب الجديد "تم تجاهلها كليا ولم يتم شملها في الكتاب، إطلاقا"! وأضاف عضو الكنيست مسعود غنايم (القائمة المشتركة): "تم استخدام أسماء هؤلاء للزينة فقط"!

وقال جبارين: "لقد أعلنّا أننا سندعو جميع المعلمين العرب إلى مقاطعة هذا الكتاب، فهم لا يستطيعون تدريس مواد كهذه"! وأوضح: "ناهيك عن مسألة التطرق العابر والمقتضب لحقوق العرب، من الصعب علينا جدا تقبل الرسالة التي يبثها هذا الكتاب ومفادها أن الأقلية لا تملك أي تأثير على الحيز العام. إنه تطبيع وتكريس لواقع سلب الحقوق وللوضع غير الطبيعي. ومن الناحية العملية، يمثل هذا الكتاب الترجمة التربوية لقانون القومية (قانون "إسرائيل الدولة القومية اليهودية")".

ويشار هنا إلى أن عمرو إغبارية، العضو العربي في "اللجنة المهنية لموضوع المدنيات"، التي تقوم بدور استشاري في هذا المجال، قدم استقالته من هذه اللجنة، احتجاجا على "تجاهل المعلمين والطلاب العرب"، إلى جانب "التجاهل المتعمد للملاحظات العديدة التي قدمتُها"! موضحا أن "هنالك من يحاول استغلالي ورقة توت للتغطية على إجراء غير سليم وغير منصف يتمخض عن نتاج مشوّه، مهنيا وسياسيا وأيديولوجيا"!

وفي تلخيص الجلسة، التي شهدت نقاشات حادة وعاصفة بين ممثلي المواطنين العرب وحلفائهم وبين ممثلي وزارة التعليم، دعا رئيس اللجنة، يعقوب مارغي (شاس)، وزارة التعليم إلى إعادة النظر في الموضوع ودراسة الملاحظات والتحفظات التي طُرحت خلال الجلسة، قبل إصدار الكتاب بصورة نهائية.

الوزارة تتجاهل وتمضي في مخططها

لكن دعوة رئيس لجنة التعليم البرلمانية هذه، كما جميع الملاحظات والتحفظات والاعتراضات، وقعت على آذان صماء إذ مضت وزارة التربية والتعليم في مخططها دون أي تعديل أو تغيير. فلم تكد تمضي ساعات قليلة على انفضاض جلسة اللجنة البرلمانية، حتى أصدرت الوزارة، عصر اليوم نفسه (22 كانون الأول)، بيانا رسميا أعلنت فيه أنها "صادقت على النسخة الجديدة (المحدثة) من كتاب المدنيات بعنوان "أن نكون مواطنين في إسرائيل"، وهي النسخة التي تواكب كل التغييرات التي طرأت على البرنامج التعليمي في موضوع المدنيات منذ العام 2011"!

وتابع بيان الوزارة: "كتاب المدنيّات تمّ تحديثه لأوّل مرّة في العام 2000 ومنذ ذلك الحين طرأت عدّة تغييرات تمّ إدراجها في البرنامج التعليمي للعام 2011. وبناء على ذلك ومنذ أربع سنوات بدأت وزارة التعليم بعمل مكثّف وجدّي في عمليّة تحديث جديدة لكتاب المدنيّات وقد شمل ذلك آراء أكاديميين ومهنيين، قضاة وخبراء في هذا المجال. الكتاب الجديد يُفتتح بوثيقة الاستقلال التي ترمز الى المواطنة المشتركة لجميع الفئات، المواقف والمجموعات المختلفة في المجتمع الاسرائيلي . يشار إلى أنّ موضوع المدنيّات هو الموضوع الوحيد الذي يدرّس بشكل مماثل في جميع الأوساط في إسرائيل، بما في ذلك الوسط العربي"!

