انعكس التراجع في الاستهلاك الفردي والعائلي في السوق الإسرائيلية، في شهر تشرين الثاني الماضي، على وتيرة التضخم المالي، بلجمه أكثر من كل التوقعات، التي ارتكزت أساسا على تراجع أسعار موسمي، لكن الشلل في فروع استهلاك عديدة قلّص التضخم الذي كان يضرب الاقتصاد الإسرائيلي حتى نهاية تشرين الأول. في المقابل، يتسع الجدل حول ميزانية العام المقبل 2024، التي أقرها الكنيست في شهر أيار العام الجاري، إلا أنها تحتاج لتعديلات عميقة، بفعل الحرب وكلفتها في الاتجاهات المختلفة، فعلى الرغم من الصخب القائم في الصحافة الاقتصادية وأوساط في الرأي العام، فإن الائتلاف الحاكم أثبت أنه موحّد، ولا مؤشرات إلى تصدعات فيه، لأن الخلاف القائم يدور حول الصرف على جمهور أحزاب الائتلاف.
التضخم المالي وقيمة الشيكل
أعلن مكتب الإحصاء المركزي الحكومي، يوم الجمعة الأخير، 15 الجاري، أن التضخم المالي في شهر تشرين الثاني تراجع بنسبة 0.3%، في حين أن كل توقعات الخبراء الإسرائيليين، تراوحت بين 0% وارتفاعه بنسبة طفيفة 0.1%. لهذا اعتبرت النتيجة الحاصلة مفاجأة، خاصة وأن هذا التراجع جعل التضخم في الأشهر الـ 11 الأخيرة من العام الجاري بنسبة 3.1%، أي عند حافة مجال التضخم الذي تطلبه السياسة الاقتصادية الإسرائيلية منذ سنوات طوال، بين 1% إلى 3%. كما أن التضخم في الأشهر الـ 12 الأخيرة، وهو مقياس مهم، هبط إلى نسبة 3.3%، بعد أن كان في نهاية تشرين الأول الماضي 3.7%.
وجاء هذا التراجع في التضخم، بعد أن كان قد سجل في شهر تشرين الأول الذي سبق، ارتفاعا بنسبة 0.5% (نصف بالمئة)، الذي يُعد ارتفاعا حادا، إلا أن ذلك الارتفاع جاء بسبب الارتفاع الكبير في أسعار مواد استهلاكية وحياتية أساسية، على ضوء ازياد الطلب في الأسبوعين الأولين للعدوان على غزة، ما قاد إلى رفع أسعار كبير.
وعلى الرغم من أن محللين إسرائيليين يرون أن هذا التراجع في التضخم ناجم عن تراجع أسعار موسمي، فإنه في مراجعة لوتيرة التضخم في شهر تشرين الثاني في السنوات الأخيرة، يظهر أن التراجع في الشهر الماضي كان شاذا بحجمه، وهذا يعود لتوقف أو تراجع حاد في فروع استهلاك عديدة، وبالذات في فروع النقاهة، التي تندرج فيها السياحة الداخلية، وارتياد المطاعم، والسفر إلى الخارج، الذي أشار له تقرير مكتب الإحصاء المركزي بشكل خاص، بأنه تراجع بشكل حاد، وهو مؤشر.
وبرزت حال قطاع المطاعم والترفيه والنقاهة، في المعطيات التي نشرتها صحيفة "كالكاليست"، إذ تبين أن 15% من العاطلين عن العمل هم من قطاع المطاعم والضيافة، كما أن عودة بعض العاملين في هذا القطاع هي الأضعف، إذ إن 5% فقط من أصل العاطلين عن العمل الذين عادوا إلى أماكن عملهم في الشهر الأخير هم من قطاع المطاعم.
كما أن 4% من إجمالي العاطلين عن العمل الجدد في الشهرين الأخيرين، هم من قطاع النقاهة والترفيه.
