المشهد الإسرائيلي

ملحق أسبوعي يتضمن مقالات صحفية وتحليلات نقدية ومتابعات عن كثب لمستجدات المشهد الإسرائيلي.

اختتم الكنيست الإسرائيلي في الأسبوع الماضي دورته الشتوية الأولى بعد انتخابات مطلع تشرين الثاني 2022، التي أظهرت تماسكا للائتلاف الجديد الحاكم، إلا أن العاصفة جاءت من الميدان، وبمستوى لم تشهده إسرائيل بهذا المستوى من قبل، مع الأخذ بالحسبان الدوافع التي حرّكت الشارع، إذ أن نزول مئات الآلاف إلى الشوارع، على مدى أيام، وأحيانا بسرعة تعد فائقة، وحتى اندفاعية، هو مشهد لم تعرفه إسرائيل من قبل، نجح حتى الآن في لجم الأزمة التي خلقتها حكومة بنيامين نتنياهو لضرب جهاز القضاء؛ لكن كما يبدو فإن هذا ليس أكثر من تأجيل لبضعة أشهر لأزمة قد تشتد في المرحلة المقبلة، في حين لم يتوقع نتنياهو أن يخترق هيجان الشارع صفوف حزب الليكود، ولو بهذا القدر المحدود، ولكن هذا دلّ على نواة تململ من نهجه، بعد أن باتت قبضته على الحزب أشد من أي وقت مضى.

فقد اعتقد نتنياهو مع صدور النتائج شبه النهائية، أن مهمة تشكيل الحكومة لن تحتاج منه لأكثر من أسبوع، إلا أنه اصطدم بعملية ابتزاز شديدة من كل شركائه في الائتلاف، رغم أنه ليس لديهم بديل آخر لهذه الحكومة، تماما كما هي حال حزب الليكود، الذي بسبب رئاسة نتنياهو للحزب، لم يبق لديه خيار آخر سوى هذا الفريق. وامتدت المفاوضات، كما هو معروف، شهرين كاملين، وحصلت الحكومة على ثقة الائتلاف في 29 كانون الأول الماضي.

وانطلق الائتلاف في مهمة تنفيذ سلسلة من البنود الأساسية التي سعى لها، من أجل خلق قاعدة قانونية، تتيح له تنفيذ سياسات متعددة، على الصعيد السياسي العام، وخاصة الاحتلال والتعامل مع المناطق المحتلة منذ العام 1967، ولكن أيضا سياسات لقلب موازين حساسة تضمن استقرار نظام الحكم الإسرائيلي، بين أطراف الائتلاف والمعارضة.

وطال الأمر ما كان يُعد مسلّمات في الحكم الإسرائيلي على مدى 75 عاما، وهو خصوصية الجيش والأجهزة الأمنية وتطبيق القانون، وبشكل خاص ضرب جهاز القضاء وصلاحيات المحكمة العليا، بادعاء اليمين الاستيطاني المتطرف أنها اتخذت لنفسها صلاحيات استثنائية، على حساب الجهاز السياسي.

أثارت هذه التحركات السريعة في الكنيست والحكومة، لقلب أدوات اللعبة السياسية، حفيظة الأجهزة العسكرية والأمنية بما فيها الشرطة، وبطبيعة الحال جهاز القضاء، ووصل الأمر إلى مراكز الاقتصاد الحساسة، ومؤسسات اقتصادية رسمية، وكل هذا ساعد على تحريك الشارع بموجات غضب، سجلت ذروتها في الأسبوع الماضي، حتى اضطر نتنياهو للإعلان عن تجميد مسار التغييرات القضائية، ولكن بموازاة ذلك بدأ استنفار أنصار الحكومة في الشارع، وبشكل خاص من جمهور المستوطنين وداعميهم في الشارع الإسرائيلي.

وتقريبا هناك حالة من شبه الإجماع على أن ما جرى هو تجميد وتأجيل للأزمة، التي ستنشب من جديد في الدورة الصيفية المقبلة، نظرا للفوارق الكبيرة في مواقف المعارضة الصهيونية والائتلاف الحاكم.

