المشهد الإسرائيلي

ملحق أسبوعي يتضمن مقالات صحفية وتحليلات نقدية ومتابعات عن كثب لمستجدات المشهد الإسرائيلي.
قطاع البناء في إسرائيل: اعتماد كبير على العمال الفلسطينيين. (صحف)

تتحضر إسرائيل لإعادة إدخال العمال الفلسطينيين بعد حوالى 7 أشهر من اندلاع الحرب الإسرائيلية والإغلاق المتواصل. وثمة اتجاهان متناقضان داخل إسرائيل في ما يخص العمالة الفلسطينية: الأول، يدعو إلى إعادة إدخال العمال لأسباب أمنية (مثل الجيش الإسرائيلي والإدارة المدنية) أو لأسباب اقتصادية (مثل القطاع الخاص ووزارة الداخلية الإسرائيلية). هذا الاتجاه ينظر إلى العمالة الفلسطينية من منظور نفعي، سواء نفعي- اقتصادي (إسرائيل تحتاج إلى أيدٍ عاملة رخيصة)، أو نفعي- أمني (إسرائيل تحتاج إلى التبعية الاقتصادية للسيطرة على الفلسطينيين). والاتجاه الثاني يدعو إلى إنهاء قضية العمالة الفلسطينية، التي باتت منذ العام 1967 مسألة ملازمة للمجتمع الإسرائيلي، وقد تشكل إحدى الخواصر الضعيفة التي منها قد ينبع تهديد أمني في المستقبل بسبب الاحتكاك الذي تخلقه بين الفلسطينيين والإسرائيليين. هذا الاتجاه ينظر إلى العمالة الفلسطينية من منظور يميني، ومحافظ، وإقصائي، بحيث أنه بغض النظر عن "المنفعة" من تشغيل العمال الفلسطينيين، فإن السؤال الذي يطرقه هذا الاتجاه يدور حول "مبدأ" إدخال العمال الفلسطينيين من أصله.

تركز هذه المقالة على الإشكاليات المتعلقة بالعمالة الفلسطينية من وجهة نظر إسرائيل، والتي انتقل فيها النقاش من سؤال "ما هي سياسة إسرائيل تجاه العمال الفلسطينيين"؟ إلى سؤال أكثر إستراتيجي وهو "هل إسرائيل قادرة/ غير قادرة على التخلص من العمال الفلسطينيين"؟ 

عودة العمال بعد 7 أشهر من الحرب: "سياسة اللابديل"

عشية 7 تشرين الأول/ أكتوبر، كان يعمل في الاقتصاد الإسرائيلي حوالى 200 ألف عامل فلسطيني، يشكلون حوالى 22% من القوى العاملة في الضفة الغربية وحدها، ويساهمون في حوالى ربع الناتج القومي الإجمالي في الضفة الغربية.[i] هذه نسبة عالية جداً تجعل من العمالة الفلسطينية مركباً أساسياً في فهم الصراع الإسرائيلي-الفلسطيني، وسياسات السيطرة الإسرائيلية تجاه الفلسطينيين، وتقع في جوهر الحياة الاجتماعية والسياسية للفلسطينيين وليست مجرد قضية تقنية تتعلق باقتصاد ودخل كل عامل فلسطيني بشكل منفرد.

على المستوى الرسمي، أوقفت إسرائيل العمالة الفلسطينية بشكل شبه كامل منذ 7 أكتوبر، وخلال السبعة أشهر الأولى من الحرب (تشرين الأول 2023- أيار 2024)، شكلت قضية العمالة معضلة أمنية، وسياسية، واقتصادية لكل من الفلسطينيين والإسرائيليين.

في بداية نيسان 2024، عقدت اللجنة الخاصة بالعمال الأجانب في الكنيست جلسة خاصة بمشاركة وزير الداخلية موشيه أربيل.[ii] وقال أربيل: العديد من العمال الأجانب (مثلا التايلنديين) تضرروا في المذبحة في 7 أكتوبر، 58 منهم قتلوا، و32 اختطفوا، مما أثر على الدافع للبقاء في البلاد. تم بذل جهود كبيرة للاحتفاظ بالعمال، وجلب عمال جدد ونحن على اتصال بدول لإبرام اتفاقيات ثنائية جديدة. تم اتخاذ عدة قرارات حكومية بشأن جلب العمال الأجانب [لكن لا تقدم حتى الآن].

وفي ما يخص العمال الفلسطينيين، تحدث الوزير أربيل فقال: "طلبت من رئيس الوزراء فحص قضية إعادة إدخال العمال الفلسطينيين من الضفة الغربية [تحديداً إلى] قطاع البناء. هناك عمال يدخلون [منذ 7 أكتوبر بشكل سري و] دون تصاريح والسلطات الإنفاذية غير قادرة على ضبط الأمر وهذا قد يؤدي إلى كوارث مثل الهجوم الأخير في غان يفنه. لا يمكننا السماح بانهيار قطاع كامل في دولة إسرائيل [في إشارة إلى قطاع البناء والإنشاءات]. نحن نعمل على جلب العمال من دول أجنبية لكن لا تزال هناك حاجة إلى مزيد من الأيدي العاملة ويجب النظر في ذلك لأنه إذا لم نفعل سندفع فائدة كبيرة فيما بعد عن نقص الوحدات السكنية. يجب أن يتم ذلك بطريقة منظمة، مع تحديد السن وفحص جميع العمال دون المساس بأمن مواطني إسرائيل".

