المشهد الإسرائيلي

ملحق أسبوعي يتضمن مقالات صحفية وتحليلات نقدية ومتابعات عن كثب لمستجدات المشهد الإسرائيلي.
  • تقارير، وثائق، تغطيات خاصة
  • 1603
  • برهوم جرايسي

لم تبقِ أطراف الائتلاف الحكومي الإسرائيلي زاوية واحدة هادئة في حياة الإسرائيليين على ما يبدو، فقادة حكومة بنيامين نتنياهو وأعضاء الكنيست من الائتلاف يظهرون كما لو أن كل واحد منهم يسحب "بندقيته الرشاشة" ويصوّبها إلى حيثما شاء. ففي أوج الهجوم على قادة الأجهزة الأكثر حساسية: الجيش والمخابرات والشرطة والقضاة والمستشارين القانونيين، يفتح المتدينون المتزمتون ملف مشروعهم القديم الجديد: فصل الرجال عن النساء في الحيّز العام، وبشكل خاص في التجمعات السكانية التي يتواجدون فيها، إذ أن الفصل في مستوطناتهم والأحياء الخاصة بهم قائم طوال الوقت. وفي الأيام الأخيرة تفجر هذا الملف في قضيتين، كانتا كافيتين لتصعيد الاحتجاجات ضد الحكومة، ليصل الأمر إلى مداولات المحكمة العليا، وأيضا إلى جلسة خاصة في الكنيست.

تفجّر القضية

في الأيام الأخيرة ظهرت قضيتان: الأولى قرار وزيرة شؤون البيئة عيديت سيلمان، وهي متدينة في كتلة الليكود، إطلاق مشروع تجريبي محدود، يقضي بالسماح بتخصيص ساعات فصل بين الرجال والنساء في بعض المناطق الطبيعية المغلقة، التي فيها سباحة (ليست شواطئ بحرية)، وهي أماكن قليلة جدا، قائمة أساسا في شمال البلاد، وفي حال نجاحه، سيتم تعميمه. وهذا القرار الذي لم يدخل حيز التنفيذ بعد، يتماشى مع طلب كتلتي المتدينين الحريديم تخصيص 15% من ساعات العمل الأسبوعية، في هذه المناطق والمحميات الطبيعية، للفصل بين الرجال والنساء، بمعنى تقسيم الوقت لدخول أحد الجنسين، ويجري الحديث عن 8 ساعات أسبوعيا.

وأصدرت المستشارة القانونية للحكومة غالي بهراف ميارا موقفا قضائيا، يقول إن القرار الذي أصدرته وزيرة البيئة يجب أن يستند إلى قانون، وحتى الآن لا يوجد قانون كهذا، ولم تبد ميارا موقفا من قضية الفصل. ويرى العلمانيون أن مطلب الفصل، وبقدر ما يظهر أنه محدود وقصير من ناحية زمنية، إلا أنه البداية، وسيكون سابقة لما هو أكبر.

وفي أعقاب موقف المستشارة القانونية، أعلن أعضاء كنيست من كتلة يهدوت هتوراة أنهم مع عودة الكنيست إلى العمل، وبدء الدورة الشتوية، في منتصف تشرين الأول المقبل، سيدفعون إلى مسار التشريع مشروع قانون قدموه في مطلع العام الجاري 2022، إلى جدول أعمال الكنيست، يجيز الفصل بين النساء والرجال في الحيّز العام، وفق شروط محددة، وبالنسبة للمناطق والمحميات الطبيعية، حيث توجد سباحة، وتخصيص 15% من ساعات عمل هذه المحميات للفصل بين الرجال والنساء. وزعم المبادرون أن 20% من السكان في إسرائيل "من كافة الأديان"، حسب تعبيرهم، معنيون بالفصل بين الجنسين. ما يعني أن مشروع القانون هذا سيكون أحد القوانين المركزية التي سيسعى لها الحريديم ومعهم المتدينون من باقي الكتل في الدورة البرلمانية الشتوية القريبة.

يشار هنا، إلى أن مسألة الفصل بين الجنسين وردت في مفاوضات تشكيل الحكومة، بين حزب الليكود، وكل واحدة من الكتل الدينية الشريكة في الائتلاف، بمعنى ليس فقط كتلتي الحريديم، شاس ويهدوت هتوراة، وإنما أيضا القائمة التحالفية المنحلّة الصهيونية الدينية، التي انفصلت لثلاث كتل برلمانية، وفق تفاهم مسبق؛ إذ طالبت تلك الكتل بسن قانون يجيز الفصل بين النساء والرجال في المناسبات ذات الطابع الديني، إن كانت للحريديم أو للتيار الديني الصهيوني، وأن لا يتم احتساب هذا كتمييز ضد النساء.

