المشهد الإسرائيلي

ملحق أسبوعي يتضمن مقالات صحفية وتحليلات نقدية ومتابعات عن كثب لمستجدات المشهد الإسرائيلي.
  • تقارير، وثائق، تغطيات خاصة
  • 1604
  • وليد حباس

في ليلة الأحد 26 شباط 2023، هاجم 300-400 مستوطن بلدة حوارة في الضفة الغربية. وكان لدى المستوطنين متسع كبير من الوقت للقيام بأعمال البلطجة والحرق والتكسير قبل أن تصل قوات من الجيش الإسرائيلي في وقت متأخر جدا لتفريقهم. استدعى هذا الحدث إعادة النظر في العلاقة بين الجيش والمستوطنين والتساؤل عن مدى انصياع الجيش لرغبات وأجندات المستوطنين أو مساعدتهم في هجماتهم على الفلسطينيين بشكل غير مباشر. بحسب البروفسور يغيل ليفي، فإن المستوطنين في الضفة الغربية والجيش الإسرائيلي العامل في الضفة الغربية متداخلان بشكل معقد بحيث أن الجيش يأتمر "وظيفيا" من قبل هيئة الأركان، لكن التنفيذ "العملي" يخضع بشكل كبير للمستوطنين.

تستند هذه المقالة إلى أبحاث ليفي، وتشرح بالتفصيل طبيعة هذا التداخل الذي قلما تم شرحه بالملموس.

بالإضافة إلى الإدارة المدنية التي تعنى بكل الشؤون المدنية والحياتية داخل الضفة الغربية، بما يشمل حياة المستوطنين، فإن هناك أجهزة أمنية تعمل أيضا في الضفة الغربية، أهمها الجيش الإسرائيلي والمخابرات الإسرائيلية. بدون وجود مستوطنين إسرائيليين، فإن "الأمن" في الضفة الغربية كان سيبقى في أيدي الجيش الإسرائيلي (وبالتحديد قائد المنطقة الوسطى) على اعتبار أن الجيش هو الحاكم العسكري الأعلى للأرض المحتلة. بيد أن الاستيطان في الضفة الغربية، والازدياد المتسارع في عدد المستوطنين (وصل إلى أعلى من 500 ألف بدون القدس)، أدى إلى "جرّ" الجيش الإسرائيلي إلى تكوين جهازين منفصلين لفرض الأمن في الضفة الغربية. من جهة، هناك الجيش النظامي (قيادة المنطقة الوسطى) بكل جنودها وأذرعها، وهي قيادة تتبع بشكل مباشر الى هيئة الأركان العامة، وتعمل وفق المنطق العسكري المعياري وتنفذ سياسات الحكومة الإسرائيلية. ومن جهة ثانية، هناك "الجيش الشرطي" وهو لفظ يعبر عن عدة أجهزة أمنية تعمل بشكل مواز، منفرد لكنه متكامل، داخل الضفة الغربية. 

والجيش الشرطي يضم عدة أجهزة هي:

  1. الشرطة الإسرائيلية والتي تشمل أيضا حرس الحدود، وهي مسؤولة عن فرض "الأمن والنظام" داخل الضفة الغربية (تحديدا في الأراضي "ج"). 
  1. قوات الحماية المسؤولة عن محيط المستوطنات. وهي قوات موجودة على مستوى المستوطنة، أو المجلس الاستيطاني، وقد تطورت صلاحياتها تدريجيا. هذه القوات لا تتبع مباشرة الى الجيش، وإنما الى مجلس المستوطنة وهدفها هو حماية أمن المستوطنين في محيط كل مستوطنة. 
  1. لواء كفير، وهو لواء في الجيش الإسرائيلي يعمل بشكل ثابت داخل الضفة الغربية ويضم ست كتائب: كتيبة نحشون (مسؤولة عن منطقة قلقيلية وطولكرم)، كتيبة شمشون (مسؤولة عن منطقة غوش عتصيون)، كتيبة حروف (مسؤولة عن منطقة نابلس)، كتيبة دوخيفت (مسؤولة عن منطقة رام الله)، كتيبة لافي (مسؤولة عن منطقة جبل الخليل)، وكتيبة نيتساح يهودا (مسؤولة عن منطقة شمال الضفة ومدينة جنين). بيد أن الكتائب الست بدأت منذ سنوات بالتحرك والعمل في مناطق مختلفة داخل الضفة. فمثلا، كتيبة نيتساح يهودا تعمل حاليا في منطقة رام الله ومحيطها. ولواء كفير، هو لواء كبير لديه جيش نظامي واحتياطي، وقواعد عسكرية خاصة به.

