لأول مرة منذ ما يزيد عن 63 عاما سيكون في الحكومة الإسرائيلية وزير من التيار الديني المتزمت "الحريديم" الأشكناز، وهو التيار الأكثر تشددا في كل ما يتعلق بالشريعة الدينية، وسيكون النائب يعقوب ليتسمان من كتلة "يهدوت هتوراة" وزيرا للصحة.
وبرغم أن هذه الخطوة تتم بسبب قرار للمحكمة العليا يمنع تكليف نائب وزير بصلاحيات وزير كاملة، إلا أن فيه بعض المؤشرات حول كسر بعض الحواجز القديمة بين "الحريديم" الأشكناز والصهيونية.
وقد سبقها القبول بالاستيطان في المناطق المحتلة منذ العام 1967، لكن هذا لا يعني إسقاط كل الحواجز الجوهرية لأنه بذلك ينتهي تيار "الحريديم" كليا، وهذا ما لا يريده كبار حاخاميهم.
خلفية: الحريديم والصهيونية
ظهرت حركة "الحريديم" في بدايات القرن التاسع عشر بشكل أوضح من نهاية القرن الثامن عشر، إذ أن هذه الحركة التي قادها حاخامون متشددون، ترتكز على اغلاق المجتمعات الدينية اليهودية في وجه مظاهر العصرنة، التي جرفت أبناء الديانة اليهودية، كسائر أبناء شعوبهم في أوطانهم الأوروبية والأميركية. وجاء مصطلح "حريديم"، من كلمة "حريد" أي خائف، والقصد "الخائفون على كلمة الله". وهم يتمسكون بالتفسير الأكثر تشددا للشريعة اليهودية.
ومنذ أن ظهرت الحركات التي دعت للهجرة إلى فلسطين بوتيرة أقوى في أواسط القرن التاسع عشر، ما مهد لاحقا لبلورة الحركة الصهيونية كحركة جامعة لعدة تيارات، انتقدها "الحريديم" وهاجموها، وارتفعت حدة الخلاف بين الجانبين بعد تبلور الحركة الصهيونية، وارتفاع وتيرة نشاطها في فلسطين في مطلع القرن العشرين. فالحريديم يتمسكون بتعريف الحركة الصهيونية كحركة "كافرة"، وأن مملكة إسرائيل يقيمها المسيح حينما يأتي لأول مرّة إلى العالم.
وكانت مجموعات من الحريديم تعيش في فلسطين، وفي الأساس في منطقة القدس، وقد اصطدمت مع الحركة الصهيونية، بعد أن وضعت اقدامها في فلسطين، كمقدمة لاقامة كيان خاص باليهود. وقبيل وعند الإعلان عن قيام إسرائيل في أوج نكبة الشعب الفلسطيني، رفضت الغالبية الساحقة من "الحريديم" في العالم الاعتراف بهذا الكيان. ولكن الغالبية الساحقة من الحريديم في العالم خارج فلسطين، تمسكت بموقفها، بينما غالبية الحريديم في فلسطين، قررت التعاطي مع الكيان المعلن عنه والناشئ، ككيان عابر بالإمكان التعامل معه كمرحلة عابرة، إلى أن يتم ما جاء في التوراة.
واستغلت الحركة الصهيونية هذا الشرخ، ونجح أول رئيس وزراء إسرائيلي دافيد بن غوريون، في اقناع طوائف من الحريديم "الأشكناز" بتشكيل أحزاب وخوض الانتخابات البرلمانية، وحتى المشاركة في الحكومة، وهذا ما تم بالفعل في السنوات الأربع الأولى بعد الإعلان عن اقامة الكيان الإسرائيلي. إلا أنه مع تقدم عمل الحكومات الإسرائيلية، وجد "الحريديم" أنفسهم أمام مطلب المصادقة على قرارات تخالف الشريعة اليهودية.
فقد توصل الحريديم إلى تفاهمات مع بن غوريون حول قدسية السبت، مثل منع الحركة التجارية، ومنع حركة المواصلات العامة، والأخيرة مفروضة منذ ما يقارب سبعة عقود، كتفاهمات شفهية، ولا يوجد قانون يمنع هذه الحركة. كذلك من ضمن التفاهمات التي كانت تصدر ضمن قرارات لرئيس أركان الجيش، عدم فرض الخدمة العسكرية الالزامية على شبان الحريديم.
لكن لاحقا اتخذت الحكومة قرارات وبادرت لقوانين يرفضها الحريديم، وكان القرار الذي أدى إلى خروج "الحريديم" من الحكومة في العام 1952، فتح ابواب ما يسمى بـ "الخدمة الوطنية" الموازية للخدمة العسكرية، أمام الشابات. ومنذ ذلك الحين امتنع الحريديم عن تولي حقائب وزارية ومسؤوليات حكومية، وكانوا يكتفون بدعم الائتلاف مقابل ضمانات وميزانيات وغيرها. ولاحقا قبل الحريديم بتولي منصب نائب وزير، واستمرت هذه الحال لسنوات طويلة.
