ينظم "مركز مولاد لتجديد الديمقراطية في إسرائيل"، غداً الثلاثاء، ندوة عبر تطبيق زووم لبحث ومناقشة الدراسة الجديدة التي صدرت عن المركز في نهاية شهر تشرين الأول الأخير تحت عنوان "الانقلاب الشرطويّ: كيف أصبحت شرطة إسرائيل قوّة معادية للديمقراطية؟ وكيف بالإمكان إعادة بنائها من جديد؟"، وذلك بمشاركة مُعدّ الدراسة، نيفو شبيغل، الباحث في المركز، وآخرين سوف يشاركون، في ضوء الدراسة وما خلصت إليه، في مناقشة الموضوعات التالية: كيف نجح وزير الأمن القومي إيتمار بن غفير في السيطرة على الشرطة بمثل هذه الدرجة من السهولة؟ كيف سيكون بالإمكان إعادة بناء شرطة تليق بدولة ديمقراطية في اليوم التالي على انتهاء ولاية بن غفير في منصبه الوزاري هذا كمسؤول مباشر عن جهاز الشرطة الإسرائيلية؟
أول ما يلفت الانتباه في هذه الدراسة، من عنوانها بداية، هو الإقرار الجازم بأنّ الشرطة الإسرائيلية قد أصبحت، في الواقع العمليّ، قوّةً/ ذراعاً سلطوية معادية للديمقراطية، وليس أنها لا تزال في سيرورة تحوّل كهذه. غير أنّ هذه الحقيقة ترتكز على حقيقة أخرى لا تقل أهميّة، على الإطلاق، شكّلت نقطة انطلاق مركزية في هذه الدراسة، هي: أن إبعاد بن غفير عن الشرطة هو شرط ضروري لكنه غير كافٍ. ذلك أن إشكالية تدهور جهاز الشرطة وسيرورة انقلابه المعادي للديمقراطية لم تبدأ مع بن غفير، بل قبله بكثير، ولذا فهي لن تنتهي بإقصائه والتخلص منه. بن غفير هو حالة متطرفة جداً وبالغة الخطورة بشكل استثنائي، غير أنّ ما يصحّ على الحكومة الحالية (حكومة "اليمين الخالص") برمّتها ومدى الأضرار الفادحة التي ألحقتها بالدولة وبمنظوماتها المختلفة وعلى المستويات المختلفة كافة، يصحّ على بن غفير في ما يخص الشرطة عينياً، أيضاً: لا شيء ممّا يحدث من تدهور حاليّ في مؤسسات الدولة ومنظوماتها بدأ مع هذه الحكومة تحديداً، بل سبقها بسنوات ودورات وحكومات كثيرة، ولذا فإن التخلص منها يمكن أن يشكل شرطاً أولياً وضرورياً لبدء مسيرة من المراجعة والإصلاح وإعادة البناء من جديد، لكنه شرط غير كافٍ، بأيّ حال من الأحوال.
الشرطة، دون غيرها من المؤسسات، استسلمت دون أية مقاومة!
تؤكد الدراسة أن "الشرطة الإسرائيلية تعيش هذه الأيام ذروة أزمة تاريخية تنعكس في مستويين اثنين مركزيين: الأول، إخفاق متواصل في مواجهة ومكافحة آفة الجريمة والعنف التي تعصف بالبلاد من أقصاها إلى أقصاها؛ والثاني، الهيمنة السياسية غير المسبوقة من جانب الوزير إيتمار بن غفير عليها، إلى درجة أنه جعل الشرطة مجرد أداة طيّعة بين يديه". قبل ذلك وتمهيداً له، كان استيلاء اليمين المتطرف على الشرطة قد دشّن مرحلة إضافية أخرى ـ خطيرة بشكل خاص ـ في مساعي الائتلاف الحكومي الجديد المكون من "اليمين الخالص" لتفتيت ما يسمى "سلطة القانون" ولإخضاع مؤسسات الدولة المختلفة وجعلها أدوات طيّعة في خدمة المصالح السياسية ـ الحزبية للأحزاب المكوِّنة لهذا الائتلاف الحكومي. لكن، بينما استطاعت أجسام ومؤسسات عامة أخرى صدّ محاولات الاستيلاء عليها من جانب نتنياهو وحلفائه وأتباعه وإحكام سيطرتهم المباشرة عليها، سقطت الشرطة الإسرائيلية بسرعة مذهلة في قبضة المسؤول السياسي المباشر عنها، ومن دون أية مقاومة تُذكر على الإطلاق حتى. وقد حصل ذلك لأن ـ ضمن أسباب أخرى ـ عدداً غير قليل من القادة الكبار في الشرطة الإسرائيلية استسلموا ووضعوا أنفسهم، بحماسة لافتة، في خدمة سيرورة تحزيب الشرطة، تسييسها وإفسادها من الداخل، والتي قادها بن غفير شخصياً. فكيف ولماذا حصل ذلك بكل هذه السهولة؟ هذا هو السؤال المركزي الكبير الذي تسعى هذه الدراسة إلى تحليله وتقديم الإجابة عليه.
