المشهد الإسرائيلي

ملحق أسبوعي يتضمن مقالات صحفية وتحليلات نقدية ومتابعات عن كثب لمستجدات المشهد الإسرائيلي.
  • تقارير، وثائق، تغطيات خاصة
  • 2068

لم تستطع وزيرة العدل الإسرائيلية الجديدة أييلت شاكيد (من حزب "البيت اليهودي")، تمالك أعصابها والالتزام بما يمليه موقعها الرسمي من تريث، انضباط، رصانة، تعقل، في علاقتها، بحكم منصبها وزيرة للعدل، مع "الجهاز القضائي" الذي تتولى المسؤولية المباشرة عنه، بما تنطوي عليه (هذه المسؤولية) من واجب التصدي لأية محاولة تستهدف هذا الجهاز، محاكمه وقضاته، أيا كانت مصادرها ودوافعها، ثم الدفاع عنه وبذل كل ما يلزم من أجل حمايته وصيانته.

ففي الامتحان الحقيقي الثاني في منصبها الجديد هذا، لم تجد شاكيد أي حرج أو وازع يمنعها من الرقص على أنغام زعيم حزبها، نفتالي بينيت (وزير التربية والتعليم!)، وقيادة حملة رعناء من التهديد والتحريض ضد الجهاز القضائي، من خلال مؤسسته الأعلى والأهم ـ المحكمة العليا. وبهذا، أثبتت شاكيد عمليا أنها بإشغالها منصب وزيرة العدل لم تغادر نهجها "السياسي ـ الحزبي" الذي درجت عليه حتى اليوم في معاداة الجهاز القضائي، التحريض عليه والسعي المحموم لمحاصرته. ومن المعروف أن شاكيد كانت قد بادرت، خلال الكنيست الماضي، إلى تقديم مشروع قانون خاص لهذه الغاية ـ فرض قيود "قانونية" على المحكمة العليا وتقليص صلاحياتها بذريعة "إعادتها إلى حجمها ومكانها الطبيعيين في منظومة الحكم في إسرائيل وفي ضوابط العلاقة المتبادلة بين السلطات الثلاث"!

أما الامتحان الحقيقي الأول الذي واجهته شاكيد في منصبها الجديد هذا فتمثل في تصريح زميلها في الحزب والكتلة البرلمانية، عضو الكنيست موطي يوغيف، الذي دعا إلى "تحريك الجرافات لهدم المحكمة العليا"، في أعقاب قرارها تنفيذ أوامر هدم مبان في مستوطنة بيت إيل (يوم 29 تموز الماضي). وهو التصريح الذي أثار ضجة كبيرة في إسرائيل شملت قطاعات سياسية ـ حزبية، حقوقية وإعلامية واسعة، غير أن شاكيد نفسها لاذت بالصمت المطبق ولم يصدر عنها أي تعقيب يحمل تنديدا بهذا التصريح أو استنكارا له، ولا حتى مجرد رفضه!

"قانون المتسللين" – إلغاء للمرة الثالثة!

حملة التحريض والتهديد الجديدة التي تولتها شاكيد، سوية مع زعيم حزبها بينيت، انطلقت على خلفية قرار "محكمة العدل العليا" الأخير بشأن "قانون المتسللين"، وهي المرة الثالثة التي تصدر فيها هذه المحكمة قرارات قضائية تقضي بإلغاء هذا القانون، أو بعض بنود منه، نظرا لعدم دستوريته، أي: تعارضه مع أحد "قوانين الأساس" التي تشكل، في الممارسة القضائية الإسرائيلية، "دستورا" إسرائيليا غير مكتوب.

وللتذكير، فإن "قانون المتسللين" هو الاسم الشائع في إسرائيل (سياسيا وإعلاميا) للصيغة الجديدة من "قانون منع التسلل" الإسرائيلي، بعد التعديلات التي أدخلها الكنيست (بمبادرة من الحكومة) على الصيغة الأصلية لهذا القانون، الذي كان الكنيست الإسرائيلي قد أقره، للمرة الأولى، في 16 آب من العام 1954 لمحاربة ما كانت تطلق عليه إسرائيل آنذاك اسم "المتسللين" الفلسطينيين، من خلال رفع درجة خطورة "مخالفة التسلل" في التدريج الجنائي الإسرائيلي ومن خلال إنشاء جهاز قضائي عسكري خاص يستطيع محاكمة "المتسللين" بأقصى السرعة الممكنة.