لكن ما لم يحسب له نتنياهو حسابا، هو أن هيجان الشارع الإسرائيلي ضد إجراءات الحكومة وصلت إلى أطراف حزب الليكود، وهذا لا يعني أن أزمة جدية بدأت تضرب بالحزب، لكن نتنياهو اعتاد، على الأقل في السنوات العشر الأخيرة، على حالة سكون في الحزب، وأنه هو الآمر الناهي، صاحب القرار الأول والأخير. فقد أظهرت مسارعة نتنياهو وعدد من وزرائه لإتمام عدد من التشريعات التي تسحب صلاحيات من المحكمة العليا، رغم الضجة في الشارع، وجود اعتراضات بين عدد محدود من وزراء ونواب الليكود، لكن ليست كلها قائمة على أساس رفض مبدئي، وإنما أيضا تدخل في إطار الحسابات الشخصية مع نتنياهو.

وكانت القضية الأبرز، اعتراض وزير الدفاع يوآف غالانت، على الإسراع في عملية التشريع، داعيا إلى حوار مع المعارضة، مع تأييده لإجراء تعديلات في جهاز القضاء، وموقف غالانت متصل باعتراضات في قيادة الجيش الحالية، وأيضا في صفوف أبرز جنرالات الاحتياط، وقادة جيش سابقين. وأدت مجاهرة غالانت بالموقف، إلى إعلان نتنياهو قراره بإقالة غالانت من منصبه، لكن حتى مطلع الأسبوع لم يصدر رسالة رسمية بهذا الشأن.

في المقابل، برز من بين المعترضين الرئيس الأسبق للكنيست يولي إدلشتاين، ويتولى حاليا رئاسة لجنة الأمن والخارجية البرلمانية، بعد أن استبعده نتنياهو من التشكيلة الوزارية، لأنه أعلن في نهاية العام 2021 نيته المنافسة على رئاسة الليكود، ولم يشفع له تراجعه عند نتنياهو. فهذا الموقف من إدلشتاين لا يمكن اعتباره مبدئيا، إذ أنه هو بنفسه اعترض على قرار المحكمة العليا في العام 2020، الذي ألزمه بالدعوة لعقد جلسة للهيئة العامة للكنيست، لإجراء انتخابات لرئاسة الكنيست، وفضّل الاستقالة من منصبه بعد أيام، على أن يعقد مثل هذه الجلسة. وقد هوجم إدلشتاين من حينه من جهات متعددة، وهو بدوره هاجم تدخل المحكمة العليا بشؤون الكنيست.

وهذه عينات لشكل المعارضة داخل الليكود، ففي مرحلة ما ظهر وكأن هناك ما بين 4 إلى 5 نواب في الليكود، بضمنهم وزراء، في حالة تمرد على نتنياهو، لكن هذا تلاشى لاحقا مع قرار نتنياهو ترحيل عملية التشريع إلى الدورة الصيفية المقبلة، بمعنى تأجيل الأزمة. 

ورغم ضُعف المعارضة لنتنياهو في الليكود، إلا أنها تبقى مؤشرا مع احتمال اتساعها لاحقا، وهذا ليس مضمونا تماماً.

التحدي الأكبر أمام نتنياهو في المرحلة المقبلة هي محاكمته، ففي هذا الشهر، نيسان، يكون قد مرّ عامان، على بدء إفادات شهود الادعاء ضد نتنياهو في واحدة من القضايا الثلاث التي يواجهها، وحسب التقارير، فإنه حتى الآن تم الاستماع إلى عدد قليل من قائمة الشهود في هذه القضية، ما يؤكد مجددا أنها لن تنتهي في الوقت القريب، وفي حال استمرت في مسارها العادي، فإن خط النهاية قد يتجاوز الولاية البرلمانية الحالية، التي تنتهي قانونيا، في نهاية تشرين الأول 2026.

