المشهد الإسرائيلي

ملحق أسبوعي يتضمن مقالات صحفية وتحليلات نقدية ومتابعات عن كثب لمستجدات المشهد الإسرائيلي.
  • تقارير، وثائق، تغطيات خاصة
  • 958
  • سليم سلامة

هل بالإمكان البناء على ما جرى على مدى أكثر من 13 ساعة يوم الثلاثاء الماضي، الثاني عشر من أيلول الجاري، خلال المداولات القضائية في قاعة "محكمة العدل العليا" الإسرائيلية، في بث حي ومُباشر، لمحاولة تكهن الحسم القضائي الذي ستنتهي إليه هذه المحكمة بشأن الالتماسات التي قُدِّمت إليها ضد التعديل رقم 4 الذي أقره الكنيست نهائياً يوم 24 تموز الأخير على "قانون أساس: القضاء" والذي يعني فعلياً تقليص "حجة المعقولية" عبر نزع صلاحية المحكمة العليا للنظر في ـ ثم إلغاء ـ قرارات صدرت عن الحكومة، رئيس الحكومة أو أي من وزرائها؟

هذا واحد فقط من الأسئلة الكثيرة التي تُطرح للبحث والمناقشة الآن في أعقاب جلسة المحكمة الماراثونية المذكورة واستشرافاً لما يمكن أن يكون قرارها القضائي النهائي. وبالرغم من أن الإجابة بالنفي التام على هذا السؤال واضحة ومؤكدة، إلا أنه يشكل بوابة واسعة لفيض من التحليلات والتكهنات والتأويلات، السياسية والحقوقية والإعلامية، التي تغلب الرغائبية على كثير منها، بل أكثرها، بما في ذلك بتأثير الأزمة السياسية ـ الدستورية الحادة والاستثنائية التي تعصف بإسرائيل منذ أشهر وما ولّدته وتولّده من اصطفافات وتصدّعات في داخل المجتمع الإسرائيلي ومكوّناته المختلفة.

وأياً تكن التحليلات، التخمينات والتكهنات، يبقى أن قرار المحكمة القضائي في الالتماسات المذكورة سيظل مجهولاً حتى لحظة إعلانه رسمياً، وهو ما ينبغي أن يحدث، بالضرورة، في موعد أقصاه كانون الثاني 2024، بالنظر إلى حقيقتين اثنتين، الأولى أن رئيسة المحكمة العليا، إستير حيوت (التي تترأس، أيضاً، الهيئة القضائية الموسعة التي تنظر في الالتماسات) سوف تخرج إلى التقاعد بصورة رسمية في 16 تشرين الأول القريب، والثانية أن فترة ثلاثة أشهر تُمنح لأي قاضٍ بعد خروجه إلى التقاعد من أجل إنجاز كتابة قرارات حكم قضائية لم يستطع إنجازها حتى موعد خروجه إلى التقاعد.

 

الأسئلة القابلة للانفجار

من الواضح أن محاولات رسم "خارطة طريق" إلى القرار النهائي المنتظر من المحكمة العليا، ثم محاولة الاشتقاق منها بشأن المكانة التي ستختار المحكمة موضعة نفسها فيها وبشأن مستقبل العلاقة/ الفصل ما بين السلطات الثلاث في إسرائيل وما ينعكس منها على مستقبل "الديمقراطية الإسرائيلية"، ابتداء من هذه اللحظة التاريخية فصاعداً، تقوم، بصورة أساسية، على قائمتين اثنتين: الأولى ـ الملاحظات والأسئلة، وربما المداخلات أحياناً، التي أسهم بها القضاة بشكل فردي خلال المداولات، في بث حي ومباشر (جميعهم شارك في ذلك، باستثناء واحدة فقط لم تنبس ببنت شفة، إطلاقاً، هي القاضية غيلا كانفي ـ شتاينيتس، زوجة وزير المالية الليكودي السابق يوفال شتاينيتس)؛ والثانية ـ ما هو معروف عن كل واحدة وواحد من قضاة المحكمة بخصوص مواقفهم وآرائهم وميولهم في القضايا المختلفة، كما انعكست في قرارات حكم قضائية صدرت عنهم أو كما عبروا عنها في مناسبات علنية، والتي أفضت في نهاية الأمر إلى تصنيف كل واحدة وواحد منهم ضمن إحدى فئتين، "قضاة ليبراليون" و"قضاة محافِظون".