التعديل الأول (الذي حمل الرقم 3) لـ"قانون المتسللين" أقره الكنيست في كانون الثاني 2012 جاء بصيغة "أمر ساعة" لثلاث سنوات، وذلك "بهدف حماية المصلحة العامة"، كما قال المشرّعون (أي: محاربة وطرد طالبي اللجوء الأفارقة الذين يصلون إلى إسرائيل). وتضمن التعديل (رقم 3) إضافة بندين أساسيين، يسمح أولهما باحتجاز / سجن أي شخص يعبر الحدود دون تصريح، اعتقالا إداريا، لمدة تصل إلى ثلاث سنوات دون محاكمة، بدلا من 60 يوما كما كان في السابق، ويمكن في بعض الحالات تمديد فترة الاحتجاز هذه إلى أجل غير مسمى. أما البند الثاني في التعديل فنص على إمكانية فرض عقوبة السجن الفعلي لمدة تتراوح من 5 سنوات إلى 15 سنة على أي شخص يُدان بمساعدة هؤلاء "المتسللين"، سواء في عملية "التسلل" نفسها أو بعد دخولهم إلى البلاد، بما في ذلك أعمال الإغاثة. وقد صدر توضيح إسرائيل رسمي هنا يؤكد أن "القانون لا يسري على المنظمات الإنسانية التي تقدم العون للاجئين"، رغم أن نص التعديل لا يميز بين طالبي اللجوء واللاجئين وبين مهاجري العمل غير القانونيين.

وفي 16 أيلول 2013، أصدرت المحكمة العليا قرارها في الالتماس الذي تقدمت به مجموعة من منظمات حقوق الإنسان في إسرائيل ضد هذا التعديل (رقم 3) بدعوى عدم دستوريته، فأعلنت المحكمة ـ بإجماع تسعة قضاة ـ أن التعديل غير دستوري لأنه "ينطوي على مسّ غير تناسبي بالحق في الحرية كما يضمنه قانون أساس: كرامة الإنسان وحريته". وتأسيسا على خلاصتها هذه، حددت المحكمة مهلة 90 يوماً ليتم بعدها النظر في وضعية كل واحد من المعتقلين، بصورة عينية.

وعلى ضوء قرار المحكمة هذا، وما تضمنه من "رسالة مبطنة" إلى الحكومة، سارعت هذه الأخيرة إلى عرض تعديل آخر (حمل الرقم 4) للقانون نفسه، أقره الكنيست في إجراء تشريعي سريع، في كانون الثاني 2013. وقضى هذا التعديل بتقليص مدة الحد الأقصى المسموح بها لاعتقال أي شخص يعبر الحدود بدون تصريح، اعتقالا إداريا بدون محاكمة، إلى سنة واحدة فقط، بدلا من ثلاث سنوات كما نص التعديل الأول (رقم 3). وقد دخل التعديل الثاني (رقم 4) حيز التنفيذ في كانون الثاني 2014.

وفي 22 أيلول 2014، أصدرت "المحكمة العليا" (بهيئة موسعة تألفت من تسعة قضاة) قرارها بشأن التماس آخر، جديد، كانت تقدمت به المنظمات الحقوقية المعنية وطالبت من خلاله بإقرار عدم دستورية هذا التعديل الجديد (رقم 4)، ثم إلغائه، بادعاء أنه "لا يلبي الشروط التي وضعتها المحكمة العليا ولا ينسجم مع المبادئ التوجيهية التي أرستها في قرارها السابق". وقد توصل القضاة التسعة في قرارهم الجديد هذا إلى الخلاصة التالية: "التعديل موضوع الالتماس (التعديل رقم 4) غير دستوري، لأنه ينطوي على مسّ حاد وغير تناسبي بالحق الدستوري في الحرية، والذي يضمنه قانون أساس: كرامة الإنسان وحريته"! وتصيب هذه الخلاصة بندين أساسيين في التعديل المذكور: البند الأول ـ ينص على حبس كل إنسان يتسلل إلى إسرائيل بطريقة غير قانونية لفترة أقصاها سنة واحدة من غير تقديمه إلى محاكمة. والبند الثاني ـ ينص على الزج بجميع طالبي اللجوء الأفارقة المقيمين في مدن إسرائيلية مختلفة في "منشأة حولوت" ("مركز إقامة للمتسللين") في صحراء النقب. وهنا، رأى قضاة المحكمة أن هذا البند غير دستوري فأصدروا أمرا بإغلاق هذه المنشأة (وهي، في الحقيقة، عبارة عن سجن تديره "سلطة السجون الإسرائيلية"، أقيم بتكلفة بلغت أكثر من نصف مليار شيكل!) في فترة لا تتعدى الـ 90 يوما.