لكن ادعاء الوزارة هذا بأن "موضوع المدنيات هو الموضوع الوحيد الذي يدرّس بشكل مماثل في جميع الأوساط في إسرائيل، بما في ذلك الوسط العربي" لم يصمد أكثر من جملة واحدة، إذ اعترفت الوزارة في بيانها، مباشرة، بأن الكتاب الجديد (أن نكون مواطنين في دولة إسرائيل) "هو الكتاب الوحيد المترجَم إلى اللغة العربية" (لم يُترجَم، بعد!)، بينما هو واحد من ثلاثة كتب صودق عليها لتدريس موضوع المدنيات (الكتابان الآخران هما: "الحكم والسياسة في إسرائيل" و"إسرائيل دولة يهودية وديمقراطية") و"يستطيع معلمو المدنيات اختيار أي كتاب من بين هذه الكتب الثلاثة" و"الطلاب الذين بدأوا التعلم قبل تحديث الكتاب الجديد، غير ملزمين باقتناء الكتاب الجديد"!! .... وهو خيار غير متاح أمام الطلاب العرب، نظرا لأن الكتاب الجديد هو "الوحيد المترجم إلى العربية"، كما ورد آنفا.

تهميش الأقلية العربية والتركيز على يهودية الدولة!

الصيغة الجديدة من كتاب "أن نكون مواطنين في إسرائيل" لتدريس المدنيات (التربية المدنية) لطلاب المدارس الثانوية في إسرائيل، والتي ستصدر قريبا (خلال الأسابيع القليلة القريبة، كما أكدت الوزارة)، هي ثمرة جهود متواصلة بدأت منذ نحو خمس سنوات. وهي ثمرة "مثيرة للقلق"، كما تؤكد البروفسور تمار هيرمان، المحاضرة في العلوم السياسية في "الجامعة المفتوحة" والباحثة في "المعهد الإسرائيلي للديمقراطية"، والتي كانت تسلمت مسودة هذا الكتاب قبل سنة ونصف السنة، راجعتها وقدمت عليها جملة من الملاحظات وجهتها إلى القيمين على إعداد الكتاب من قبل وزارة التربية والتعليم ـ بطلب منهم ومقابل أجر ماليّ ـ "لكن هذه الملاحظات لم تلق أية معالجة أو اهتمام"، كما قالت هيرمان في مقابلة مع إذاعة الجيش الإسرائيلي (غالي تساهل) يوم 21 كانون الأول الماضي.

يشمل الكتاب الجديد 36 فصلاً موزعة في أربعة أبواب: الأول مخصص لـ"دولة إسرائيل كدولة يهودية"، أما الثاني فمخصص لـ"مبادئ الديمقراطية" والثالث لـ"النظام والسياسة في إسرائيل" والرابع لـ"آراء مختلفة حول الطابع المرغوب للدولة".

وأضافت هيرمان أن كتاب "أن نكون مواطنين في إسرائيل" تم تعديله بحيث "أصبح أكثر يهوديةً وأقل ديمقراطيةً"! علاوة على أنه "يزخر بالأخطاء الجوهرية، سواء في شرح المصطلحات أو في المفاهيم الأساسية التي تتعارض مع الأهداف المرجوة من تدريس المدنيات".

وأوضحت هيرمان أن المسألة ليست في الأولوية وإنما في الوزن والمعيار فقالت: "المسألة ليست ما إذا كانت اليهودية أولاً والديمقراطية ثانيا أم العكس... ليس ثمة أي منطق مهني في شرح مؤسسات الديمقراطية القاعدية في الثلث الأخير من الكتاب فقط"!