ونذكر هنا أن الحريديم الشرقيين، "السفاراديم"، كانوا من ناحية حزبية ينخرطون في أحزاب الأشكناز، رغم ان طوائفهم مستقلة على المستوى الديني، ولديهم "حاخام أكبر" رسمي خاص بهم. واستمرت هذه الحال إلى العام 1984، حينما أسس الحاخام الأكبر في سنوات السبعين ومطلع سنوات الثمانين عوفاديا يوسيف حركة "شاس"، وهذه الحركة أقل تشددا في تعاطيها مع "الدولة" وانخرطت في الحكومات مع مناصب وزارية.
وكان يعقوب ليتسمان يتولى في حكومة بنيامين نتنياهو الحالية منصب نائب وزير الصحة، بصلاحيات وزير كاملة، وهو شكل انخراط كتلة "يهدوت هتوراة" التي تضم حزبين لعدة طوائف من الحريديم الأشكناز في الائتلاف الحكومي منذ ما بعد العام 1952 وحتى يوم الأربعاء 2/9/2015. وكان ليتسمان قد تولى المنصب ذاته مع الصلاحيات ذاتها في حكومة نتنياهو الثانية 2009- 2013.
لكن مع بدء عمل الحكومة الجديدة برئاسة بنيامين نتنياهو، توجه رئيس حزب "يوجد مستقبل" يائير لبيد، إلى المحكمة العليا، ضد تولي بنيامين نتنياهو عدة حقائب وزارية، فإضافة إلى رئاسة الوزراء هو وزير للخارجية، وأيضا رسميا هو وزير الصحة، إذ حسب الأنظمة فإن كل حقيبة وزارية لا يتولاها شخص، تسند بشكل مؤقت إلى رئيس الوزراء، كما اعترض لبيد على منح نائب وزير صلاحيات وزير كاملة، وقد قبلت المحكمة العليا التماسه، ما ألزم نتنياهو طرح حل.
وعلى ضوء قرار المحكمة العليا، قرر ما يسمى مجلس "كبار حكماء التوراة" لمجموع أحزاب وطوائف الحريديم الأشكناز، أن يتولى ليتسمان حقيبة وزير، وكان هذا قرار يُعد تاريخيا، إذا أنهى الحظر القائم على تولي منصب وزير منذ 63 عاما.
تقارب وتباعد- بين الجيش والاستيطان
في العقود الثلاثة الأخيرة، تنبهت المؤسسة الإسرائيلية الحاكمة، ومعها الحركة الصهيونية، إلى تسارع وتيرة زيادة أعداد الحريديم، مقارنة بنسب تكاثر العلمانيين، ففي حين أن تكاثر العلمانيين الطبيعي يتضاءل تدريجيا، وبلغ في السنوات الأخيرة نسبة 3ر1% سنويا، فإن نسبة تكاثر الحريديم الطبيعي باتت نحو 5ر3% وأكثر، وهي من أعلى النسب في العالم، إذا أخذنا بعين الاعتبار ارتفاع معدل الأعمار (84 عاما)، وهو أمر ليس موجودا في المجتمعات الفقيرة التي فيها معدلات ولادة كبيرة كالحريديم، ما بين 7 إلى 8 ولادات للأم.
وقد ساعدت موجات الهجرة الضخمة، التي استمرت منذ العام 1989 وحتى العام 2001، ثم انهارت وتيرتها لاحقا، على لجم نسبة الحريديم في المجتمع، إلا أنه مع تراجع الهجرة بشكل حاد، عاد موضوع الحريديم يقلق المؤسسة الإسرائيلية أكثر، نظرا لطبيعة مجتمعهم، فغالبية رجالهم لا يعملون ولا يساهمون في الانتاج، في حين أنهم أيضا ليسوا مستهلكين بالمفاهيم الجديدة للاستهلاك العصري، وهذان أمران ينعكسان أيضا على وتيرة النمو الاقتصادي العام، خاصة حينما نعلم أن نسبة الحريديم تتجاوز 13% من اجمالي السكان، ما يعني أكثر من 5ر16%من اليهود الإسرائيليين.
ولذا رأينا في السنوات الأخيرة تصعيدا من عدة أحزاب في اتجاه فرض الخدمة العسكرية على شبان الحريديم، كما كان في حكومة بنيامين نتنياهو السابقة، وجرى ابطال قراراتها في الحكومة الحالية لضمان انضمام الحريديم للحكومة. ومطلب فرض الخدمة العسكرية، ليس ناجما عن أزمة "قوى عاملة" في الجيش، بل لأن المؤسسة الحاكمة رأت في هذا مدخلا لتحلل مجتمع الحريديم، ودفعه للانخراط أكثر في المجتمع العصري، وهذا ما يفهمه كبار حاخامي الحريديم، من الأشكناز والسفاراديم، ولهذا فهم يعارضون التجنيد من منطلقات دينية.