وفي أعقاب هذا القرار، عاد الكنيست وسارع إلى إدخال تعديل جديد في "قانون المتسللين" (التعديل الثالث)، وذلك يوم 8 كانون الأول 2014، قبل ساعات معدودة فقط من حل نفسه بإقرار قانون حل الكنيست (الـ 19) وتقديم موعد الانتخابات للكنيست الـ 20 إلى يوم 17 آذار 2015. وكان الهدف من تشريع هذا التعديل بسرعة البرق هذه: تلافي إغلاق منشأة "حولوت" في نهاية ذلك الشهر نفسه، طبقا لقرار المحكمة العليا المذكور أعلاه. فلو أن هذا التعديل لم يُقرّ حتى يوم 22 من الشهر نفسه (كانون الأول 2014)، لكان لزاما على الدولة إغلاق منشأة "حولوت" وإطلاق سراح جميع طالبي اللجوء المعتقلين فيه (أكثر من 2200 مواطن إريتري وسوداني). وقضى هذا التعديل بتقصير فترة الحد الأقصى المسموح بها لاعتقال "المتسللين" (طالبي اللجوء الأفارقة) في معتقل "سهرونيم" لمدة ثلاث سنوات، إلى جانب تقصير فترة الحد الأقصى المسموح بها لاحتجاز / اعتقال هؤلاء في "حولوت" لمدة 20 شهراً، إضافة إلى تمكين "المتسللين" من الخروج من السجن خلال ساعات النهار.

وفور إقرار هذا التعديل، عادت المنظمات الحقوقية ذاتها (التي قبلت المحكمة العليا التماسيهما السابقين في الموضوع) وأعلنت أنها ستواصل معركتها ضد هذا القانون غير الدستوري مؤكدة أن "سجن اللاجئين لنحو سنتين في منشأة حولوت وتكديس العقبات أمام المشغلين الراغبين في تشغيل هؤلاء اللاجئين فيهما ما يكرس انتهاك حقوق طالبي اللجوء ويعمق الضائقة في الأحياء التي يسكنون فيها". ثم عادت وقدمت التماسا آخر إلى المحكمة العليا.

وفي يوم 11 آب الجاري، أصدرت "محكمة العدل العليا" (بتركيبة تسعة قضاة، شارك سبعة منهم في النظر والبت في الالتماسين الأولين بشأن التعديلين الأول والثاني) قرارها النهائي بشأن هذا الالتماس (والتعديل ـ الثالث) فاعتبرت أن الفترة التي حددها التعديل لإمكانية "احتجاز" (حبس) طالبي اللجوء في "حولوت" (أي، 20 شهرا ـ سنة واحدة وثمانية وأشهر) هي "فترة غير تناسبية"، ولذا فإن التعديل في هذا الشأن "غير دستوري ولاغٍ"! وأصدرت المحكمة، بالتالي، أمرا إلى الحكومة وسلطاتها المختلفة يلزمها بإطلاق سراح أي محتَجَز (معتقل) من طالبي اللجوء لمدة سنة واحدة أو أكثر في غضون 15 يوما. ويعني هذا الأمر إطلاق سراح نحو 1200 شخص طالبي اللجوء بصورة فورية، تقريبا.

شاكيد تحاول إرهاب القضاة وتحرّض!

عشية التئام هيئة "محكمة العدل العليا" الموسعة للبتّ في التعديل الأخير (الثالث) على "قانون المتسللين" وقبيل ساعات من الموعد المحدد لإصدار قرارها بشأن الالتماس المقدم ضده، أقدمت وزيرة العدل، شاكيد، على خطوة غير مسبوقة في تاريخ دولة إسرائيل منذ قيامها ويمكن، بالتالي، اعتبارها كسرا لأصول "اللعبة الديمقراطية" وقواعدها المرعية وانتهاكا فظا لمبدأ أساس في أي نظام ديمقراطي، تدعي إسرائيل تبنيه واعتماده، وهو مبدأ الفصل بين السلطات.

ففي محاولة مفضوحة وخطيرة لممارسة "التأثير" على هيئة المحكمة وقضاتها، وهو التأثير الذي يستحيل ترهيبا وإرهابا حينما يصدر عن الوزير المسؤول مباشرة عن "الجهاز القضائي" ومحاكمه (وقضاته، أيضا!)، استغلت شاكيد صفحتها الخاصة على موقع التواصل الاجتماعي (فيسبوك) لـ"التعليق" على قرار المحكمة المتوقع، الذي سيصدر بعد ساعات، من خلال توجيه "تحذير" صريح للقضاة لئلا "يجرؤوا" على اتخاذ قرار لا يروق لها و/ أو لا ينسجم مع مواقفها السياسية ونوازعها الحزبية!!

