المشهد الإسرائيلي

ملحق أسبوعي يتضمن مقالات صحفية وتحليلات نقدية ومتابعات عن كثب لمستجدات المشهد الإسرائيلي.

"من يحترق الآن؟ حوّارة؛ بيوت وسيارات – حوّارة؛ مسنّات نساء وطفلات – حوّارة؛ تحترق كل الليل – حوّارة"، سمعت كلمات هذه الأغنية البغيضة، المركّبة على لحن مألوف، عبر مكبرات الصوت في المظاهرات المضادة التي نظمها اليمينيون في أمسيات السبت في بيت شيمش، أمام المظاهرات الاحتجاجية ضد الانقلاب القضائي. من المفترض أننا سنسمعها في الأيام القادمة في أماكن أخرى أيضاً. يجب أن نقرأها مرة أخرى، نقرأها ولا نصدق؛ أو، في الواقع، نعم نصدّق. فقبل أسابيع تسبب مستوطنون يرتدون القلنسوات بأعمال شغب في أم صفا وعوريف، أعمال شغب تابعت سابقاتها في حوارة وترمسعيا.

هذه الأعمال المشينة تستحق عنواناً واحداً فقط: الإرهاب. ينبغي معاملة مرتكبيها كما يعامل الإرهابيون تماماً؛ إذا كانت دولة إسرائيل تسمح لنفسها (بموافقة المحكمة العليا، يجب ذكر ذلك) بتدمير المنازل، محاصرة بلدات، تحطيم الأبواب في منتصف الليل من أجل إخراج "القنابل الموقوتة" من أسرّتهم، فمن اللائق عندئذ توقع تطبيق عدالة متساوية تماماً على الإرهاب العربي واليهودي على حد سواء. وأولئك الذين يدعمون هذه الأعمال - حاخامات، ومعلمون، وشخصيات عامة – يجب اعتقالهم فوراً (للأسف، أعضاء الكنيست داعمو الإرهاب، يتمتعون بحصانة وكل ما يمكن فعله هو التنديد بهم علناً). إن مدينتنا بأكملها تحترق.

خطأ أم خاصيّة؟

في مواجهة هذه الفظائع، التي ترافقنا بكثافة متزايدة لفترة طويلة - وعلى نحو مضطرد في نصف العام الماضي منذ إنشاء الحكومة الحالية - يجب على كل شخص متدين محترم أن يسأل نفسه بصدق عما إذا كان هذا يعتبر تطوراً عرضياً، أم نوعاً من الانحراف غير الضروري عن المسار الأصلي للصهيونية الدينية؟ أو ما إذا كان هذا يُعدّ تطوراً تطورياً طبيعياً لها؟ هل هذا خطأ أم لا سمح الله خاصيّة؟ عملياً، من المشكوك فيه أن يكون هناك الآن سؤال أكثر حدّة وإلحاحاً.

كان الموقف السائد بين الأوساط الدينية المعتدلة - من "المفدال" وحتى "ميماد" - ولا يزال هو أن هذا خطأ، خلل؛ وأن المسار "الحقيقي" أو "الأصلي" للصهيونية الدينية لا علاقة له بأفعال مثل هذه؛ وأن عربتنا الكاملة ستستمر في رحلتها الآمنة على طريقها، حتى لو نمت على جانبي الطريق أعشاب ضارة يجب مكافحتها. البورجوازية الدينية الكلاسيكية اتخذت هذا الموقف بدافع بعض السذاجة، وكان من المريح لها الاعتقاد أن معسكرنا نقيّ؛ لكن جنباً إلى جنب معها عملت دائماً شخصيات حاخامية بارزة - ومن بينها، مثلا، رئيس مدرسة هار عتصيون الحاخام يهودا عميطال وحاخامات مدرسة معاليه غلبوع– ممن أدركوا وأشاروا إلى الإخفاقات التربوية وغالباً ما لم يرتدعوا من منتقديهم. لكن لشديد الأسف، لم يكن تأثيرهم كبيراً بما فيه الكفاية، وحتى أنهم تجنبوا دائماً قطع الخيط الدقيق الذي يربطهم مع التيارات الأكثر مركزية في الصهيونية الدينية. وهكذا، على حد علمي، باستثناء بضع فقرات في كتابات الحاخام عميطال ومفكرين آخرين من الجناح اليساري للمجتمع المتدين، من الصعب أن تجد أصواتاً راديكالية أخرى، تتساءل عن الأثمان الأساسية للرؤية الصهيونية الدينية.