في الأيام الأخيرة، ظهرت تقارير صحافية تتحدث عن فحص مسار صفقة بين النيابة والدفاع في ملف 4000، وهي القضية الأخطر على نتنياهو، لكن مثل هذه الأنباء ظهرت في الماضي، ومن الصعب رؤية صفقة كهذه، إذ أن نتنياهو يريد أن يخرج من هذا الملف كما في الملفين الآخرين، من دون أي حكم يؤثر على استمرار حياته السياسية، إلا في حالة واحدة، وهي أنه يكون مع طاقم محاميه على قناعة بأن الخط النهائي للمحاكمة سيدخله السجن لفترة ما، حينها قد يكون مستعدا للخروج من الحياة السياسية، بدلا من جلوسه في السجن، ولكن كل هذه ما زالت سيناريوهات مبكرة جدا.

معارضة ليست موحدّة

ثمة أمام الائتلاف الحاكم 6 كتل معارضة، تضم 56 نائبا، ولكنها ليست متماسكة، وبينها خلافات جوهرية، من بينهم 42 نائبا في الكتل الثلاث: "يوجد مستقبل" برئاسة يائير لبيد، ولها 24 نائبا، و"المعسكر الرسمي" برئاسة بيني غانتس، ولها 12 نائبا، و"إسرائيل بيتنا" بزعامة أفيغدور ليبرمان، ولها 6 نواب، وهي كتل في إطار اليمين، وبينهم نواب هم من داخل معسكر اليمين الاستيطاني، في كل ما يتعلق بالموقف من احتلال العام 1967 والاستيطان، وأيضا في الموقف من الفلسطينيين في إسرائيل، وهم شركاء في طرح مشاريع قوانين فيها تقييد لحرية التعبير والعمل السياسي، والمشاركة في الانتخابات البرلمانية. وحتى في مجال مخطط الائتلاف لضرب جهاز القضاء، والانتقاص من صلاحيات المحكمة العليا، فهذه أيضا مواقف يتستر عليها عدد من نواب المعارضة، مثل فريق النائب جدعون ساعر، رئيس حزب "أمل جديد" المنشق عن الليكود، وهو شريك في كتلة "المعسكر الرسمي"، وأيضا حزب "إسرائيل بيتنا". وبشكل خاص ساعر ذاته الذي كان شريكا حتى وقت قريب في المبادرة لما تسمى "فقرة التغلب"، في قانون المحكمة العليا، التي يريدها الائتلاف، وهي عمليا تجعل البت النهائي للكنيست في كل قانون تنقضه المحكمة العليا. وساعر أيضا، مثل زميله في المعارضة ليبرمان، كان من أول المبادرين لسحب صلاحية المحكمة العليا في نقض قرارات لجنة الانتخابات المركزية بشأن منع الترشح للانتخابات، رغم أنها لجنة قائمة على أساس حزبي، والمستهدف من هذه المبادرة، هو العرب في إسرائيل.

كذلك هناك كتلة العمل التي لها 4 نواب، وتظهر عليها حالة التخبط في الموقف السياسي، بكونها شريكة في تحالف المعارضة، في حين أن كتلة "القائمة العربية الموحدة"، ولها 5 نواب، هي أيضا صوتها خافت، إذ يسعى رئيسها منصور عباس، للحفاظ على العلاقة مع شركائه في الحكومة السابقة.

وتبقى الكتلة الأخيرة، "الجبهة الديمقراطية والعربية للتغيير"، ولها 5 نواب، معارضة كليا للحكومة، كما هو موقفها من الحكومة السابقة، لذا اختار قادة كتل المعارضة الأخرى استثناءها، ورفض التنسيق معها ككتلة معارضة في مواجهة الائتلاف.

