أصبح من المعروف أن المحاولات المحمومة، سياسياً ودبلوماسياً واستخباراتياً وكذلك قضائياً، التي بذلتها السلطات الإسرائيلية المختلفة على امتداد سنوات عديدة للإبقاء على علاقات دولة إسرائيل و"تعاونها السرّي" مع العديد من أكثر الأنظمة دكتاتوريةً واستبداداً ووحشية في العالم، عسكرياً وأمنياً بالأساس، طي السرية والكتمان، قد مُنيت بفشل واضح منذ بضع سنوات وأصبحت معروفة للقاصي والداني، بتفاصيل مرعبة حقاً، حتى لو كانت جزئية فقط. وحين يُطرح هذا الموضوع، في أي سياق كان، لا بد إلا أن يحضر اسم المحامي إيتاي ماك، الذي يُعتبر ـ وبحقّ ـ رائد المعركة، التي يخوضها وحيداً في أغلب الأحيان، من أجل إزاحة ستار السرية والغموض عن هذا المجال وما فيه من تفاصيل يمكن أن تشكل، بالتأكيد، أكثر من لائحة اتهام جنائية واحدة، بموجب القوانين الدولية، ضد الحكومات الإسرائيلية المتعاقبة وشخوص قياداتها وضد دولة إسرائيل نفسها. ولا يزال ماك ينشط في هذا المجال وحيداً منذ سنوات، بعيداً عن أضواء "المجد" التي تُسلَّط في العادة على المحاربين من أجل حقوق الإنسان ودفاعاً عنها.
ومن المهم التذكير بأن ماك كان قد تخصص، في بدايات ممارسته مهنة المحاماة في العام 2012، بحقوق الإنسان الفلسطيني في المناطق المحتلة؛ وبقي يعمل في هذا المجال كمحامٍ مستقل سنوات عديدة أخرى متصدياً، بالوسائل القانونية المتاحة، لانتهاكات الإنسان الفلسطيني في المناطق المحتلة. وإلى جانب ذلك، بدأ ماك يصارع السلطات الإسرائيلية الرسمية على جبهة أخرى، كانت في بداية الأمر جبهة خفيّة عن أنظار وأسماع الجمهور الواسع في إسرائيل، جبهة لا يتوفر عنها من المعلومات سوى القليل الشحيح الذي لا يتناسب مع ولا يعكس، إطلاقاً، مدى تأثيرها السلبي العميق جداً على حقوق الإنسان في العالم، وكذلك في إسرائيل نفسها ـ جبهة تجارة الأسلحة الإسرائيلية وصادرات الأسلحة الإسرائيلية. وبوصفها جبهة خفية محاطة بأسوار شاهقة من السرية، فهي لا تحظى بالتعاطف الجماهيري الذي تستحقه، ولا حتى بالحد الأدنى من الاعتراف الجماهيري حتى الآن، مما يسمح للحكومات الإسرائيلية بمواصلة تنفيذ سياستها المعتمدة منذ سنوات عديدة في تصدير الأسلحة والمعدات الحربية والأمنية المختلفة إلى العديد من الدول التي تحكمها أنظمة دكتاتورية تنتهك حقوق الإنسان فيها بصورة منهجية ومتورطة في ارتكاب جرائم حرب وجرائم ضد الإنسانية. ويتسنى للحكومات الإسرائيلية المتعاقبة الاستمرار في هذه السياسة على الرغم من الالتماسات العديدة التي قدمها إيتاي ماك إلى "محكمة العدل العليا" الإسرائيلية مطالباً إياها بإصدار أوامرها القضائية إلى السلطات المعنية بالكشف عن نطاق هذه الصفقات "التجارية" و/ أو وقف أية عمليات تصدير لأسلحة إسرائيلية على بعض تلك الأنظمة. وكانت أبرز تلك الالتماسات: التماس المطالبة بوقف تصدير منظومات الرصد والتعقب الإسرائيلية إلى جنوب السودان، والتماس للمطالبة بوقف "التصدير الأمني" الإسرائيلي إلى بورما، والتماس المطالبة بالتحقيق مع "الإسرائيليين تجار الأسلحة والمسؤولين عن التصدير الأمني في وزارتي الخارجية والدفاع، وكذلك في وزارات حكومية أخرى وفي الجيش الإسرائيلي، على خلفية ضلوعهم في ارتكاب جرائم ضد الإنسانية إبان حكم طغمة الجنرال بينوشيه في تشيلي". لكن "محكمة العدل" لم تقبل أياً من هذه الالتماسات على الإطلاق، بل ردّتها جميعاً لتمنح بذلك الشرعية القضائية للسياسات الحكومية الإجرامية في هذا المجال.