وعلى ما يبدو، إسرائيل تجد نفسها أمام سيناريو إعادة إدخال العمال الفلسطينيين إلى سوق العمل الإسرائيلية تدريجيا، خلال الأسابيع القادمة، وصولاً إلى تشغيل معظم العمال الفلسطينيين بحلول صيف 2024 في حال لم تحدث تطورات دراماتيكية في حرب إسرائيل على قطاع غزة.

تطور مسألة العمالة الفلسطينية في إسرائيل وصولاً إلى 7 أكتوبر

منذ بداية الاحتلال الإسرائيلي للأرض المحتلة العام 1967، بدأت إسرائيل في صياغة سياسة تتعلق بإدخال عمال فلسطينيين من الضفة الغربية وقطاع غزة إلى إسرائيل. في البداية، كانت هذه السياسة مدفوعة بعوامل متعددة بما في ذلك السياسات الاستعمارية، والاحتياجات الاقتصادية، والمخاوف الأمنية، والاعتبارات الديمغرافية. ويمكن تلخيص الأهداف الإستراتيجية لإسرائيل من قضية إدخال العمال الفلسطينيين على الوجه التالي:[iii]

  1. الاستخدام الاقتصادي: سعت إسرائيل لتسخير إمكانات العمل للسكان الفلسطينيين لتلبية مطالبها الاقتصادية، لا سيما في قطاعات مثل البناء والزراعة، التي واجهت نقصا في العمالة. واعتبر دمج العمالة الرخيصة وسيلة لتعزيز النمو الاقتصادي في إسرائيل وزيادة القدرة التنافسية للمنتجات الإسرائيلية في السوق العالمية، والمساهمة في "تخفيف" حدة الغلاء السكني فيها.
  2. السيطرة الأمنية: من خلال دمج العمالة الفلسطينية في اقتصادها، تهدف إسرائيل أيضاً إلى إنشاء آليات للسيطرة والتبعية على جزء أساس من المجتمع الفلسطيني ودخله الوطني، مما يقلل من احتمال المقاومة والانتفاضات في الأراضي المحتلة.
  3. الاعتبارات الاستيطانية التوسعية: كانت الحكومات الإسرائيلية مهتمة بخلق ظروف تدفع الفلسطينيين إلى الابتعاد عن الأرض، والزراعة، والانتشار الفاعل في الضفة الغربية تحديداً، من خلال تحويل العمالة داخل إسرائيل إلى أكثر جدوى بالنسبة للفلسطينيين من العمل في الأرض.[iv]

تعبر هذه الأهداف الثلاثة عن النقاش الاستراتيجي- السياسي في إسرائيل في ما يخص مسألة العمالة. لكن من الناحية الإجرائية والعملية، فإن إدخال العمال الفلسطينيين إلى إسرائيل تطور منذ العام 1967 إلى منظومة تحكّم تديرها الإدارة المدنية والجيش الإسرائيلي، وتقوم على ما يلي:

  1. نظام التصاريح: أنشأت إسرائيل نظاماً معقداً من التصاريح ينظم من يمكنه العمل في إسرائيل، ويتحكم بشكل فعال في الحركة اليومية للعمال الفلسطينيين. سمح هذا النظام لإسرائيل بالاستجابة بشكل ديناميكي لاحتياجاتها الأمنية والاقتصادية، وتضييق أو تخفيف أو انتقاء تدفقات العمالة استجابة للتطورات السياسية والأمنية، الأمر الذي يرفع من قدراتها الإستراتيجية على التحكم بالحياة اليومية للفلسطينيين.[v]
  2. الحوافز والقيود الاقتصادية: في أوقات مختلفة، عرضت إسرائيل حوافز اقتصادية لتشجيع العمال الفلسطينيين على دخول سوق العمل، أو فرضت قيوداً للحد من عدد العمال، بناء على تطوراتها الأمنية- السياسية وقدراتها على السيطرة على الفلسطينيين. في هذا السياق، ومنذ العام 2006، استخدمت إسرائيل سياسة مزدوجة: فتجاه الضفة الغربية، استخدمت إسرائيل سياسة "إغراق الفلسطينيين في التبعية الاقتصادية بشكل يصعب الإفلات منه". أما تجاه قطاع غزة، فانتهجت سياسة "العقاب الجماعي عبر الحرمان من العمالة". في العام 2022، بدأت إسرائيل تغير سياساتها تجاه القطاع مع السماح بدخول (pilot) مكون من 20 ألف غزي إلى إسرائيل، ووضع 7 أكتوبر مصيراً واضحاً لهذه التجربة.[vi]
  3. البنية التحتية والأطر القانونية: طورت إسرائيل البنية التحتية والأطر القانونية التي سهلت حركة العمال الفلسطينيين وسيطرت عليها. وشمل ذلك نقاط التفتيش والحواجز الأمنية والأحكام القانونية التي تحكم التشغيل داخل إسرائيل.