في غضون ذلك، تضاءلت الأجيال: لم تعد هناك اليوم بعد أكتاف عريضة مثلما كان للحاخام عميطال، وصمت معظم الحاخامات من الجيل المتوسط ​​مثير للحرج. حتى بيان إدانة قادة مدرسة معاليه غلبوع الدينية لأحداث أم صفا اتسمت بالاعتذارية المفرطة. وهكذا، على سبيل المثال، عندما أعربوا عن مخاوفهم من أن الأحداث الإرهابية قد تخلق "معادلة أخلاقية مشوهة تساوي بيننا وبين أسوأ أعدائنا".

عن العمى: مشكلة بيت هليل

أفضل اختبار لهذا الضعف الجماعي هو تنظيم الحاخامات الرجال والنساء "بيت هليل" - وهي هيئة عريضة توحد أكثر من 170 شخصية توراتية من التيار المعتدل. هذه المنظمة، التي يتمثل هدفها في "رفع صوت اليهودية المعتدلة والمتسامحة والمستنيرة، التي تُمارس بالحُسنى"، نجحت في رفع فن الجلوس على السياج إلى مستوى عالٍ من المهارة، لدرجة يبدو فيها أحياناً أنها تعمل في واقع افتراضي. حاخامات بيت هيلل أدانوا بالفعل الأحداث في "المناطق" (وهم أيضا بصيغة ملتوية جداً، كما هو معتاد في هذا الوسط)؛ لكن من تابع، مثلا، الإعلان الذي نشروه قبل حوالي شهرين، قبل أيام قليلة من "يوم القدس"، لا يسعه إلا أن يتساءل: أين يعيش بالضبط أولئك الذين يقفون وراءه: "يتحمل كل المحتفلين في المدينة مسؤولية ضمان ألا يمتزج الفرح مع الوحشية والعنف وإيذاء الآخرين. هذه هي قوّة الجمهور الذي يحدّد معياراً ويلتزم بالحدود".

 لكن من هو هذا "الآخر" الغامض الذي قد يتأذى؟ لماذا يصعب الاعتراف بما تثبته آلاف الفيديوهات، وما يقوله بعضكم أيضا في الغرف المغلقة، وهو أنه يتم الاحتفال بيوم القدس بفظاظة قومية عنصرية وعنيفة والشخص "الآخر" عربي وأن جمهور "المحتفلين" لم يعد منذ فترة طويلة "يحدّد معياراً ويلتزم بالحدود"؟

من الممكن بالفعل أنه في حالة هيئة مثل بيت هليل، وهي ليست أكثر من "مجموعة شركاء" تتجاذب فيها جهات مختلفة المواقف باستمرار في اتجاهات متعاكسة، لا يمكن توقّع أكثر من ذلك. ومثلها أيضا منظمة "تسوهر"- وهو اسم يكاد يكون مرادفاً للتدين المعتدل، بفضل الإمكانيات التي توفرها في مجالات الزواج ومعايير الحلال. ويُظهر استعراض برنامج مؤتمرها الصيفي القادم أنه لا يمكن، برأيها، توفّر بحث مفاهيمي وحوار ديني- مدني في إسرائيل إلا بين اليمين المعتدل واليمين الأقل اعتدالاً. من لا يفعل.

لكن، أحياناً، عمى القيادة الدينية المعتدلة يصرخ إلى السماء، أيضا عندما يتجسد في كلام شخص واحد. هاكم مثلا العمود الصحافي المؤثر لأحد قادة مدرسة هار عتصيون، الحاخام يعقوب مدان، الذي نُشر على موقع Ynet بعد البوغروم في أم صفا: تقول للوهلة الأولى، هل هناك أفضل من رجل يميني واضح يجنّد صلاحيته التوراتية لإدانة عنف المستوطنين بحدّة؟ ومع ذلك، حتى لو تجاهلنا المقارنة المشينة التي أجراها الحاخام مدان في نهاية حديثه بين تصرفات المستوطنين وبين المظاهرات الاحتجاجية ضد الانقلاب، والتي يقول إنها تعامَل بقفازات من الحرير (ليس صحيحاً؛ الحاخام مدعو لسماع شهادات لا حصر لها عن عنف الشرطة، وما لا يقلّ خطورة عن ذلك، شهادات عن الشرطة التي تغض الطرف عن عنف أتباع بيبي نتنياهو في هذه المظاهرات) – حتى لو تجاهلنا ذلك فلا يمكن سوى التساؤل عن دفاعه المستهجن عن عدة متظاهرين- ليس مقترفي البوغروم، بل أولئك الذين اضطروا إلى التظاهر، حسب قوله، "بعد أن بات الطريق الوحيد الذي يربطهم بأي مكان آخر، الأكسجين الذي يستنشقونه، مغلقاً لساعات بسبب إرهاب الحجارة، وليس للمرة الأولى".