لكن ما هو معروف منذ سنوات ليست قليلة أن المتدينين يطالبون بإقرار أنظمة فصل بين الجنسين في العديد من مجالات الحياة، وبضمنها وحدات في الجيش وأيضا في الشرطة.

القضية الثانية، التي اجتاحت وسائل الاعلام الإسرائيلية بكثافة، هي تعرّض سائق حافلة عامة، انطلقت من مدينة أسدود إلى مدينة طبريا، لفتيات في عمر 15 عاما في المعدل، إذ صعدن إلى الحافلة وهنّ بلباس صيفي قصير، مع شبان أصدقاء وأمتعة للنقاهة على شواطئ بحيرة طبريا. فطلب منهن السائق الاحتشام، ولبس ما يغطي أكثر أجسادهن، وأن يجلسن في الخلف، وأن يجلس الشبان الذين معهن في ذات المجموعة في المقاعد الأمامية، وشرع بتوبيخهن، بوعظات أخلاقية دينية، وانتقاد أهاليهن على تربيتهن، خلال سفر الحافلة وأيضا في محطات الاستراحة.

وصدرت ردود فعل عديدة ضد تصرّف السائق، ومنها رد رئيس الحكومة بنيامين نتنياهو المقتضب، الذي قال إن "إسرائيل دولة حرية، لا أحد يقيّد من يركب الحافلة العامة، أو يُملي على المرأة أو الرجل أين يجلس فيها". وأعلنت الشركة المشغّلة أنها ستستجوب السائق، وكما يبدو من خلال التقارير فإن القضية قد تصل إلى المحاكم.

يشار هنا إلى أن الفصل بين النساء والرجال في مستوطنات الحريديم، أو في خطوط الحافلات التي تنطلق من أحياء الحريديم وتعود اليها، قائم منذ سنوات، بحيث تكون مقاعد النصف الأمامي للحافلة للرجال، والمقاعد في النصف الخلفي للنساء، على أن يكون مدخل ومخرج الحافلة لأحد الجنسين، من الباب القريب.

في هذه القضية بالذات يوجد عامل آخر من القضايا التي تشغل بال العلمانيين. فمدينة أسدود (أشدود حسب التسمية الإسرائيلية)، هي مدينة علمانية في الأصل، لكن منذ سنوات تشهد زحفا للمتدينين المتزمتين الحريديم، خاصة في الطوائف الأكثر تزمتا، أي اليهود الغربيين الأشكناز، ولكن أيضا الشرقيين السفراديم، ففي حين كانت نسبة الحريديم في مدينة أسدود في العام 2013 حوالي 13%، فإن نسبتهم اليوم في المدينة حوالي 33%، وهذا تقدير قائم على أساس نتائج الانتخابات البرلمانية الأخيرة في خريف العام الماضي 2022، إذ حصلت قائمتا الحريديم، يهدوت هتوراة وشاس، على ما مجموعه 29%، علما أن نسبة من هم دون سن 18 عاما من الحريديم أعلى بكثير من باقي اليهود.

ويرى العلمانيون أن أسدود هي نموذج لتخوفاتهم المستقبلية، بحيث أن مدنا علمانية ستتحول مستقبلا، وكما يبدو قريبا نسبيا، إلى مدن ذات أغلبية للحريديم، وحينها سيضيق مجال الحياة العامة للعلمانيين، وما جرى في الحافلة إياها، مع الفتيات والشبان الصغار، يشكّل نموذجا لما ينتظر العلمانيين.

وبشكل سريع انتقلت قضية حافلة أسدود إلى أروقة الكنيست، رغم أنه في عطلة صيفية، إذ عقدت جلسة استثنائية لإحدى لجان الكنيست، وأعلن يائير لبيد في هذه الجلسة أن كتلة حزبه البرلمانية، "يوجد مستقبل"، أعدت 12 مشروع قانون يمنع إقصاء أو تحييد النساء من الحيّز العام، ومعاقبة من يبادر إلى تحييد النساء وإبعادهن عن المرافق العامة. وقال إن ما شهدناه في الأيام الأخيرة "هو طرف جبل الجليد الذي سنتحطم عليه، يشطبون صور النساء من لافتات الشوارع، يسنون قوانين للفصل بين النساء والرجال وفي المناطق العامة، وحتى هنا في الكنيست عقدت مؤتمرات وندوات، لم يسمحوا للنساء بالدخول اليها، وليس صدفة أن يحدث كل هذا بالذات الآن. إنها رسالة قادمة من فوق، من هذه الحكومة، فهذا نهج سياسي".

وتابع لبيد قائلا: "في الائتلاف الحاكم يوجد حزبان، لا تستطيع النساء فيهما الترشح وأن تنتخبن للكنيست (يقصد كتلتي الحريديم). أنظروا إلى عدد النساء الوزيرات في هذه الحكومة، وعدد عضوات الكنيست في الائتلاف، وإلى عدد المديرات العامة في الوزارات. إنهم لا يوظفون النساء في الوظائف الكبيرة. والنساء تتلقين مهانات شوفينية".