وينشط ماك أيضاً على الصعيد التشريعي بالتعاون مع عدد من أعضاء الكنيست في محاولة لإجراء تعديلات في "قانون الرقابة على التصدير الأمني" من العام 2007، وذلك بغية تشديد حلقات الرقابة على الصادرات الأمنية وممارسة الرقابة الإدارية على عمليات الوساطة التي تجري مع الجهات الدولية لهذا الغرض. ويؤكد ماك أن إسرائيل تساهم، بطرق مباشرة وغير مباشرة، في انتهاكات خطيرة لحقوق الإنسان في العالم وأن الصمت الذي يحيط بهذا الموضوع وإخفاءه عن أسماع الجمهور وأنظاره يخدمان جميع الضالعين فيه، من المسؤولين الكبار في الصناعات الأمنية الإسرائيلية وفي الحكومة الإسرائيلية ووزاراتها وأذرعها المختلفة. وفي العام 2015، اختير ماك لإضاءة الشعلة في "حفل إضاءة المشاعل البديلة" الذي نظمته حركة "يوجد حدّ". وفي كلمته التي ألقاها هناك، قال: "... أضيء هذه الشعلة، أيضاً، لمواطِنات ومواطني دولة إسرائيل الذين غطّوا في سبات طوال عشرات السنين وغضّوا أبصارهم عن الجرائم التي تُرتكَب باسمهم في أنحاء مختلفة من العالم، بل قد يكونون من الذين استفادوا، بصورة مباشرة أو غير مباشرة، من تجارة السلاح. إنني أدعوهم إلى فتح أعينهم"!
"دول غالبية سكانها من المسلمين"!
وفي السياق، يأتي ما أماط لثام السريّة عنه السبق الصحافي الذي نشر قبل أيام ليكشف عن فضيحة سياسية أخلاقية جديدة ومجلجلة للمؤسسة الإسرائيلية الحاكمة، بأذرعها وسلطاتها المختلفة، ترتبط بالأولى التي تحدثنا عنها أعلاه وتكمل دائرتها من حيث أنها تكشف عن جانب أو شكل آخر من جوانب وأشكال "المساعدات الأمنية" التي تقدمها إسرائيل بسخاء للعديد من الأنظمة الظلامية في أنحاء مختلفة من المعمورة. لكن الكشف الجديد يطاول هذه المرة وبصورة مباشرة "جيش الشعب" الذي تعتبره المؤسسة الإسرائيلية، وكذلك المجتمع الإسرائيلي وأحزابه السياسية كلها، أقدس أقداسها ومفخرتها. فقد كشف التحقيق الذي أجراه الصحافي أوري بلاو ونُشر على موقع مركز "شومريم"، الذي يعرّف نفسه بأنه "مركز للإعلام والديمقراطية" و"جسم إعلامي غير سياسي غايته تعزيز أسس الديمقراطية في إسرائيل من خلال المشاريع الإعلامية والتعاون مع وسائل الإعلام الإسرائيلية الأخرى"، عن أن "جنوداً وضباطاً في الجيش الإسرائيلي، من النظاميين ومن الاحتياط، قد تم إرسالهم إلى خارج البلاد لتدريب وحدات عسكرية في دول أجنبية"!
لكنّ هذا يختلف، جوهرياً، عن المجالين الآخرين المعروفين من هذه "المساعدات"، أي التصدير الأمني والشركات "الأمنية" الخاصة التي يقيمها خريجو الأجهزة الأمنية الإسرائيلية المختلفة وتعمل في تدريب وحراسة وحماية أنظمة حاكمة وحركات عسكرية مختلفة في دول ومناطق مختلفة من العالم. كما تختلف هذه أيضاً عن التدريبات المشتركة التي جرت وتجري بين الجيش الإسرائيلي وجيوش أجنبية مختلفة. ذلك أن الحديث يجري هنا عن "تجنيد" جنود وضباط لا يزالون في عِداد وتعداد الجيش الإسرائيلي، سواء النظامي منه أو الاحتياط، للقيام بمهمات عسكرية ـ أمنية "رسمية"، بأوامر وتنسيق الجيش الإسرائيلي والحكومة الإسرائيلية (وزارة الدفاع ووزارات أخرى) وتحت مظلتها الرسمية، جميعها.