وردا على انتقادات البروفسور تمار هيرمان هذه، قال رئيس لجنة موضوع المدنيات في وزارة التربية والتعليم، يوسف ملآخ، إن "منهاج تدريس المدنيات مؤلف من ثلاثة أقسام: الدولة اليهودية، الدولة الديمقراطية والنظام في دولة إسرائيل. هذا هو ترتيب المواضيع منذ 20 سنة على الأقل"! وأضاف: "الموازنة بين الدولة اليهودية والدولة الديمقراطية هي موضع خلاف عام في المجتمع الإسرائيلي... والهدف من تدريس موضوع المدنيات هو طرح جميع الإمكانيات المحتملة للموازنة بين هذه القيم أمام الطلاب وتمكينهم من بلورة رأي وموقف، من خلال فهم المواقف والتوجهات المختلفة"!


وعلاوة على ما في هذه الصيغة الجديدة من هذا الكتاب من تقزيم للمركّب الديمقراطي في هوية دولة إسرائيل وطابعها، لصالح إبراز وإعلاء المركّب اليهودي (ومما يدلل على هذا، أيضا، استهلال مقدمة الكتاب بدعاء من صلاة يهودية، بينما كانت الصيغة السابقة قد استهلت بجملة مقتبسة من "وثيقة استقلال" دولة إسرائيل!)، يتعمد هذا الكتاب، أيضا، تحجيم وتهميش الأقلية العربية في إسرائيل، حقوقها وإمكانياتها، تجاهل مكوّنات هويتها الثقافية والقومية، وخاصة اللغة العربية بوصفها لغة رسمية ومركزية في البلاد.

ويقتصر الكتاب حقوق الأقلية القومية العربية في إسرائيل في مجاليّ التعليم والدين، بينما يُلاحَظ فيه جهد واضح لتفكيك الأقلية العربية وتفتيتها إلى مجموعات طائفية ـ مسلمين، مسيحيين ودروزا ـ مع التشديد على أن الأخيرين "يخدمون في الجيش الإسرائيلي"! وهو ما رأت البروفسور هيرمان أنه "يولّد انطباعاً بأن في الأمر محاولة متعمدة للتمييز بين "عرب جيدين" و"عرب سيئين"!!

وفي تعقيبه على "كراسة المصطلحات الموَجِّهة" الجديدة، المرفقة بالكتاب الجديد، قال البروفسور دان أفنون، من الجامعة العبرية في القدس، إن النقاشات حول موضوع المدنيات هي نقاشات قديمة، كانت كل الوقت ولم تتوقف يوما، "لكنها المرة الأولى التي يتم فيها منع النقاش وإسكاته والشروع، في الوقت نفسه، في حرف منهاج التدريس نحو التوجهات اليهودية ـ القومية، بصورة صريحة ومباشرة". وأضاف أفنون أنه تم شطب وإسقاط مواد أساسية من كراسة المصطلحات، مثل "منظومة سياسية تعددية" أو "التوتر بين الحرية والمساواة وطرق معالجته"، كما تم إسقاط باب كامل عن الفكرة الديمقراطية والعقد الاجتماعي وحسنات الاستفتاء العام، بالإضافة إلى سلبيات وإيجابيات طرق الانتخابات المختلفة وغيرها، بينما تم التركيز، في المقابل، وبشدة لافتة، على "أهمية التضامن بين الجماعة اليهودية، وليس التضامن بين مواطني الدولة"، كما يؤكد أفنون!

وفي الإجمال، يؤكد المطلعون على الصيغة الجديدة من هذا الكتاب أنها تقوم على منظومة من المواد والمصطلحات المشتقة من الرؤية القومية ـ الإثنية اليهودية الضيقة، وسط تجاهل تام لتشكيلة المواقف والآراء المختلفة في الحيز الإسرائيلي العام وفي الأكاديميا، وخاصة المواقف والآراء المركزية بين الأقلية العربية في إسرائيل. وفوق هذا، يخلو الكتاب الجديد من أية معلومات جدية حول موضوع العنصرية بشكل عام وظاهرة العنصرية في إسرائيل بشكل خاص.

المصطلحات المستخدمة:

الكنيست, مسعود غنايم

المشهد الإسرائيلي

أحدث المقالات