مع كل الاحترام والتقدير، وحتى الأسى الحقيقي لإرهاب الحجارة المشين، فإنني أتساءل كيف كان الحاخام مدان سيردّ على احتجاجات السكان العرب في يهودا والسامرة، الذين يحرمون من حريتهم في التنقل بشتى الطرق بشكل يومي تقريباً، من أجل السماح بوجود مستوطنات تنعم بالراحة والطمأنينة مثل ألون شافوت. لا يسع المرء إلا أن يخمن كيف كان سيرد الجيش وحرس الحدود على مثل هذه المظاهرات. بالطبع، من حق كل شخص أن يتبنى وجهة نظر يمينية وأن يؤمن بأهمية مشروع الاستيطان - وهو مشروع منوط، في نظري، بخطيئة دينية وأخلاقية؛ ولكن حتى اليمين النزيه لا يمكنه ألاّ يسأل نفسه عن الأثمان التي يدفعها السكان الفلسطينيون في مقابل هذا المشروع.

أتيح بعض العزاء، تبارك الرب، بعد أيام قليلة، مع نشر رسالة الحاخام موشيه ليختنشتاين، زميل الحاخام مدان في رئاسة مدرسة هار عتصيون، والتي كانت أكثر حدّة ووضوحاً وأكثر وحزماً- ربما ليس صدفة. لكن حتى هذا العزاء الضئيل تلاشى عندما اتضح، كما كان متوقعا، أن جميع المعقبين كانوا من "المشبوهين المعتادين" المتوقعين. إذ أن أحداً من حاخامات الجناح الأكثر محافظةً، الذي على يمين بيت هليل ويقود معظم المدارس الدينية والكليات التحضيرية العسكرية، لم يكلّف نفسه عناء إدانة الأحداث بفم ملآن. بل إن بعضهم، ويا للرعب، عبروا عن موافقة متسامحة وضمنية مع المعتدين (خسارة على كل كلمة يمكن أن تُقال عن صحافيين متدينين يطبّعون الإرهاب مثل كالمان ليبسكيند وأمثاله).

رحلتي الخاصة

قبل ستة أشهر خرجت في رحلة خاصة وعفوية للغاية. في صباح الثاني من تشرين الثاني، غداة الانتخابات، استبدلت قلنسوتي المنسوجة بقبعة، وفي ساعات بعد الظهر وجدت نفسي أتظاهر، لأول مرة منذ 23 عاماً. وقفت وحدي أمام منزل الحاخام دروكمان الذي وافته المنية بعد أسابيع قليلة. ربما كانت هذه أول مظاهرة ضد الحكومة الحالية وكل ما تمثله. اخترت التظاهر أمام بيت الحاخام دروكمان، ليس فقط لأنه قبل فترة قصيرة عقد هناك اجتماعاً احتفالياً مع أعضاء الكنيست الجدد من حزب أنصار الإرهاب اليهودي، بل لأن شخصيته ترمز في نظري إلى الانهيار الأخلاقي والديني للمجتمع الديني- القومي. ففي خاتمة المطاف، منذ ولايته كعضو في الكنيست خلال فترة مئير كهانا، وعلاوة على ذلك من خلال دعمه للعناصر الأكثر تطرفا في المجتمع الديني في السنوات الأخيرة، لم يكن هناك أي شخص قد شرعن المحرّم أكثر منه.

بعد ثلاثة أسابيع، نشرت مقالاً في صحيفة "سروغيم" تضمن دعوة أولى لتمرد ديني ليبرالي (بالمعنى السياسي للكلمة)، ووجه أصابع الاتهام للقيادة التوراتية المعتدلة. لدهشتي، حظي المقال بانتشار فاق ما كان متوقعاً، وتمت ترجمته إلى الإنكليزية ووصل إلى الجاليات اليهودية في الخارج. وفي الأسابيع التالية وجدت نفسي أتظاهر مرة بعد الأخرى في تل أبيب والقدس وبئر السبع. في الوقت نفسه، بادرت، مع صديق، إلى صياغة الرسالة الأولى لحاخامات رجال ونساء ضد الانقلاب على الحكم.

بعد بضعة أشهر، قبل أيام قليلة من إقالة وزير الدفاع يوآف غالانت، قمت بتأسيس مجلة على الإنترنت بعنوان "يشار" (مستقيم) من أجل توراة مع فضيلة، وهي مجلة تهدف، كما كتبنا في البيان التأسيسي، إلى أن تكون "منصة لخطاب ديني ملتزم وواضح ولائق ومستقيم الدرب؛ خطاب ديني لا يتردّد ولو للحظة في إعلان ارتباطه العميق، العميق منذ البدء، بالديمقراطية وحقوق الإنسان والأخلاق الطبيعية والعلم والتفكير النقدي والرؤية الليبرالية"- باختصار، بكل تلك القيم التي تواصل الصهيونية الدينية التخلي عنها.