غير أن التجربة تفيدنا، عموماً، بأن المداولات والمناقشات الشفوية في قاعات المحاكم لا تشكل مرتكَزاً موثوقاً للتنبؤ بما يمكن أن تتمخض عنه من قرارات قضائية. فكم من حالات بدا فيها وكأنّ القضاة، من خلال ملاحظاتهم وأسئلتهم، يتجهون نحو إصدار قرار محدد بينما كان قرارهم في النهاية مغايراً تماماً. وينبغي أن نذكر، أيضاً، أن لكل قاضية وقاضٍ صوتاً واحداً في نهاية المطاف، سواء كان فاعلاً خلال المداولات أم صامتاً وسواء عبّر عن رأي ما أم عن خلافه وسواء كان مُصنّفاً "ليبرالياً" أم "محافظاً".

وما من شك في أن "تاريخي" هو توصيف مناسب ومستحَق لهذا التطور الحاصل في إسرائيل هذه الفترة، لا سيما في المنظور الإسرائيلي أساساً وتحديداً، لكن في منظور أوسع بكثير أيضاً. و"التاريخية" هنا لا تنحصر فيما يبدو أنه عنصر شكلي فقط، لكنه ليس كذلك البتّة، وهو التركيبة القضائية غير المسبوقة التي تلتئم فيها "محكمة العدل العليا" للنظر في هذه الالتماسات، علماً بأنها التركيبة القضائية الأوسع المتاحة لها (قضاتها الـ 15 جميعاً) وهي المرة الأولى التي تلجأ إليها منذ تأسيسها، بل هو "تاريخيّ" أيضاً، وبالأساس، من حيث طبيعة الأسئلة المطروحة للبحث والمناقشة والحسم ومن حيث الادعاءات المختلفة التي طُرحت وتُطرح وأهميتها المركزية جداً في الواقع والسياق الإسرائيليين، ثم من حيث القرار الذي ستخلص إليه المحكمة والتداعيات المستقبلية المحتملة في كل واحد من الاحتمالين الرئيسين ـ قبول الالتماسات أو رفضها.

فقد رفعت المرافعات التي قدمها المحامون خلال جلسة المحكمة، وكذلك ملاحظات القضاة وأسئلتهم، استمراراً وتتويجاً للمناقشات اللانهائية التي بدأت منذ طرح وزير العدل ياريف ليفين "برنامج الإصلاح القضائي"، إلى السطح جملة من القضايا والأسئلة التي كانت كالجمر المتضرم تحت الرماد كل الوقت، لكن لم يعد بالإمكان الآن التغافل عنها وعدم التصدي لها، بكامل حدتها وقابلية اشتعالها، بل انفجارها. وفي مقدمة هذه القضايا والأسئلة التي لا مبالغة، إطلاقاً، في وصفها بأنها دراماتيكية حقاً في السياق الإسرائيلي: مكانة "وثيقة الاستقلال" وإمكانية/ قدرة الكنيست على إلغاء طابع دولة إسرائيل كدولة "يهودية وديمقراطية"؛ صلاحية الكنيست في وضع دستور؛ صلاحية الكنيست في تشريع كل ما يحلو لها من قوانين، والخشية من المُنحدر الزلق.  

اتخذ الحديث والنقاش حول مكانة "وثيقة الاستقلال"، التي أصبحت في الفترة الأخيرة وكأنها "التوراة الجديدة"، على ألسن معارضي "برنامج الإصلاح القضائي" بشكل خاص، منعطفاً هاماً ولافتاً جداً خلال جلسة المحكمة اقتحمه ممثل الحكومة، المحامي إيلان بومباخ (وهو محامٍ خاص ومستقل لجأت إليه الحكومة عقب رفض المستشارة القانونية للحكومة، غالي بهراف ميارا، تمثيل الحكومة والدفاع عنها مقابل الالتماسات، مؤكدة أن على المحكمة العليا إلغاء تعديل تقليص حجة المعقولية). فقد كرر بومباخ خلال مرافعته فكرة/ موقف أن المحكمة غير مخولة صلاحية ممارسة الرقابة القضائية على قوانين الأساس، خلافاً للقوانين العادية، مفسِّراً بأنه "إذا كان الكنيست يمتلك صلاحية سن قوانين أساس، فلا بد أن هذه الصلاحية مضمونة له أيضاً في مجال نقد الرقابة القضائية". ورداً على ادعائه هذا، سأله عدد من القضاة: "ما هو مصدر صلاحية الكنيست في سن قوانين أساس؟". وفي رده على تساؤل القضاة هذا، قال بومباخ إن "مصدر الصلاحية هو إرادة الشعب"، مضيفاً إن "وثيقة الاستقلال ليست مصدراً للصلاحية، رغم أن قوانين الأساس هي بروح الوثيقة"! وأوضح: "على وثيقة الاستقلال وقّع، على عجل، 37 شخصاً لم يتم انتخابهم مطلقاً. فهل هذا مصدر صلاحية؟". والمقصود بمصدر الصلاحية هنا هو ما تتضمنه وثيقة الاستقلال من توجيهات عامة في تطوير وحماية حقوق الإنسان والمواطن، وهي التوجيهات التي كرسها الكنيست لاحقاً في قانونيّ الأساس الأبرز من العام 1992: "قانون أساس: كرامة الإنسان وحريته" و"قانون أساس حرية العمل"، وخصوصاً في المادتين الأولى ("مبادئ الأساس") والثانية ("الغاية") في كلا القانونين واللتين تشددان على أن الحقوق تُصان "بروح المبادئ التي تضمنتها وثيقة إعلان إقامة دولة إسرائيل" (أي، "وثيقة الاستقلال") وعلى أن "قيم دولة إسرائيل كدولة يهودية وديمقراطية". ويأتي موقف بومباخ هذا، ممثلاً للحكومة وموقفها، لينسف من الأساس ما كان يشكل، حتى الآن، قاعدة مُعتمَدة للتفسيرات القضائية وللرقابة القضائية.