فقد كتبت شاكيد، قبيل ساعات قليلة من صدور قرار المحكمة (يوم 11 آب): "اليوم مساءً، سيصدر قرار الحكم بشأن قانون التسلل. لقد تم إلغاء القانون من قبل المحكمة العليا مرتين حتى الآن. صيغة القانون التي أقرتها المحكمة العليا في المرة السابقة متسامحة أكثر من اللزوم، والدليل على هذا أن ظاهرة التسلل، التي كدنا نتغلب عليها، عادت لتتسع خلال الأشهر الأخيرة فتسلل عشرات الأفارقة إلى إسرائيل. إذا ما ألغي القانون مرة ثالثة (في قرار المحكمة المرتقب) فسيكون هذا بمثابة الإعلان عن الأحياء في جنوب تل أبيب منشأة تجميع رسمية للمتسللين. منذ الآن وكل ساعتين، حتى صدور قرار الحكم، سأنشر أشرطة فيديو تعرض الحياة التي لا تطاق التي يعيشها سكان الأحياء الجنوبية من تل أبيب. الرجاء أن تنشروا"!!

وأرفقت وزيرة العدل تعليقها الخطير هذا بشريط فيديو أكثر خطورة من شأنه تأجيج الكراهية وإذكاء العنصرية، المستشرية أصلا، ضد اللاجئين الأفارقة والتحريض على الاعتداء عليهم، وذلك تحت عنوان "لاجئ سوداني يعتدي على فتاة في قلب مدينة تل أبيب"! غير أن الأمر اكتسى خطورة أكبر وأعمق حين تبين أن ما يعرضه شريط الفيديو ليس في مدينة تل أبيب وليس في إسرائيل عامة، مما اضطر الوزيرة إلى شطبه على الفور. لكنها عادت، لاحقا، ونشرت شريطا جديدا، بعد إخضاعه لعملية تحريرية، تحت عنوان: "جنون في نفيه شأنان (أحد أحياء تل أبيب) ـ متسللة تنقض على نشيطات"!!

أما زعيم حزبها، وزير "التربية والتعليم"، نفتالي بينيت، فعقب على قرار المحكمة، بعيد صدروه، فشن حملة نقد حادة جدا على المحكمة وقرارها وقضاتها، إذ كتب على صفحته الخاصة على موقع "فيسبوك" أن "المحكمة العليا ترتكب خطأ جسيما بتدخلها مرة أخرى في قرارات الهيئات المنتخبة"! في إحالة واضحة إلى التهمة التي يرمي اليمين بها قضاة المحكمة ومفادها أنهم "غير منتخـَبين من قبل الجمهور"! وأضاف: "قضاة المحكمة العليا يتسببون بتناقص وتدني ثقة الجمهور بهم"!! وخلص بينيت إلى التهديد المباشر والصريح: "إذا ما تواصلت الفاعلية القضائية (ما يسميه "تدخلا"!) فسنعمل على لجمها"!

وفي الخلاصة، أن قادة اليمين الاستيطاني يواصلون حربهم الشعواء ضد الجهاز القضائي في إسرائيل، وخاصة ضد المحكمة العليا وقضاتها. ولئن كانوا قد أداروا حربهم هذه من قبل من خارج الكنيست والحكومة، ثم من مقاعد المعارضة أو حتى من مقاعد الائتلاف، فإنهم يديرونها الآن من خلال مناصبهم الوزارية الحكومية الأرفع. ويبقى "تدخل" وزيرة العدل السافر والخطير كما بيّنّاه آنفا هو الأخطر من بينها جميعا، إذ يشكل انتهاكا فظا وصارخا للأصول والقواعد التي كانت مرعية حتى الآن في مستوى الفصل بين السلطات المختلفة والعلاقة التبادلية بينها. وليست ثمة أية مبالغة في القول إن سلوك وزيرة العدل في القضيتين المذكورتين (تهديد زميلها يوغيف بهدم المحكمة ثم محاولة "التدخل" من جانبها) يشكل تطورا مفصليا في كل ما له علاقة بمبدأ الفصل بين السلطات المختلفة والعلاقة التبادلية فيما بينها، بمعنى أن ما ستشهده هذه العلاقة منذ الآن فصاعدا سيكون مختلفا تمام الاختلاف، بصورة جوهرية وحادة، عما كان سائدا من قبل، وخاصة من حيث قدرة هذه السلطات على "إدارة التوتر" الطبيعي فيما بينها، احتوائه وترشيده بصورة متوازنة ومتعقلة، بما يضمن إمكانية تعايشها المشترك وأدائها التكاملي.

المصطلحات المستخدمة:

قانون حل الكنيست, الكنيست, نفتالي بينيت

المشهد الإسرائيلي

أحدث المقالات