خلال شهر أيار المنصرم تفاقمت أزمة مالية لدى البنوك العاملة في الأراضي الفلسطينية بسبب سياسات وزير المالية الإسرائيلي بتسلئيل سموتريتش. ثمة جانبان متلازمان لهذه الأزمة المالية: من جهة، ساهمت مصادرة إسرائيل أموالَ المقاصة، ومنع العمال من الدخول إلى سوق العمل الإسرائيلي، في نقص السيولة التي تستطيع البنوك الفلسطينية التصرف بها وإعادة تدويرها في السوق الفلسطينية. من جهة ثانية، وبشكل قد يبدو متناقضا، لدى البنوك الفلسطينية "فائض شيكل" يصل إلى حوالى 20 مليار شيكل سنوياً لكنها لا تستطيع أن تتصرف بهذا الفائض، وبحسب اتفاقية باريس الاقتصادية، فإن سلطة النقد الفلسطينية تحتاج إلى "إعادته" إلى البنك المركزي الإسرائيلي.
هاتان المعضلتان، المترابطتان، هما نتاج اتفاقية باريس الاقتصادية بالإضافة إلى سياسات وزير المالية سموتريتش، التي تعتبر السياسات المالية الأكثر عدوانية وصلافة منذ تأسيس السلطة الفلسطينية.
تناقش هذه الورقة قضية "فائض الشيكل" ارتباطا بسياسات الوزير سموتريتش.
ما هو "فائض الشيكل" لدى البنوك الفلسطينية؟
يعتمد الاقتصاد الفلسطيني بشكل كبير على الشيكل الإسرائيلي في المعاملات اليومية، وذلك بسبب عدم وجود عملة فلسطينية سيادية. ويمتد هذا الاعتماد إلى القطاع المصرفي، بحيث أن كل المعاملات الدولية التي تقيمها البنوك الفلسطينية يجب أن تمر عبر المصارف الإسرائيلية، باعتبارها "وسيطاً" بين البنوك الفلسطينية والعالم، مما يضيف طبقات من التبعية والارتهان.
يحدد اتفاق باريس الاقتصادي سقف السيولة النقدية (الكاش) المسموح للبنوك الفلسطينية حيازتها. ويتطلب من البنوك الاحتفاظ بنسبة 3% من ودائعها بكل عملة في كل فرع نقدا في خزائن، بالإضافة إلى حيازات بنسبة 3% من إجمالي الودائع بكل عملة لازمة لتلبية احتياجات السحب النقدي اليومية للعملاء. وتعرف سلطة النقد الفلسطينية "فائض الشيكل" على أنه الكاش المتوفر لدى البنوك الفلسطينية والذي يزيد عن هذا الحد (أي عن 6%)، وبالتالي يجب إعادته إلى البنك المركزي الإسرائيلي. حسب تقديرات سلطة النقد الفلسطينية في العام 2024، فإن "فائض الشيكل" مؤخراً يبلغ حوالى 20 مليار شيكل سنوياً، وهي مبالغ تتكدس أحياناً في خزائن البنوك الفلسطينية من دون أن تتمكن هذه الأخيرة من استخدامها، الأمر الذي يؤدي إلى تضخم قيمة العملة، وتجبر البنوك على تكبد خسائر بسبب عمليات التخزين من دون استعمال، والتأمين والحماية.
من أين يأتي "فائض الشيكل"؟
المعادلة التي يعمل وفقها "الكاش" في مناطق السلطة الفلسطينية بسيطة. تدخل على أراضي السلطة الفلسطينية مبالغ نقدية أكبر بكثير مما يخرج منها. يدخل إلى مناطق السلطة (أولاً) أجور العمال الفلسطينيين العاملين في إسرائيل (تقدر بحوالى 15 مليار شيكل سنوياً)،[i] بالإضافة إلى (ثانياً) ثمن الصادرات الفلسطينية التي يدفعها السوق الإسرائيلي المستورد لها (تقدر بحوالى 3.2 مليار شيكل سنوي). في المقابل، يخرج من مناطق السلطة الفلسطينية (ثالثاً) ما يقابل ثمن الواردات الفلسطينية من سلع وخدمات والتي تشتريها من إسرائيل وتقدر بحوالى 11.7 مليار شيكل.[ii]
وفق هذه الحسبة، من المفترض أن يتكدس في السوق الفلسطينية ما يقدر بحوالى 6 إلى 7 مليارات شيكل (أولاً زائد ثانياً ناقص ثالثاً). حسب المعمول به، وبناء على بروتوكول باريس الاقتصادي، تعيد البنوك الفلسطينية هذه المبالغ إلى البنوك الإسرائيلية (لتصل أخيراً إلى بنك إسرائيل المركزي- أنظر/ي أدناه). لكن، حسب سلطة النقد الفلسطينية، فإن فائض الشيكل هو أكثر بكثير، ويصل إلى حوالى 20 مليار شكيل سنوياً. يحيل البعض هذه الزيادة إلى الصرف العالي الذي ينفقه فلسطينيو الداخل في شراء عقارات أو تبضع، أو أنه نتيجة إلى سوق التهريب الكبيرة وغير المسيطر عليها، بالإضافة إلى عمليات تبييض أموال وحركات مالية في السوق السوداء.