وهذا المشهد البرلماني يجعل نتنياهو أكثر اطمئنانا، لانعدام أي احتمال لإحداث انقلاب عليه في الولاية البرلمانية الحالية، وتشكيل حكومة بديلة. فهناك من يلوّح من حين إلى آخر بأن نتنياهو قد ينقلب هو شخصيا على بعض شركائه، خاصة كتلتي التيار الديني الصهيوني، ليضم كتلة "المعسكر الرسمي"، لكن هذا سيناريو ليس واقعيا، على الأقل في المدى المنظور، لأن نتنياهو معني باستكمال مخطط ضرب جهاز القضاء، ويريد ضمان قوانين تساعده في وضعيته القضائية أمام المحاكمة التي يواجهها في قضايا الفساد. 

الدورة الصيفية مفصلية لتوجهات الائتلاف

تفتتح الهيئة العامة للكنيست دورتها الصيفية، في الأول من أيار المقبل، ومن المفترض أن تستمر الدورة 12 أسبوعا، إلا أنها ستعج بالقضايا المركزية والأحداث، وقد نشهد حالات صدام بين أطراف الائتلاف، على ضوء القضايا المركزية المطروحة على جدول الأعمال.

فقد عمل رئيس الحكومة بنيامين نتنياهو، كما ذكر، على ترحيل أزمة تشريعات الانقلاب على الجهاز القضائي للدورة الصيفية، تحت يافطة إجراء حوار بين الائتلاف والمعارضة، مع العلم أن الفجوات بين الجانبين تبدو كبيرة، إذ أن أطراف الائتلاف وأولهم نتنياهو شخصيا، لديهم طموح بسقف عال جدا، لنزع صلاحيات المحكمة العليا، وأيضا أن يكون تعيين القضاة بيد الجهاز السياسي، بمعنى بيد الائتلاف الحاكم، من خلال تعديل القانون القائم، الذي يمنح الائتلاف الحاكم أغلبية مطلقة في لجنة تعيين القضاة، في حين أنه في الوضع القائم هناك توازنات بين الحكومة والكنيست وجهاز القضاء، ممثلا بالمحكمة العليا ونقابة المحامين.

ولهذا، ليس واضحا ما إذا سيكون بقدرة الحوار الذي يجري تحت مظلة الرئيس الإسرائيلي إسحق هرتسوغ أن يفضي إلى حلول وسط، تسمح بتمرير تعديلات قانونية، وفي حال لم يتم التوصل إلى حلول كهذه، فإن أطراف الائتلاف من المفترض أن تضغط لإنجاز مخططها مع انتهاء الدورة الصيفية في نهاية تموز المقبل. خاصة وأن تعديل قانون لجنة تعيين القضاة يجب أن يكون ناجزا حتى منتصف حزيران المقبل، بحسب قرار التمديد الذي أقره الكنيست في شهر كانون الثاني الماضي.

الملف الثاني والمركزي هو إقرار الميزانية العامة، للعامين الجاري 2023 والمقبل 2024، بعد أن أقر الكنيست الميزانيتين بالقراءة الأولى، في الأسبوع الأخير للدورة الشتوية. وليس من المفروض أن تكون مشكلة بين أطراف الائتلاف لتمرير الميزانية، لكن إذا عدنا إلى اتفاقيات الائتلاف الحاكم، فهناك بعض بنود الاتفاقيات التي قضت بأن يتم إنجازها بالتوازي مع إقرار الموازنة العامة للعام الجاري. ومنها قوانين حساسة، مثل تسهيل فرض عقوبة الإعدام على المقاومين الفلسطينيين، وهو القانون الذي يرفضه الجهاز المهني في وزارة العدل، ومعه أيضا قادة أجهزة أمنية واستخباراتية، إذ أنه تم تمرير القانون بالقراءة التمهيدية في مطلع آذار الماضي، على أن يعود للبحث به في الطاقم الوزاري المقلص للشؤون الأمنية والسياسية. 

في كل الأحوال، ووفق المشهد القائم، فمن الصعب رؤية الائتلاف الحاكم ينهار أمام أي من الأزمات التي قد تواجهه في الأشهر المقبلة، إذ أن جميع أطراف الائتلاف على قناعة تامة بأنها موجودة في الائتلاف والتشكيلة الحكومية الأفضل لكل طرف منها.

المشهد الإسرائيلي

أحدث المقالات