وفي التفاصيل التي تضمنها التحقيق أن هذه التدريبات قد جرت، من بين دول أخرى، في دول "غالبية سكانها من المسلمين" و"بتمويل إسرائيلي، ولو بشكل جزئي" ومن أجل المحافظة على سرية هذه الدول وعدم الكشف عن هويتها وتفاصيلها، تم تعريفها بأسماء رمزية اختيرت من "بنك الأسماء" الخاص بالجيش الإسرائيلي كما تم إلزام كل واحد من الجنود والضباط المشاركين في هذه المهمات التدريبية بالتوقيع على عقود خاصة تتضمن تعهدات بحفظ السرية التامة في كل ما يتعلق بهذه المهمات، تفاصيلها ومواقعها، الوحدات التي يجري تدريبها والدول التي تجري فيها. كما أُلزِم هؤلاء الجنود والضباط بارتداء ملابس مدنية فقط لدى تجوالهم في الحيز العام في الدول المعنية، ثم استبدالها بالزي العسكري الخاص بالجيش الإسرائيلي فور دخولهم إلى القواعد العسكرية التي جرت فيها التدريبات.
وفي إطار هذا "المشروع"، سافر الجنود والضباط الذين يتولون مهمات التدريب والإشراف عليها إلى خارج البلاد عدة مرات خلال السنة الماضية، حسبما أوضح التقرير لكن من دون الكشف عن هوية الدول التي سافر إليها أولئك الجنود والضباط. ومع ذلك، أشار التقرير إلى أن عدداً من جنود الاحتياط في الجيش الإسرائيلي، بقيادة ضابط برتبة "مُقدَّم" (لِيفتنانت كولونيل) متخصص في "محاربة الإرهاب"!، قد سافروا إلى واحدة من تلك الدول خمس مرات على الأقل خلال السنة الماضية. أما هؤلاء الجنود فقد تم اختيارهم طبقاً لمجالات تخصصهم العينية المطلوبة للتدريبات ـ التوجيه، إطلاق النار وما شابه. وأما التمويل لهذه الرحلات، كما لمكوِّنات أخرى من "المشروع التدريبيّ" هذا، فقد جاء من ميزانيات وزارة الدفاع الإسرائيلية ومن ميزانية الجيش الإسرائيلي.
"تعزيز علاقات ذات أهمية قصوى لإسرائيل"!
وقال مصدر أمني مطلع على هذه المهمات التدريبية عن كثب، كما نقل ذلك معدّ التقرير، إن "هذا الأمر لا يحدث كثيراً وهو يجري، بالأساس، بهدف تعزيز وتعميق العلاقات مع دول معينة ثمة للعلاقات معها أهمية قصوى واستثنائية لإسرائيل". وقال مصدر آخر مطلع على الموضوع أيضاً، وفق ما جاء في التقرير، إن "المساعدات الأمنية من هذا النوع ليست شائعة كثيراً، لكنها مقبولة". وأضاف: من المفضل، مبدئياً، أن يتم تنفيذ هذه الأنشطة من خلال أجسام مدنية وبواسطتهم، كذلك أحياناً "يكون من المهم جداً للزبون (أي، للجيش الأجنبي ودولته) أن يتدرب على وجهة نظر الجيش الإسرائيلي بشأن الأمور العينية، وهذا يخدم مصالح دولة إسرائيل أيضاً".
هكذا، على سبيل المثال، كان أحد التدريبات التي أجراها جنود وضباط الجيش الإسرائيلي "في دولة أجنبية معينة"، كما وصفها التقرير، خاصا بعناصر شرطة "حرس الحدود" المحلية، وذلك بحسب ما طلبته تلك الدولة.
ونقل معدّ التقرير عن أحد العناصر ممن "كانوا هناك، في الميدان" قوله إن "المهمة كانت سرية للغاية. لم يكن مسموحاً القول لأي شخص، سواء من عائلتك أو أقاربك أو معارفك، إلى أين ستسافر وماذا ستفعل"! وأضاف أنه كان يبيت، هو وزملاؤه، في فندق في إحدى مدن تلك الدولة.... "في المدينة نفسها لم نكن بالزي العسكري، لكن فور دخولنا إلى القاعدة العسكرية كنا نرتدي الزي العسكري الخاص بالجيش الإسرائيلي". وقال إنه خلال تواجدهم في تلك الدولة "تناقش جنود وضباط الاحتياط في إمكانية نقل المشروع برمّته إلى السوق الخاصة"، ذلك أنه كان بينهم، أيضاً، أشخاص يعملون في تدريب وحدات عسكرية "في نطاق عملهم المدني" وقد عبروا عن "رغبتهم في الانخراط في هذا المشروع، إن تم تحويله إلى السوق الخاصة"!
وأورد تقرير "شومريم" في الختام تعقيب وزارة الدفاع الإسرائيلية الذي لم يفصح عن أي شيء، كما هو متوقع بالتأكيد، بل اكتفى بالقول: "وزارة الدفاع لا تتطرق، بشكل عام، إلى قضايا التصدير الأمني، لاعتبارات سياسية، أمنية واستراتيجية"!