وعلى الرغم من أن شراء البيوت الجديدة لا يندرج في سلة المشتريات العائلية، التي تشكل الحساب الأساسي للتضخم المالي، فإن التراجع الكبير في بيع البيوت الجديدة في شهر تشرين الثاني، هو أيضا مؤشر كبير إلى شكل صرف الجمهور، إذ إن بيع البيوت الجديدة تراجع حتى نهاية تشرين الثاني الماضي بنسبة 45%، وهذا بعد أن كان البيع قد تراجع في النصف الأول من العام الجاري بنسبة 30%، بفعل تردي الأوضاع الاقتصاديةـ والارتفاع الحاد بنسبة الفائدة على القروض الإسكانية في تلك الأشهر، وهي مستمرة.
وقال تقرير مكتب الإحصاء الأخير بشأن التضخم، إن أسعار البيوت تراجعت في تشرين الثاني الماضي بنسبة 1.3%، وهي نسبة التراجع الشهرية الأكبر منذ العام 2018.
وحسب التقديرات، فإن التضخم المالي في شهر كانون الأول الجاري، قد يتراوح هو أيضا ما بين صفر بالمئة، وتراجع طفيف، وفي حال صدقت هذه التقديرات، فهذا يعني أن إجمالي التضخم المالي في العام 2023 الذي يوشك على الانتهاء، قد يهبط عن السقف الأعلى للتضخم 3%، وهذا عكس التقديرات في الشهرين الماضيين، التي تحدثت عن تضخم مالي لا يقل عن 3.5%.
وتتجه الأنظار إلى الأيام القليلة الأولى من الشهر المقبل، وهي مطلع العام المقبل 2024، حينما سيصدر قرار بنك إسرائيل المركزي، بشأن الفائدة البنكية، التي هي اليوم في أساسها 4.75%، تضاف لها نسبة 1.5% ثابتة. وتميل غالبية التقديرات إلى أن يُبقي البنك المركزي على الفائدة، بدعوى أن التضخم لم يهبط عن سقف 3%، إذ كان البنك قد أعلن في وقت سابق، أن تخفيض الفائدة لن يتم طالما التضخم تجاوز نسبة 3%.
إلا أن بعض التقديرات تشير إلى احتمال أن يُجري البنك تخفيضا طفيفا على الفائدة، بهدف المساهمة في تحسين حركة السوق. خاصة وأن محافظ بنك إسرائيل المركزي، البروفسور أمير يارون، يواجه انتقادات حادة، إلى درجة التهجمات، من جهات في الائتلاف الحاكم، تتهمه بأن سياسة الفائدة البنكية التي يتبعها تنعكس سلبا على الشرائح الفقيرة.
ويرى المحلل الاقتصادي ناتي طوكر، في صحيفة "ذي ماركر" التابعة لصحيفة "هآرتس"، أن التضخم المالي تأثر كثيرا من ارتفاع قيمة الشيكل في شهر تشرين الثاني الماضي، خلافا لكل التوقعات التي سبقت. وقال في مقاله، إنه "بشكل مفاجئ، وخلافا للتوقعات البديهية للأضرار التي لحقت بالعملة المحلية، ارتفعت قيمة الشيكل فعليا مقابل العملات الأخرى. فقد بدأ تشرين الثاني، بتراجع قيمة الشيكل ليصل إلى 4.01 شيكل للدولار، وانتهى بالسعر الرسمي 3.68 شيكل للدولار، أي بزيادة قدرها 8% تقريبا للشيكل مقارنة بالدولار".
فعلى الرغم من تعمّق الحرب واستمرارها، فإن قيمة الشيكل تحسنت وعادت إلى ما كانت عليه قبل شهرين من اندلاع الحرب، ويحافظ الشيكل على قيمته هذه منذ قرابة 5 أسابيع، إلا أنه في نهاية الأسبوع الماضي، عند إغلاق التداول الرسمي الأسبوعي، يوم الجمعة 15 الشهر الجاري، سجل الدولار انخفاضا أكثر، بفعل قيمة الدولار في الأسواق العالمية، وبات عند سعر 3.66 شيكل للدولار، أي كما كان عليه عند مطلع شهر آب الماضي، من هذا العام.