تكرّس، في السجال الإسرائيلي العام، عدد من التحليلات التي طُرحت في تفسير النجاح الكبير وغير المسبوق الذي حققه إيتمار بن غفير في إحكام سيطرته الشخصية والحزبية على جهاز الشرطة الإسرائيلية، بسهولة فائقة نسبياً، وذلك في أعقاب تعيينه وزير الأمن القومي على خلفية الإنجاز الكبير الذي حققه وحزبه "عوتسما يهوديت" في الانتخابات البرلمانية العامة الأخيرة في إسرائيل، والتي جرت في الأول من تشرين الثاني 2022، حين فاز ـ في إطار تحالفي مع حزب "الصهيونية الدينية" برئاسة بتسلئيل سموتريتش ـ بنحو 11 بالمائة من مجمل الأصوات (نحو مليون ومائتا ألف صوت)، ثم بـ 14 مقعداً شكّل بها هذا التحالف ثالث أكبر كتلة برلمانية في الكنيست الإسرائيلي (الـ 25). تمحور أحد تلك التفسيرات، على سبيل المثال، حول استخدام بن غفير طريقة التعيينات في جهاز الشرطة، بينما ربطه آخر بالزيادات الكبيرة التي أضافها إلى ميزانية الجهاز مستغلاً نفوذه وثقله السياسيين في الخارطة الحزبية ـ الائتلافية. لكنّ جميع هذه التفسيرات ـ ورغم ما لها من ارتباط، إلى هذا الحد أو ذاك، بالحقيقة والواقع الفعليين ـ تظل ناقصة وقاصرة، كما يقول بحث "مولاد"، لأنها "تخلط ما بين الوسائل التي استعان بها بن غفير لإحكام سيطرته على الشرطة، من جهة، وبين الأسباب العميقة التي أتاحت له ذلك منذ البداية".
"شرطة ذات طابع استعماريّ"!
قبل نحو سنتين، أعلنت الحكومة الإسرائيلية الجديدة حرباً شاملة على جميع المؤسسات الرسمية في الدولة ـ كما يقول البحث ـ وهي حرب لا تزال تدور رحاها حتى هذا اليوم. فقد أطلق وزير العدل "برنامجاً إصلاحياً" يرمي إلى القضاء على استقلالية الجهاز القضائي والمحكمة الإسرائيلية العليا في مقدمته، كما أعلن وزير الاتصالات حرباً على وسائل الإعلام المستقلة في إسرائيل، بينما يقود وزير المالية حرباً تدميرية ضد الاقتصاد الإسرائيلي مصحوبة بميزانيات ضخمة يوزعها على المقربين السياسيين ـ الحزبيين منه، وغير ذلك من حروب أخرى يشنها الوزراء على مؤسسات تابعة لوزاراتهم.