القضية الأخرى التي رفعها النقاش خلال جلسة المحكمة إلى السطح بكامل قوتها وحدتها هي النقطة الخلافية بشأن "حدود تدخل المحكمة (العليا) في عمل الحكومة والكنيست". فبينما يدّعي أقطاب الائتلاف الحكومي بأن الحكومة والكنيست "يعملان باسم صاحب السيادة (الشعب) وبالنيابة عنه"، عبر فوزهما بالأغلبية البرلمانية في الانتخابات، يدّعي ممثلو المعارضة والملتمسون بأن ثمة "أسباباً ومبررات عديدة ومتنوعة للتدخل في عمل الحكومة والكنيست وقراراتهما، بدوافع المعقولية". وفي مرافعته، ممثلاً لنفسه، قال رئيس لجنة القانون والدستور والقضاء البرلمانية، عضو الكنيست سيمحا روطمان، إنه "حتى لو أخطأت الحكومة أو أي من وزرائها، أو أخطأ الكنيست، فإن الجمهور هو الذي يستبدلهم والتصحيح يقوم به الكنيست وليس المحكمة التي لا تملك صلاحية التدخل والتي أخذت لنفسها صلاحيات لا مثيل لها في أي مكان آخر في العالم". وهنا، سأله القاضي أليكس شطاين (المحسوب على فئة "القضاة المحافظون"!): "أريدك أن تريني مستنداً رسمياً واحداً يقول إن باستطاعة الكنيست سن أي قانون يحلو له". وأضافت القاضية عنات بارون: "وماذا إذا سنّ الكنيست قانوناً يلغي حق العرب في الانتخاب؟ أو قانوناً يمنع العلمانيين من السفر في أيام السبت؟ وماذا إذا سن الكنيست قانوناً يمسّ بهوية الدولة كدولة يهودية وديمقراطية؟ هل عندها أيضاً يكون التدخل ممنوعاً؟". وأضاف القاضي يتسحاق عميت: "إذا كانت الأغلبية تستطيع فعل كل ما تريد، فمعنى هذا أن الديمقراطية هي لجنة لتزيين الصف الرابع الابتدائي".

قضية أخرى حدّدها (من الحدّة) النقاش في جلسة المحكمة هي تلك التي تخص النتيجة العملية النهائية في حال الإبقاء على القانون كما هو (أي، قبول الالتماسات وإلغاء التعديل القانوني) ـ أي، استمرار سريان "حجة المعقولية" على الحكومة والوزراء، لكن من دون القدرة على تطبيقها فعلياً، وهو الوضع الذي وصفته رئيسة المحكمة العليا، حيوت، بـ "يوجد قانون لكن لا يوجد قاضٍ". وهذا تعديل للمقولة الآرامية الأصل "لا قانون ولا قاضٍ"، أي فوضى عارمة وكل يفعل ما يحلو له. ثم وضّحه القائم بأعمال رئيسة المحكمة العليا، القاضي عوزي فوغلمان، بالقول: "نحن نعلم أنه بدون ضمان القدرة على فرض القرارات القضائية، وهي القدرة التي تتمتع بها المحكمة، فالأمور لن تجري كما يجب... لأنها لم تجر كما يجب في السابق أيضاً. الافتراض بأن الجميع سينصت وسيذعن بصورة اختيارية للمستشار القانوني للحكومة هو افتراض واهٍ ولا أساس له". وقالت القاضية عنات بارون: "لا يمكن القول إن هنالك حجة معقولية لكن لا رقابة قضائية عليها. هذا يُفرغ واجب المعقولية من أي مضمون".