لماذا لا يجب أن يتكدس "فائض شيكل" لدى البنوك العاملة في مناطق السلطة الفلسطينية؟
طالما أن السلطة الفلسطينية لا تصك عملة خاصة بها، فإنها مجبورة على العمل وفق سياسات النقد الإسرائيلية. تحويل "فائض الشواكل" إلى البنوك الإسرائيلية ضروري لإدارة السيولة في مناطق السلطة الفلسطينية، حيث يمكن أن يؤدي الفائض إلى اختلال في السيولة النقدية، مما يسبب تضخماً ومشاكل في توفير السيولة اللازمة لعمليات الإقراض والخدمات المصرفية الأخرى. يساعد تحويل "فائض الشواكل" إلى البنوك الإسرائيلية في تقليل كمية النقد المتاحة في السوق الفلسطينية، مما يحد من أخطار التضخم المحلي. كما تحتاج البنوك الفلسطينية إلى تحويل الشواكل إلى عملات أخرى لتنفيذ تعاملاتها المالية الدولية، وهذا لا يتم إلا من خلال، وعبر، البنوك الإسرائيلية التي تعمل كوسيط مالي بين البنوك الفلسطينية والعالم. قد يؤدي استمرار تراكم "فائض الشواكل" إلى انخفاض الثقة في النظام البنكي الفلسطيني، مما يزيد من احتمالات "الهروب البنكي" حيث يسحب العملاء أموالهم بشكل جماعي. بالإضافة إلى ذلك، عدم تحويل الفائض يعني أن البنوك قد تواجه صعوبة في توفير القروض والخدمات المصرفية الأخرى، مما يؤثر سلباً على الاقتصاد المحلي. وتجدر الإشارة إلى أن هناك قيوداً رقابية على البنوك الفلسطينية بحيث أن هناك محدودية في السبل المتاحة أمام سلطة النقد الفلسطينية للاستفادة من فائض الشيكل، أو إعادة استثماره وضخه في السوق الفلسطينية.
لماذا لا تستطيع سلطة النقد الفلسطينية إعادة "ما يحلو لها" من "فائض الشيكل" إلى إسرائيل؟
هناك سببان مترابطان: الأول، هناك قيود صارمة مفروضة من قبل البنك المركزي الإسرائيلي والذي لا يسمح للسلطة الفلسطينية بتحويل أي كمية تريدها من "فائض الشيكل". من العام 2013 إلى العام 2021، تضاعف مبلغ الكاش الذي يسمح بنك إسرائيل المركزي للسلطة بإعادته من 9.6 مليار شيكل إلى 21.1 مليار شيكل سنويا. على الرغم من هذه الزيادات، احتفظت البنوك الفلسطينية بمبلغ 5 مليارات شيكل من النقد الزائد بحلول منتصف العام 2022، ولا تستطيع أن تحولها إلى إسرائيل بسبب سياسات الحكومات الإسرائيلية، وبسبب الاعتبارات الخاصة بالبنك المركزي الإسرائيلي. كما لا تستطيع البنوك الفلسطينية التصرف بهذا المبالغ وإعادة ضخها في السوق الفلسطينية بسبب سياسات سلطة النقد وضوابط بروتوكول باريس الاقتصادي، مما يؤدي إلى تكاليف كبيرة للبنوك الفلسطينية، بما في ذلك تكاليف الفرصة البديلة (opportunity costs)، ونفقات الاقتراض، وزيادة تكاليف الأمن والتأمين، مما يؤدي في النهاية إلى انخفاض أرباح البنوك بقيمة تقدر بحوالى 20% بحسب صندوق النقد الدولي.