في غضون فترة لا تزيد عن أشهر قليلة، تحوّل إيتمار بن غفير، الكهانيّ المُدان بالإرهاب، من هدف للشرطة إلى "وزير الأمن القومي" المسؤول المباشر عنها، لا بل: الحاكم بأمره المطلق عليها. وخلال فترة قصيرة منذ تسلمه هذا المنصب، تحولت الشرطة تحت سلطته من "شرطة إسرائيل" إلى "شرطة عوتسما يهوديت". فلماذا نجح بن غفير، في منصبه الوزاري الأول في حياته، في أن يفعل بالشرطة ما لم ينجح وزيرا العدل والاتصالات ياريف ليفين وشلومو كرعي وآخرون في أن يفعلوه في المؤسسات الرسمية الخاضعة لسلطتهم؟
هنا، يطرح البحث ادعاءه المركزي في هذا السياق وهو أن بن غفير نجح في إخضاع الشرطة لإمرته "ليس بفضل قدرته الإدارية ـ التنفيذية الاستثنائية"، وإنما "بسبب جملة من المشكلات البنيوية والثقافية التي تنخر في هذا الجهاز منذ عشرات السنين وشهدت تفاقماً حاداً خلال العقد الأخير بوجه خاص". أما "الجذر المشترك"، كما يصفه البحث، بين جميع تلك المشكلات، فيكمن في "حقيقة أن شرطة إسرائيل لا تزال تعمل على أساس الأوامر، البنى التنظيمية والنظرة الذاتية التي ورثتها عن شرطة الانتداب البريطانية". ونتيجة لذلك، فهي "لا تزال تعمل كشرطة ذات طابع كولونيالي/ استعماري: تلك التي تعتبر أن التزامها الأساس ليس تجاه القوانين ونصوصها وأحكامها، وإنما تجاه تعليمات السلطة المركزية وأوامرها؛ تقدّس استخدام القوة وطرائق العمل العسكرية وتفضّلها، بلا مُنافس، على أية طرق وأساليب عمل أخرى؛ عديمة أي إحساس بالمسؤولية تجاه المواطنين؛ وتفتقر إلى أية آليات رقابة أساسية كتلك التي تميز الأجسام الشُّرَطيّة في الدول الديمقراطية".
ولهذا، يؤكد البحث على أن إقصاء بن غفير عن وزارة الأمن القومي يشكل، من دون شك، شرطاً أولياً وضرورياً لترميم الشرطة وإعادة بنائها، لكنّه لا يشكل ـ ولا بحال من الأحوال ـ حلاً للمشكلات العميقة المستفحلة في هذا الجهاز. وهذا ما يدفع الباحث إلى طرح جملة من التوصيات السياسية التي في وسعها، أيضاً، جعل الشرطة جهازاً أكثر فاعلية في تأدية مهماتها وفي ملاءمة طابعها لقواعد العمل في دولة ديمقراطية.
لكن، قبل تلك التوصيات وفي مقدمتها، ونظراً لأنّ وضع الشرطة خطير للغاية ولأنّ أصل مشكلاتها هو بنيويّ في أساسه، فإنّ الاستنتاج المركزي الذي يعرضه البحث هو: الحاجة الملحة لتفكيك جهاز الشرطة الإسرائيلية وإعادة بنائه من جديد، سعياً إلى إعادة تحويل الشرطة هنا إلى مؤسسة تعمل بصورة شرعية في دولة ديمقراطية وتنفذ أعمالها بصورة ناجعة. وذلك، على غرار ما جرى من برامج إصلاحية في العديد من أجهزة الشرطة في العالم خلال العقود الأخيرة، وخاصة في بلجيكا، النمسا وأستراليا.