الرفض، التداعيات والمسؤولية

من الصعب جداً التكهن بما سيستقر عليه رأي "محكمة العدل العليا" النهائي في هذه القضية والقرار الذي سيصدر عنها، بعدما تستكمل النظر في الالتماسات بتقديم ممثلي الأطراف تلخيصاتهم واستكمال طعونهم الخطية إليها خلال مدة أقصاها 21 يوماً، وما إذا كان سيكون القرار بالإجماع (وهو احتمال يكاد يكون خيالياً في أي من الاتجاهين ـ القبول أو الرفض) أم بأغلبية آراء القضاة الخمسة عشر. غير أن الاحتمالات الموضوعية المتاحة الآن هي أربعة أساسية: قبول الالتماسات بشكل تام وإلغاء التعديل القانوني إلغاءً كلياً؛ رفض جميع الالتماسات رفضاً تاماً والإبقاء على التعديل القانوني كما هو؛ إلغاء التعديل بصورة جزئية، وخاصة الجزء منه الذي يمنع المحكمة من التدخل في قرار الحكومة عدم ممارسة أيّ من صلاحياتها مما سيعود بضرر مباشر على مواطن ما أو مجموعة من المواطنين. وإذا ما اختارت المحكمة هذه الإمكانية، فمعنى ذلك أنها لن تتمكن بعد الآن من ممارسة الرقابة القضائية بحجة عدم المعقولية على الكثير جداً جداً من قرارات الحكومة والوزراء، وأبرزها بالطبع: قرار ضم الضفة الغربية إلى السيادة الإسرائيلية بصورة رسمية! وثمة إمكانية رابعة هي أن تقرر المحكمة تأجيل بدء سريان هذا التعديل القانوني إلى ما بعد الانتخابات البرلمانية المقبلة في إسرائيل.

غير أن الواضح تماماً أن أي قرار تتخذه المحكمة العليا في نهاية المطاف سيُقابَل بالرفض القاطع والمعارضة الشديدة من جانب قطاع واسع جداً من الجمهور الإسرائيلي، سواء المؤيدين لبرنامج الحكومة أو المعارضين له، المؤيدين لتدخل المحكمة العليا ودورها الفاعل والمؤثر أصلاً أو المعارضين له، ناهيك عن احتمال رفض الحكومة الالتزام بقرار لا يروق لها ولا ينسجم مع مخططها، وهو ما ستكون له ـ في كل الأحوال ـ تداعيات كثيرة ومختلفة وبعيدة الأثر على مجمل الحياة السياسية والاجتماعية في إسرائيل، بكل تفاصيلها، وعلى مستقبل ما يُسمى بـ "الديمقراطية الإسرائيلية". لكن، لا بد من القول إن "المحكمة العليا الإسرائيلية"، التي زُجّ بها الآن رغماً عنها في هذه المهمة التاريخية التي تتمثل في مسؤولية الحسم بشأن الالتماسات وموضوعاتها، في هذه اللحظة التاريخية من حياة الدولة الإسرائيلية، هي ـ كأعلى هيئة في الجهاز القضائي وراسمة مساره ـ شريكة أساسية في ما آلت إليه الأوضاع في هذه الدولة وهي تتحمل جزءاً كبيراً، بل أساسياً، من المسؤولية عمّا تواجهه الآن، وذلك من خلال أدائها القضائي على مدى عقود عمرها والتزامها، أساساً، بأقصى درجات الحذر الممكنة، وغير الممكنة في كثير من الأحيان، حفاظاً على موقعها ومكانتها في قلب "الإجماع القومي"، الإسرائيلي الصهيوني، في كل ما يخص الممارسات الإسرائيلية الحكومية والرسمية في القضيتين المركزيتين الأكبر والأخطر: الاحتلال ومشروعه الاستيطاني، بكل ما ارتكبه ويرتكبه من جرائم وموبقات، والتمييز والاضطهاد على أساس قومي ـ إثنيّ بحق الفلسطينيين الذين أصبحوا أقلية قومية في وطنهم.

المشهد الإسرائيلي

أحدث المقالات