طوال هذه الفترة، تلقيت العديد من التوجهات المباشرة وغير المباشرة من حاخامات رجال ونساء من الجناح الليبرالي نسبياً في الصهيونية الدينية. من حيث الجوهر، كانت صيغة هذه التوجهات متجانسة تقريباً: "أنا أتفق مع كلماتك، أو على الأقل مع معظمها، ولكن ...". كان التحفظ الأكثر شيوعاً يقوم على رغبة هذه الشخصيات في التصرف بطريقة أكثر "إيجابية"، لإضفاء النور وليس سكب الإدانة و "تلطيف" الموقف وعدم جعله يتفاقم. بناء عليه، ويؤسفني ذلك، أساتذتي وسادتي: ليس هناك حد لتقديري لعملكم وللشجاعة التي أظهرتموها في الماضي؛ لكن الوقت انقضى، ولم يتبق شيء للتلطيف. نتائج طريقكم الإيجابية على مرأى من الجميع الآن. التجربة فشلت وليس هناك تحمل للمسؤولية. أفكرعلى سبيل المثال، في قائد مدرسة دينية معروف من وسط البلاد، لم يتردد في الماضي في التعبير عن مواقف خارج الإجماع، أما في نصف العام الأخير فقد كان يملأ فمه بالماء (لحسن الحظ، أن كلماته وصلت مسامع الجمهور في تسجيل تم تسريبه إلى القناة السابعة). صحيح أنه ليس هناك ما يضمن أن النقد سيغير العالم، ولكنه على الأقل سيعرّف حدوداً، ولن يترك الساحة فقط للأصوات المنبعثة باستمرار من شخصيات أخرى.

قلب الأسطوانة: ثورة لا إصلاح

بودي الادعاء أن هذه العدميّة القيادية لا تعكس خوفاً فحسب، بل تعكس أيضا لحظة تاريخية نفدت فيها، وبكل بساطة، الكلمات: العملية الملتوية التي سمحت للعديد من الأشخاص بأن يكونوا حتى الآن صهاينة متدينين وأن يعبّروا عن أصوات نقدية، لم يعد بإمكانهم تحمل العبء. هذه لحظة تاريخية يتضح فيها أن الوضع الراهن ليس مجرد خطأ، ولكنه خاصيّة، ميزة، وأنه لا توجد أية صدفة فيما وصلنا إليه.

لا يُقال النقد بصوت عالٍ، وإنما همساً ويتم تمريره عبر البريد الإلكتروني أو مراسلات واتساب أصبحت متواترة أكثر. تُسمع من شخصيات عامة ومربين وحاخامات - من اليمين واليسار على حد سواء. لأن كل شخص متدين محترم، يتمتع بنزاهة فكرية معقولة، لا يسعه إلا أن يتساءل: هل فعلاً لا توجد علاقة، كما اعتدنا التفكير، بين المركز العقلاني وبين الأطراف المنفلتة، ألا توجد علاقة فعلاً بين المكانة المفرطة وغير المسبوقة التي تُمنح للوعي القومي في التفكير الديني المعاصر، وبين اندلاعات القومجية العنيفة بين الشباب في القطاع الديني؟ ألا توجد علاقة بين الادعاءات بقدسية الدولة ومؤسساتها وبين نمو الفاشية الدينية؟ ألا توجد علاقة فعلاً بين الإعجاب المُفرط بالنزعة العسكرية وبين أفول القيم الإنسانية؟ ألا توجد علاقة فعلاً بين الحديث عن تميّز إسرائيل وبين معاملة الأغراب في وسطها؟ ألا توجد علاقة فعلاً بين التربيت الذاتي اللانهائي على الكتف وبين الغطرسة السياسية التي لا تعرف حدوداً؟ وحتى، وغني عن القول، ألا توجد فعلا علاقة بين مستوطنة إفرات البرجوازية، وبين عطيرت الأقل البرجوازية، وكفار تبوح الكهانيّة؟

هذه التساؤلات العامة هي مجرد أمثلة، ولديها أيضا جوانب أكثر واقعية: التخلي عن جهاز التعليم الديني لصالح سيطرة العناصر الحريدية- القومية، الخواء التوراتي الذي يميّز قطاعات كبيرة من الجمهور الديني، القلق اللامحدود بشأن ترك الشباب الدين - قلق يؤدي إلى حلول سطحية - المحدودية الفكرية والعلمية التي تتفشى في كل مكان، فقر وبؤس الثقافة العامة في هذا القطاع، غياب التفكير النقدي والوعي التاريخي بحده الأدنى، والوزن الذي باتت تحظى به رؤية الحاخام كوك الإشكالية في بلورة الهوية الصهيونية الدينية، وغير ذلك.