كيف تتم عملية تحويل الشيكل إلى إسرائيل؟
ينشر مكتب المنسق تعليمات حول إجراءات نقل الكاش بين المدن الفلسطينية، وبين مناطق السلطة وإسرائيل، وبين مناطق الضفة الغربية وقطاع غزة، وبين المنظمات الدولية (مثلا، الأونروا) وبين مناطق السلطة الفلسطينية. تتضمن عملية تحويل "فائض الشيكل" من البنوك الفلسطينية إلى بنك إسرائيل عدة خطوات وتشمل عدة أطراف: قبل أن يتم تحويل "فائض الشيكل" إلى بنك إسرائيل، يجب معالجة الـ "كاش" في مراكز نقد خاصة مرخصة في إسرائيل، والتي تضمن التعامل وفق إجراءات المنسق وتقوم بالعد. تتعاقد البنوك الفلسطينية مع هذه المراكز وتدفع رسوما إدارية على "هذه الخدمة". تتضمن إجراءات نقل الأموال بين البنوك الفلسطينية والإسرائيلية تنسيقاً أمنياً وإدارياً دقيقاً يحظى بسرية عالية. تتطلب عملية نقل الكاش إلى إسرائيل موافقة كل من (1) فرع الاقتصاد في وحدة المنسق، (2) فرع العلاقات الدولية في وحدة المنسق، (3) قسم العمليات في وحدة المنسق، (4) فرع الاقتصاد لدى سلطة النقد الفلسطينية، وتكون العملية برمتها تحت إشراف (5) مساعد المنسق، وتتم من خلال (6) شركات نقل خاصة للأموال (تعمل حالياً شركتان خاصتان لنقل الأموال من البنوك الفلسطينية إلى إسرائيل: (برينكس وناتيكس)، بالإضافة إلى (7) مكاتب التنسيق والارتباط (DCOs). وتتولى شركات النقل الخاصة تنسيق نقل الأموال من البنك الفلسطيني مع ممثلي البنك "في الطرف الآخر"، وهي التي تقوم بالتنسيق الأمني. بالنسبة لنقل الأموال إلى أو من قطاع غزة، تتطلب كل عمليات نقل موافقة من وزير الدفاع الإسرائيلي، حيث يتم تقديم الطلبات عبر سلطة النقد الفلسطينية أو المنظمات الدولية، وتحويل الطلبات للموافقة عليها من الجهات الأمنية وبنك إسرائيل.[iii]
لكل على الرغم من هذه التفاصيل "التقنية"، ثمة قضايا سياسية مهمة خلف نقل الأموال بين البنوك الفلسطينية والإسرائيلية. تدعي إسرائيل بأن البنوك الفلسطينية لا تلتزم بالمعايير الدولية لمكافحة غسل الأموال وتمويل الإرهاب.[iv] نتيجة لذلك، تتجنب البنوك الدولية والإسرائيلية تحويل الأموال إلى البنوك الفلسطينية. ومنذ العام 1994، التزمت إسرائيل بلعب دور "الوسيط" بين البنوك الفلسطينية والعالم، وقام بنك "هبوعليم" وبنك "ديسكونت" الإسرائيليان بهذا الدور، أي تحويل الأموال من وإلى البنوك الفلسطينية، مع تقديم دولة إسرائيل ضمانات اقتصادية وقانونية لهذين البنكين الإسرائيليين لحمايتهما في حال ثبت تورط البنوك الفلسطينية، والتي يتعامل معها هذان البنكان الإسرائيليان، في غسل الأموال أو تمويل الإرهاب.
هذا الترتيب غير مريح للبنوك الإسرائيلية التي تتراسل مع البنوك الفلسطينية. في العام 2017، استجابت إسرائيل لمخاوف البنوك الإسرائيلية على النحو التالي: (أولاً) منحتهم تعويضاً قانونياً في حالة اكتشاف تحويلات غير قانونية، (ثانياً)، قدمت تعويضاً مالياً في حالة تقديم دعاوى قضائية. هذه التعويضات تقدم من الحكومة الإسرائيلية بموجب قانون يسري مدةَ عام، ويحتاج إلى تمديد بشكل مستمر من قبل وزير المالية الإسرائيلي. في نهاية آذار، انتهت صلاحية هذا القانون، بحيث أن البنوك الإسرائيلية التي تتعامل مع البنوك الفلسطينية لم تعد "محمية" من قبل الحكومة الإسرائيلية. الجهة الوحيدة التي يمكنها تمديد التعويض هي الكابينيت الإسرائيلي، من خلال توصية من وزير المالية. موقف سموتريتش يتعارض مع مواقف أجهزة الأمن والخارجية الإسرائيلية التي ترى أن التوقف الفوري عن تحويل الأموال للبنوك الفلسطينية قد يضر بالاقتصاد الفلسطيني بشكل كبير، ويزيد من حجم الاقتصاد الأسود، ويؤثر سلباً على العلاقات الخارجية لإسرائيل، ويزيد من تدهور الوضع الأمني في الضفة الغربية. وفي النهاية، وافق سموتريتش على تمديد القانون مدة ثلاثة أشهر فقط، تنتهي في آخر تموز 2024.