وقالت المديرة العامة للوبي النسائي (مجموعة ضغط)، عينات فيشر لالو، في الجلسة البرلمانية ذاتها: "من الواضح أنه في هذا العام هناك معركة على الرأي العام، والوعي، بين التزمت الديني وبين الحفاظ على الطابع الليبرالي العلماني في الحيّز العام. والجبهة المريحة للمتزمتين هي المعركة على حق النساء بالفصل عن الرجال، فهذا يظهر وكأنه أكثر ليبرالية من مقولة إقصاء النساء عن الحيز العام".

وفي خضم النقاش الذي ثار في الأيام الأخيرة تصاعد أكثر الجدل حول مشروع قانون توسيع صلاحيات المحاكم الدينية، الذي أقر بالقراءة التمهيدية في الدورة الشتوية البرلمانية السابقة، ليكون بقدرتها التحكيم في قضايا مدنية عادية، في ما لو أراد طرفان هذا التحكيم، أو حتى إذا اشترط هذا مقدم خدمات في اتفاقية موقعة من طرفين. وهذا المطلب ورد في الاتفاقية بين حزبي الليكود وشاس. وحسب التقديرات، فإنه في حال تم هذا، فإن الحريديم سينتقلون إلى جهاز المحاكم الدينية في القضايا الدنيوية.

وقالت حركات نسوية وغيرها إن الضحية الأولى لتوسيع صلاحيات المحاكم الدينية هنّ النساء المتدينات، اللاتي سيتعرضن إلى ضغوط ليقبلن بتحكيم المحاكم الدينية في القضايا العائلية المدنية، ودرجة الإنصاف لهن ستكون بدرجة أقل بكثير مما يمكن أن يحصلن عليه في المحاكم المدنية.

كذلك حذّر تقرير في صحيفة "هآرتس" من مشروع قانون آخر بادر له نواب من كتلتي الحريديم، من شأنه أن يمس بالنساء خاصة، وهو يجيز لصاحب مصلحة اقتصادية أن يرفض تقديم خدمات أو بيع منتوجات لأشخاص، من منطلقات وقناعات دينية، والقصد الأول هنا، حسب التقرير، أن مشروع القانون سيجيز رفض رجل بيع امرأة أو تقديم خدمات تجارية لها لكونها امرأة، خاصة إذا كان مظهرها ولباسها ليس وفق الشرائع اليهودية المتزمتة. لكن جهات حقوقية تحذر أيضا من أن هذا القانون قد يفسح المجال لرفض التعامل مع عرب.

مجرد بدايات لما هو أكبر

كان واضحا منذ تشكيل حكومة بنيامين نتنياهو الحالية، التي ترتكز على ائتلاف غالبية نوابه من المتدينين، إذا ما أخذنا بعين الاعتبار النواب المتدينين في حزب الليكود، أن هذه الحكومة سترفع من مستوى قوانين وأنظمة الإكراه الديني، بموازاة سعي الكتل الدينية لتحصيل ميزانيات غير مسبوقة لصالح المؤسسات التعليمية والاجتماعية التابعة لها.

وهذا هو أحد الأسباب الخلفية، التي لا تظهر في الواجهة حتى الآن، لحملة الاحتجاجات الشعبية، ضد تقويض صلاحيات المحكمة العليا، ومنعها من نقض قرارات حكومية ووزارية، كتمهيد لسحب صلاحيات المحكمة بنقض قوانين يقرها الكنيست. ففي حسابات المعارضين، وهم بالذات من الشرائح العلمانية، أنه لن يكون مسموحا لهم مستقبلا اللجوء إلى المحكمة العليا للجم قوانين وأنظمة إكراه ديني، كما حصل مرارا على مر السنوات الماضية. إضافة إلى أنه لن يكون بمقدور المحكمة نقض قانون يجري التفاوض حوله يهدف أساسا من ناحية الحريديم إلى إعفاء شبانهم من الخدمة العسكرية الإلزامية، لدوافع دينية. ويرى العلمانيون أن هذا تمييز ضدهم، ومن شأنه أن يزيد عبء الخدمة العسكرية عليهم، ولصالح الحريديم، الذين حسب القوانين والسياسات القائمة في ظل هذه الحكومة يتمتعون بميزانيات بأحجام غير مسبوقة.

وكل ما نراه اليوم هو تمهيد لما هو أكبر، إذا أخذنا بعين الاعتبار الارتفاع المتواصل، وبنسبة حادة، في أعداد المتدينين اليهود من جميع التيارات، وأساساً بفعل نسبة التكاثر الطبيعي المرتفعة.

المشهد الإسرائيلي

أحدث المقالات