التوصيات:
بعد التحليل والتشخيص الواسعين والمستفيضين لواقع الشرطة الإسرائيلية ومكامن أمراضها ومشكلاتها، يعرض البحث سلسلة من التوصيات لإجراء "تغييرات منظومية"، مؤكداً أن تلك المقترحات/ الإجراءات/ الخطوات "ليست مربوطة ببعضها البعض"، تشمل ما يلي: * إصلاح بنيوي شامل في جهاز الشرطة، يتم في إطاره استبدال الشرطة بمنظومة جديدة مكونة من مستويين: مستوى قُطري ـ شرطة قُطرية تتولى معالجة الجريمة الخطيرة، الجريمة المنظمة، الشرطة البحرية والجوية، الإرشاد والتأهيل والقضايا الأمنية. وتكون هذه خاضعة لوزارة الأمن القومي؛ ومستوى محلي ـ هو عبارة عن مراكز شرطة لوائية تناط بها مهمة معالجة القضايا المحلية، مثل الدوريات، المحافظة على النظام العام. وتكون هذه خاضعة للسلطات المحلية؛ * تشكيل لجنة مراقَبة وتفتيش قُطرية، تتشكل من ممثلي جمهور وأعضاء كنيست وخبراء مختصين؛ * تكريس استقلالية الشرطة عن المستوى السياسي في نص قانوني واضح يتم تشريعه خصيصاً؛ * إلغاء دائرة "الادعاء الشُّرَطيّ" ونقل جميع صلاحياتها إلى النيابة العامة للدولة، باستثناء ما يتعلق بالاعتقالات؛ * إلغاء "قسم التحقيق مع أفراد الشرطة" (ماحَش) وتشكيل "مفوضية مستقلة لمعالجة شكاوى الجمهور ضد أفراد الشرطة"، على أن تتمتع المفوضية الجديدة باستقلالية تامة ولا تكون خاضعة لأية وزارة حكومية؛ * اعتماد مبدأ المسؤولية الشخصية بشأن عنف أفراد الشرطة، بحيث يتم تعديل القانون لكي يتحمل أفراد الشرطة المسؤولية الشخصية المباشرة في حال استخدامهم القوة المفرطة ضد المواطنين، وفي حال دفعت الدولة تعويضاً لمواطن بسبب عنف الشرطة المفرط، يتم إلزام الشرطي العنيف بتعويض الدولة عما تكبدته من خسارة وضرر؛ * تقليص فجوة القوة ما بين أفراد الشرطة والمواطنين، بحيث يتم تعديل القانون لينص على أن استخدام القوة هو الوسيلة الأخيرة ـ وليست الأولى ـ التي يلجأ إليها الشرطي في تعامله مع المواطنين؛ * إقرار جملة من المحفزات التنظيمية لمنع العنف البوليسي من جانب أفراد الشرطة؛ * إلغاء "الحرس القومي" الذي أقامه بن غفير. يتم تشكيل لجنة خاصة تناط بها إعادة فحص مسألة الحاجة إلى مثل هذا الجسم. وفي كل الأحوال، إذا ما اقتضت الحاجة تفعيل إطار قتاليّ عسكري في داخل إسرائيل في حالات الطوارئ، يتم تنفيذ ذلك تحت مسؤولية الجيش الإسرائيلي وليس تحت مسؤولية الشرطة.
بالإضافة إلى ذلك، يوصي البحث ببعض الخطوات الموضعية في فترة ما بعد إقصاء إيتمار بن غفير عن منصبه الوزاري الحالي والتخلص من سلطته المباشرة على جهاز الشرطة، وتشمل هذه الخطوات: * تنظيف الحظائر في الشرطة واستبدال جميع الصف القيادي في الجهاز، بغية إعادة ترميمه وتثبيت وضعية الاستقرار في داخله، وبحيث تشمل هذه التغييرات جميع الضباط الكبار الذين تعاونوا مع بن غفير وساعدوه على بسط سيطرته على الجهاز برمّته؛ * تغيير طريقة التعيينات في الشرطة وتقليص صلاحيات الوزير في هذا المجال؛ * وقف سيرورة "الخلط" ما بين الشرطة و"حرس الحدود" والشروع في مناقشة مسألة تحويل "حرس الحدود" إلى قوة شرطة عادية؛ * تشكيل لجنة تحقيق رسمية للتحقيق في أزمة الجريمة المنظمة في المجتمع العربي، على أن يترأس هذه اللجنة قاض متقاعد من أبناء المجتمع العربي وأن تقدم توصياتها في المجالات التالية: تحسين نجاعة وفاعلية العمل الشُّرَطيّ في وسط المجتمع العربي؛ تعزيز شرعية الشرطة بين السكان العرب وسبل معالجة أسباب وجذور آفة الجريمة على المدى الطويل.