ما هي القيود التي يفرضها سموتريتش؟
نفذ سموتريتش، وزير المالية الإسرائيلي، سياسات أثرت بشدة على النظام النقدي والاقتصاد الفلسطيني. وقد تسببت هذه السياسات، المدفوعة باعتبارات سياسية وأمنية وأيديولوجية، في عدم استقرار اقتصادي كبير في مناطق السلطة الفلسطينية.
تتمثل إحدى السياسات الرئيسة في احتجاز عائدات الضرائب التي تحصلها إسرائيل نيابة عن السلطة الفلسطينية. وفقا لاتفاق باريس، تقوم إسرائيل بتحصيل الضرائب والرسوم الجمركية على السلع والخدمات المستوردة إلى الأراضي الفلسطينية ثم تحويل هذه الأموال إلى السلطة الفلسطينية. وكثيرا ما حجب سموتريتش هذه الأموال للضغط على السلطة الفلسطينية بشأن القضايا السياسية والأمنية. وقد خلقت هذه الممارسة عجزاً مالياً كبيراً للسلطة الفلسطينية، مما جعل من الصعب دفع رواتب القطاع العام، وتوفير الخدمات، والاستثمار في البنية التحتية. على سبيل المثال، في العام 2023، احتجزت إسرائيل حوالى 3 مليارات شيكل (830 مليون دولار) من أموال السلطة الفلسطينية، مما يؤدي إلى إجهاد ميزانية السلطة الفلسطينية بشكل كبير.
أدى دمج سموتريتش لهذه الأموال المجمدة في ميزانية إسرائيل خلال العام 2023 إلى تصعيد القضية. وتعتمد السلطة الفلسطينية اعتماداً كبيراً على هذه الأموال، ويؤدي حجبها (أو حالياً مصادرتها) إلى تفاقم عدم الاستقرار المالي الفلسطيني. وقد أدى هذا الحجز إلى أزمة سيولة في القطاع المصرفي الفلسطيني. والمصارف الفلسطينية مقيدة بالفعل، وقد أدى انخفاض الودائع والمعاملات الحكومية إلى زيادة أخطار الإفلاس. على سبيل المثال، ما يقرب من 40% من القروض التي تقدمها البنوك الفلسطينية هي للحكومة الفلسطينية. ومع عجز السلطة الفلسطينية عن سداد ديونها، تواجه البنوك أخطارا متزايدة من التخلف عن السداد. وتعيق أزمة السيولة هذه قدرة القطاع الخاص على الحصول على الائتمان، وتخنق النمو الاقتصادي وتزيد من البطالة. وقد حذر صندوق النقد الدولي من أن استمرار الضغط المالي قد يؤدي إلى انهيار النظام المالي للسلطة الفلسطينية.
كما أدت سياسات سموتريتش إلى تعطيل سوق العمل الفلسطينية. فرضت إسرائيل قيودا على حركة العمال الفلسطينيين إلى إسرائيل، مما أثر على حوالى 150,000 عامل كانوا يدخلون إلى إسرائيل يوميا. ويوفر هؤلاء العمال التحويلات المالية الأساسية لأسرهم، ويدعمون الاقتصادات المحلية الفلسطينية من خلال الاستهلاك والاستثمار. وأدى انخفاض تدفقات التحويلات إلى زيادة كساد النشاط الاقتصادي في الضفة الغربية وقطاع غزة.
باختصار، كان لسياسات سموتريتش آثار سلبية عميقة على النظام النقدي والاقتصاد الفلسطيني. أدى حجب الأموال الحيوية، وتقييد حركة العمالة، وتشديد الحصار الاقتصادي على غزة (قبل وبعد تدميرها) إلى تفاقم المصاعب الاقتصادية، وزيادة عدم الاستقرار المالي، وتقويض آفاق الاقتصاد الفلسطيني.
[i] أنظر/ي: https://www.inss.org.il/publication/palestinian-workers/
[ii] أنظر/ي: https://oec.world/en/profile/bilateral-country/pse/partner/isr
[iii] انظر/ي: https://short-link.me/FBcO
[iv] أنظر/ي: https://www.calcalist.co.il/local_news/article/ry4y1tgjc
[v] أنظر/ي: https://short-link.me/FBc-