ولكن مقابل هذا شهدنا منذ منتصف سنوات التسعين تحولات سياسية أخرى لدى "الحريديم"، فحتى تلك المرحلة، رفض الحريديم الانخراط في كل ما يتعلق بالصراع الإسرائيلي الفلسطيني، وحتى أنهم رفضوا الاستيطان في كل المناطق المحتلة منذ العام 1967، ووجود بعضهم في القدس الشرقية المحتلة، كان قائما من قبل. إلا أنه مع تزايد أعدادهم، ورغبتهم في العيش ضمن مجتمعات منغلقة عليهم، والافضل ليس فقط أحياء وإنما تجمعات سكانية ضخمة، فقد قبلوا بالإغراء، والاستيطان في مستوطنات خاصة بهم، وهم الآن يستوطنون أساسا في ثماني مستوطنات، كلها في محيط القدس المحتلة.
وحسب استنتاجات أولية لبحث بات في مراحله الأخيرة، في مركز "مدار" الفلسطيني للدراسات والابحاث الإسرائيلية، في رام الله، فإن الحريديم باتوا يشكلون ما يزيد عن 30% من مستوطني الضفة الغربية المحتلة من دون القدس. وهذه النسبة آخذة بالازدياد من عام إلى آخر، بفعل نسبة تكاثرهم في تلك المستوطنات بنحو يزيد عن 5ر5%، وقسم من هذه النسبة هو بفعل انتقال الأزواج الشابة من القدس ومن مدن أبعد نسبيا، مثل بني براك وأسدود وغيرها للاقتراب إلى القدس، وبأسعار بيوت أقل.
عند التصويت على اتفاقيات أوسلو في العام 1993، أيدت كتلة "شاس" للحريديم الشرقيين الاتفاقيات، وأصدر عوفاديا يوسيف "فتوى" تقول، إنه "مسموح التنازل عن الارض من أجل منع سفك الدماء"، أما كتلة "الحريديم" الاشكناز، فقد كانت في حينه خارج الائتلاف الحاكم، ولكن أعضاءها غادروا القاعة ولم يشاركوا في التصويت، بعد أن ابرمت حكومة إسحاق رابين معهم صفقة تتضمن تحويل ميزانيات اضافية لمؤسساتهم. وهذا بحد ذاته يؤكد طبيعة تعاملهم مع الصراع حتى تلك الفترة.
إلا أنه ابتداء من نهاية سنوات التسعين، وخاصة من العام ألفين وصاعدا، بدأت التحولات اليمينية في الشارع الإسرائيلي تنعكس على الحريديم، وهذا توجه تصاعد ويتصاعد، حتى باتوا في معسكر اليمين المتشدد كليا.
حدود القرار الجديد
في الحقيقة، كان من المفترض أن يلقى قرار "مجلس كبار حكماء التوراة" ضجة كبرى، إلا أن المعلقين والمحللين، اكتفوا بمصطلح "قرار تاريخي"، دون أن يتعاملوا مع القرار وكأنه تحول استراتيجي بعيد المدى.
فالحريديم شاركوا في غالبية ائتلافات الحكومات الإسرائيلية، وكانت تتفجر بعض الأزمات معهم في قضايا تتعلق بالشرائع الدينية، وخاصة قدسية السبت والتهويد وقضايا الحلال، وكانت الأحزاب الكبرى تلائم نفسها لمطالبهم، حفاظا على بقائهم في الائتلاف الحاكم. وكذا أيضا بالنسبة لميزانيات مؤسسات الحريديم.
ولا تلوح في الأفق أية مؤشرات لإحداث انكسار جوهري في موقف الحريديم من قضية الانخراط في جيش الاحتلال نظرا لأبعادها بعيدة المدى على شكل مجتمعات الحريديم، وتعاطيهم مع هذا "الكيان العابر المسمى إسرائيل". وأيضا في قضية الانخراط في سوق العمل، فنسبة انخراط رجال الحريديم من عمر 25 إلى 64 عاما في سوق العمل، بالكاد تتجاوز نسبة 40%، مقابل معدل 79% في الجمهور الواسع، ونسبة 58% بين نساء الحريديم.
وبالنسبة لجمهور الحريديم، فإنهم "مكلفون" بالحفاظ على التوراة ونشرها، ويرون أن هذه مهمتهم الأساس لخدمة "شعب إسرائيل". ولكن من خلف هذا التوجه يقف رفض الانخراط كليا في المجتمع العلماني العصري.
ونشير أيضا إلى أن الحريديم ككل، وبشكل خاص التيار الرافض كليا الاعتراف بإسرائيل، طائفة ساتمر ومنها تشتق طائفة ناتوري كارتا، يديرون اقتصادا "أسود" بمعنى خارج السجلات الرسمية والضرائب، ويقدر بمليارات الدولارات.