وأعلن بنك إسرائيل أنه لم يكن بحاجة للتدخل أكثر في سوق العملات لحماية سعر الصرف، ففي مطلع تشرين الثاني الماضي، باع البنك 8.2 مليار دولار في السوق الإسرائيلية، من أصل 30 مليار دولار أعلن سابقا عزمه بيعها لإنقاذ الشيكل، إلا أن عوامل خارجية أثّرت على قيمة الدولار في العالم، ساهمت في تعزيز قيمة الشيكل، على الرغم من الحرب المستمرة، ومن الخطر الذي يداهم الاقتصاد الإسرائيلي.
ويقول طوكر في مقاله إنه "على الرغم من التأثير الحاد لقيمة الشيكل، هناك اتجاه ثابت لتراجع التضخم في إسرائيل. فمعظم بنود المؤشر سجلت تراجعات في الأسعار خلال شهر تشرين الثاني، بما في ذلك أسعار البيوت التي تؤثر على أسعار إيجار البيوت. وإذا طرحنا أسعار الطاقة أو أسعار الفواكه والخضروات من المؤشر، نجد أن المؤشر قد تراجع أكثر، وكان سيصل في الأشهر الـ 12 الأخيرة، إلى 3.1%، وهو قريب جدا من دخول الحد الأعلى الذي يستهدفه بنك إسرائيل".
ويرى طوكر "أن الانخفاض الحاد في التضخم الناجم بشكل رئيس عن تغيرات قيمة الشيكل، قد يؤثر على قرارات لجنة الفائدة البنكية في بنك إسرائيل. على الرغم من أنه في ظل هذا الانخفاض في التضخم، وبالتأكيد في خلفية الأزمة الاقتصادية في إسرائيل، كان ينبغي للبنك أن يفكر في خفض سريع لسعر الفائدة. ومع ذلك، بما أن التغيير على الأقل في تشرين الثاني كان بسبب التقلبات الحادة في أسعار صرف العملات، فمن المحتمل ألا يؤدي الانخفاض الحالي في التضخم، إلى تسريع قيام بنك إسرائيل بخفض أسعار الفائدة في القرار القادم في مطلع كانون الثاني المقبل، وسينتظر بنك إسرائيل خطوة مماثلة من قبل البنك الفيدرالي الأميركي"، إلا أن مسؤولاً في البنك الفيدرالي الأميركي، صرّح في الأيام القليلة الأخيرة، بأن خفض الفائدة البنكية الأميركية ليس على جدول أعمال البنك الفيدرالي حاليا.
الجدل حول ميزانية 2024
أقرت الهيئة العامة للكنيست في الأسبوع الماضي، التعديل النهائي على ميزانية العام 2023، بزيادة قرابة 26 مليار شيكل (أكثر من 7 مليارات دولار) على الميزانية القائمة، التي أقرت مع ميزانية العام المقبل 2024، في شهر أيار الماضي، وأصلا كان القرار في حينه أن يعاد النظر في ميزانية 2024 إذا احتاجت الظروف، على أن يجري التعديل في مطلع تشرين الثاني. إلا أن شن العدوان على قطاع غزة أدى إلى تغيير القرار السابق، لتعديل ميزانية 2023 وتأجيل التعديل على ميزانية 2024 إلى وقت متأخر أكثر، لمراقبة كل التطورات، ويريد وزير المالية بتسلئيل سموتريتش أن يكون تعديل 2024 حتى نهاية آذار المقبل.
وأساس زيادة ميزانية العام الجاري ارتكز على زيادة العجز في الموازنة العامة، بمعنى زيادة المديونية، وكما يبدو فإن هذه هي حال ميزانية العام المقبل. بمعنى زيادة المديونية، لكن أيضا زيادة ضرائب، وتجميد مخصصات اجتماعية وتخفيض الصرف الحكومي الإداري، بحسب ما نقلته صحيفة "كالكاليست" عن مسؤولين في وزارة المالية، أعدوا مقترحات لشكل التغييرات في ميزانية العام المقبل.