إن الخلاصة المستنتجة من كل هذا هي أنه حان الوقت للتوقف عن محاولة إصلاح المعسكر. يجب بناء معسكر جديد. يجب الإعلان بجرأة أن المشروع الصهيوني-الديني يجب أن ينهي دوره، لأنه فشل وليس بالصدفة في كبح الطفرة الوحشية التي نمت منه. لأنه وليس سواه - بما في ذلك "بيت هليل" و "تسوهر" – قد قذف بنا وبالتوراة إلى غياهب لم نعتقد أننا سنصل إليها.

يمكن صياغة هذا الاستنتاج بشكل معتدل وبشكل راديكالي. ستختار النسخة المعتدلة البقاء ضمن حدود المعسكر، لكنها ستعمل على تغيير محور الخطاب: من رد فعل على أحداث عينية، إلى نقد معمق وصريح لجذور الهوية الصهيونية- الدينية، وإلى اقتراح هويات بديلة؛ وليتها تكون مفيدة. من المواقع الجيدة للبدء بها، القومية والصهيونية، كل منهما بمثابة شيطان خرج من القمقم، ويجدر وضعه في حجمه (حول هذه النقطة، على سبيل المثال، لدي جدال مع الحاخام بيني لاو، الذي يبدو أنه لا يزال يصر على تجاوز كلا النقطتين: وضع التدين المعاصر على ركائز الصهيونية الوطنية، وكذلك التحدث بصوت كوني). إنني بانتظار الحاخامات الذين سيظهرون ما يكفي من الشجاعة ليقولوا علانية إنه حتى لو كان هذا الوعي القومي والصهيوني أو ذاك ينبض فيهم، فإنه لا يعرّف هويتهم الدينية.

النسخة الراديكالية، وهي الأقرب إلى قلبي، ستعمل في مسار مختلف، والذي ما يزال من الصعب تخيله من الناحية العملية، لكن رؤيته واضحة: من أجل النجاح، يجب بناء هذا المعسكر الجديد من الألف إلى الياء. يجب أن يتميّز بكل طريقة - في مسمياته، في علامات تعريفه الخارجية، في مؤسساته - عن المعسكر القديم؛ يجب عليه أن يؤسس نظاماً تعليمياً منفصلاً، من روضة الأطفال حتى المدرسة الدينية؛ وفوق كل شيء، يجب أن يتوقف عن الخوف (وبالنسبة لمن يتساءلون عما إذا كنت أعتقد أن الانفصال إلى معسكرين هو في الواقع الحل المستقبلي للمجتمع الإسرائيلي ككل، سأجيب بالإيجاب؛ ولكن هذا يحتاج بحثاً منفصلاً).

من أجل أبنائنا ومن أجل توراتنا، يجب أن نعلن ونقول دون تردد: لم يعد لدينا أي حصة في الصهيونية الدينية. من يواصل مناقشة الموضوع مدعوّ لقراءة القصيدة التي افتتحت مقالي بها، ببطء مرة أخرى؛ انتهى الأمر، وفي شكله الحالي لا جدوى من استمرار وجوده. وكل من يخشى نذكره بأن الصهيونية الدينية تاريخيا هي حركة شابة ولدت بالأمس فقط. لن تحدث كارثة إذا وصلت إلى النهاية. بل على العكس - الكارثة تكمن في استمرار وجودها. هناك العديد من الطرق الأخرى، أكثر جمالاً وجدارة، لنمط حياة يهودية في الالتزام بالتعاليم ومخافة السماء. قبل لحظة من انزلاقنا جميعاً إلى هاوية لا سبيل للعودة إليها، يجب أن يقف هذا المعسكر الجديد بشموخ ويقدم بديلاً قوياً وحازماً للقديم: يجب عليه أن يقترح حياة دينية كاملة - ومختلفة.

(*) د. إيتاي مارينبيرغ- ميليكوفسكي: خريج مدرسة الكيبوتس المتدين عين تسوريم، محاضر في قسم الأدب العبري في جامعة بن غوريون في النقب. ترجمة خاصة، نقلاً عن موقع "تيلم: منبر لحوار سياسي مغاير".

المشهد الإسرائيلي

أحدث المقالات