كانت سياسة إدماج العمال هذه مثيرة للجدل، وانتقدها الكثيرون باعتبارها شكلاً من أشكال الاستغلال الاقتصادي وخرقا للمعايير القانونية الدولية المتعلقة بالحقوق المهنية ومعاملة السكان الخاضعين للاحتلال. وهو يوضح تفاعلاً معقداً بين المصالح الاقتصادية والسيطرة السياسية، وهو جزء لا يتجزأ من الصراع الإسرائيلي الفلسطيني الأوسع.

بقيت الأهداف الثلاثة (الاستخدام الاقتصادي، السيطرة الأمنية والاعتبارات التوسعية الاستيطانية) غير خاضعة إلى نقاش نظري أو مساءلة إسرائيلية داخلية جدية، على الأقل حتى 7 أكتوبر. مع بدء الحرب الإسرائيلية على الفلسطينيين في أعقاب هجوم 7 أكتوبر، حصل تطور مهم يستدعي نقاشات استراتيجية داخل إسرائيل تتعلق بإعادة تقييم الهدف الأساس من إدخال العمال الفلسطينيين.

السؤال الأول الذي برز أمام إسرائيل هو: هل استخدام إسرائيل الاقتصادي للعمالة الفلسطينية الرخيصة هو "منفعة" تكتيكية قادرة إسرائيل على ضبطها أو التخلي عنها وقت الحاجة، أم أنها تحولت إلى "عبء" بحيث أن الاقتصاد الإسرائيلي أصبح يعتمد عضوياً على العمالة الفلسطينية وغير قادر على استبدالها؟

السؤال الثاني يتعلق بالتبعية الاقتصادية كأداة سيطرة. فهل ميكانيزمات السيطرة على الفلسطينيين في الأرض المحتلة تشترط، كمركب أساس لا غنى عنه، استيعاب العمالة الفلسطينية داخل إسرائيل. هذا يعني، هل سياسات "إقصاء" الفلسطينيين من خلال السيطرة عليهم تتطلب سياسات "احتوائهم" في الحيز العام الإسرائيلي، وأسواق العمل الإسرائيلية، وبالتالي الاحتكاك اليومي المباشر بين الإسرائيليين والفلسطينيين. من الناحية الأمنية والإستراتيجية، يمكن القول إن نموذج الضفة الغربية ("إغراق الفلسطينيين في التبعية الاقتصادية بشكل يصعب الإفلات منه") نجح بينما نموذج قطاع غزة الذي يقوم على الإقصاء ("العقاب الجماعي عبر الحرمان من العمالة") مُني بالفشل.

وفي الختام، فإن النقاش المعقد حول إعادة إدخال العمالة الفلسطينية وتنظيمها في الاقتصاد الإسرائيلي يتجاوز، في قراءتنا للأمر، مجرد الضرورة الاقتصادية أو التدابير الأمنية. إنه يستدعي من إسرائيل إعادة نظر عميقة في علاقاتها الإستراتيجية مع الفلسطينيين: بينما تفكر إسرائيل في سيناريو "اليوم التالي" للحرب في قطاع عزة، يصبح من الضروري بالنسبة لها إعادة تقييم وربما إعادة هيكلة بنيتها الاستعمارية مع الفلسطينيين على المستوى الإستراتيجي، وقضية العمالة تشكل عنصراً بارزاً في هذا التفكير، وهو نقاش من المتوقع أن يتطوّر في السنوات القريبة القادمة.

 

[i] IMF. 2023. “West Bank and Gaza.” International Monetary Fund, Middle East and Central Asia Dept. Volume 2023 (327)

[ii] أنظر/ي:  https://main.knesset.gov.il/news/pressreleases/pages/press01.04.24h.aspx

[iii] عومري شابير رافيف، "تبلور سياسات تشغيل الفلسطينيين من الأراضي المحتلة في إسرائيل: 1979-1969"، في مجلة عيونيم، المجلد 35 للعام 2021.

[iv] Farsakh, Leila. 2005. Palestinian Labour Migration to Israel: Labour, Land and Occupation. New York: Routledge.

[v] Habbas W (2020) Palestinian Workers in the Israeli Market: The Labour Permit Brokerage System. 9, Roundtable. Ramallah: Palestine Economic Policy Research Institute (MAS). Available at: http://www.mas.ps/files/server/2020/RoundTable9English-ed.pdf.

[vi] Habbas W and Quzmar I (2022) The Future of Palestinian Labour inside the Israeli Market In light of Economic and Political Facts. 4, Roundtable. Ramallah: Palestine Economic Policy Research Institute (MAS). Available at: https://mas.ps/cached_uploads/download/2022/07/31/rt4-eng-2022-1659267362.pdf.

المصطلحات المستخدمة:

الكنيست, الإدارة المدنية

المشهد الإسرائيلي

أحدث المقالات