وفي صلب اعتراض الأوساط الاقتصادية، هو أن أحزاب الائتلاف الحاكم الأساسي (من دون كتلة "المعسكر الرسمي" بقيادة بيني غانتس) رفضت تقليص ما تسمى "ميزانيات أحزاب الائتلاف"، والقصد منها ميزانيات استثنائية، طلبتها وحصلت عليها أحزاب الائتلاف عند إقرار الميزانية الأساسية، بغالبيتها الساحقة لخدمة جمهور ناخبيها، وفي الأساس، جمهور المتدينين المتزمتين (الحريديم) وأيضا الجمهور الديني الصهيوني، وخاصة المستوطنين، إضافة إلى دفع ميزانيات استثنائية على مشاريع الاستيطان.
ويجري الحديث عن أكثر من 13 مليار شيكل موزعة على 4 سنوات، إذ رفض وزير المالية بتسلئيل سموتريتش، مدعوما من رئيس حكومته بنيامين نتنياهو، إجراء تقليص جدي في هذه الميزانيات، للمساهمة في تمويل الحرب، إذ يعرف نتنياهو أن هذه الميزانيات تخدم القاعدة الجماهيرية الأساسية التي ترتكز عليها حكومته الأساسية، وهو بحاجة لاستمرار التصاق هذا الجمهور وأحزابه بهذه الحكومة، لتكون الحامية المستقبلية له، في ظل عواصف سياسية مفترضة، بعد الحرب.
ويقول المحلل الاقتصادي في صحيفة "يديعوت أحرونوت"، غادر ليئور، إن الميزانية المعدّلة، هي ميزانية مشوشة ومختلة، وكشفت عمق انقطاع حكومة الفشل عما يجري عند حدود الدولة، والألم الذي يضرب مواطني إسرائيل. وزير المالية سموتريتش رفض بإصرار التنازل عن مئات ملايين الشواكل، التي تصرف على وزارات وصفت بأنها زائدة.."، والقصد بحقائب وزارية لا عمل حقيقياً لها، فقط من أجل توزيع مناصب على أحزاب الائتلاف الحاكم.
ما يراد قوله إن الصخب الذي يحتل مساحات واسعة في وسائل الإعلام الإسرائيلية على أنواعها، ضد السياسة الاقتصادية للحكومة الأساسية (بقصد ليس ائتلاف حكومة الحرب)، لا يؤثر على تماسك حكومة نتنياهو الأساسية، رغم اعتراض وزيرين أو ثلاثة أرادوا ميزانيات أكثر لوزاراتهم. لكن ما تعرضه وزارة المالية كمقترحات لزيادة الضرائب، وتجميد المخصصات الاجتماعية، قد ينقل الاعتراض إلى الشارع، ويؤجج الحراك القائم حاليا، الذي يطالب الحكومة بإبرام اتفاقيات تبادل أسرى.
من المستبعد أن يوافق نتنياهو ووزير ماليته على إلقاء عبء مالي على الجمهور في ظل ظروف سياسية وعسكرية كهذه؛ لذا فعلى الأغلب، سيكون الاتجاه هو زيادة المديونية، التي كانت عند نهاية العام الماضي 2022، عند نسبة 60% من حجم الناتج العام، أي ما يعادل 1200 مليار شيكل (حوالي 326 مليار دولار)، وحسب تقديرات مؤسسات مالية رسمية إسرائيلية، وأيضا مؤسسات مالية عالمية وشركات تقدير، فإنه مع انتهاء العام 2024 ستزداد المديونية إلى نسبة 65% من حجم الناتج العام، أيضا زيادة 100 مليار شيكل، وبحسب قدرات الاقتصاد الإسرائيلي، فإن هذا في الوسع سداده خلال سنوات قليلة، بحسب التقديرات.
المصطلحات المستخدمة:
بتسلئيل, يديعوت أحرونوت, هآرتس, الشيكل, الكنيست, بنيامين نتنياهو