قام البروفسور يغال ليفي، من جامعة إسرائيل المفتوحة، بشرح منطق عمل لواء كفير. نظريا، كما يقول، يتبع اللواء الى قيادة الجيش، وهيئة الأركان. ولكن عمليا، الأمور أكثر تعقيدا على اعتبار أن هناك مصفوفة علاقات متداخلة بين اللواء والمستوطنين بحيث أن تأثير المستوطنين أكبر بكثير من تأثير هيئة الأركان. وللتوضيح، قدرة المستوطنين على التأثير تنبع من:  

  • التداخل الجغرافي، بحيث أن معظم قواعد اللواء منتشرة إما داخل المستوطنات أو في محيطها، وبالتالي يقوم الجنود والضباط بالتفاعل اليومي مع المستوطنين، يشترون من محالهم، يسهرون معهم، يتناولون وجبات السبت في بيوتهم، ويحتفلون بمناسباتهم. هذا الأمر يجعل من الصعب على لواء كفير أن يفرض أمرا عسكريا ضد المستوطنين.
  • سيولة في الحدود الوظيفية، بحيث تتداخل هيئات عسكرية تابعة للمستوطنين مع لواء كفير. أحد الأمثلة على ذلك هو ما يسمى "صف الجهوزية الاستيطاني"، وهو عبارة عن مجموعة عسكرية مكونة من سكان كل مستوطنة، وتتبع وظيفيا الى الجيش (أي تتقاطع وظيفيا مع لواء كفير). الهدف من إقامة "صف الجهوزية الاستيطاني"، هو توفير خلايا عسكرية شبه نظامية تتولى القيام بأعمال الجيش في الفترة الزمنية التي تقع بين حصول "حدث أمني" في محيط المستوطنة ووصول قوات الجيش النظامي. بمعنى أن الجيش الإسرائيلي الذي لا يستطيع أن يتواجد في كل مستوطنة بشكل ثابت ودائم قام بتوكيل المستوطنين داخل كل مستوطنة بتشكيل جيش مصغر خاص بهم ينوب عنه إلى حين وصوله إلى المكان. 
  • تداخل اجتماعي، بحيث أن معظم جنود وضباط لواء كفير العاملين داخل الضفة الغربية هم خريجو مدارس المستوطنات العسكرية، مثل "مدارس تحضير الجيش"، أو أنهم انضموا إلى الجيش بعد حملات تجنيد قامت بها المستوطنات لرفد الجيش بجنود من مجتمع المستوطنين. 

وكما قال الحاخام أفيحاي رونسكي، وهو الحاخام الرئيس للجيش بين 2006-2010، فإن إخلاء المستوطنات من قبل الجيش هو أمر غير عملي وغير قابل للتطبيق. والسبب هو أن كتائب الجيش العاملة في الضفة الغربية "مشبعة" بآلاف الضباط والجنود المستوطنين بالأصل، والتابعين لتيار الصهيونية الدينية، وهم يسكنون في المستوطنات أو لديهم أقارب في المستوطنات. إن اقوال رونسكي باتت أكثر قبولاً على الخطاب الرسمي الإسرائيلي سيما وأن أشكال "رفض الانصياع" للأوامر المتعلقة بهدم مشروع الاستيطان (مثل إخلاء بؤرة أو تنفيذ انسحاب) تم تداولها بشكل مكثف في أعقاب الانسحاب من قطاع غرة عام 2005. بل إن الأصوات المتنامية داخل المستوطنين والتي تدفع في اتجاه رفض الانصياع للأوامر باتت تعبر عن رأي مقبول من حيث قيمته وحضوره وليس صوتا شاذا يتنافى مع العقيدة العسكرية المقدسة. في هذا السياق، لا بد من التنويه بأمرين: من جهة، جنود وضباط الجيش الإسرائيلي المتدينون ذوو الأصول الاستيطانية ينظرون إلى الفلسطينيين من خلال تفسير متطرف للرواية التوراتية بحيث أن الصراع بين الفلسطيني والإسرائيلي بأعينهم ليس صراعا سياسيا إنما صراع بين "الخير المطلق" (اليهودي) و"الشر المطلق" (الفلسطيني المارق على أرض إسرائيل). من جهة ثانية، فإن الجنود والضباط العلمانيين، والذي لا تربطهم علاقات مباشرة بالمستوطنين، هم أيضا باتوا يخشون فرض أوامر تضر بالاستيطان لأن الخطاب العام في إسرائيل والمهيمن عليه من قبل المستوطنين قد يدفع الى "تشويه سمعتهم"، وشيطنتهم، وإخراجهم من الصف الوطني، أو على الأقل قد تلحق بهم وصمة عار تضر بصهيونيتهم. 

وبدلاً من الاعتقاد بأن لواء كفير يتبع بشكل حصري لقيادة هيئة أركان الجيش، فإن نظرة إمبريقية لعمل اللواء تكشف أنه يتبع بشكل أكبر للمستوطنين. وأدناه بعض الأمثلة:  

  1. في كل مستوطنة، هناك ضباط عسكريون يتشكلون على مستوى المستوطنة التي يسكنون فيها. هؤلاء الضباط يشكلون، على مستوى كل مستوطنة، "جهازا رقابيا تنفيذيا"، بحيث أنهم هم من يحدد مفهوم أمن المستوطنة، ويشرفون على حراستها. الأهم من ذلك، أن هؤلاء المستوطنين- الضباط هم من يدير الأعمال الحربية في منطقة المستوطنة ومحيطها. حتى في حال وصول الجيش (او كتائب تابعة للواء كفير)، فإن القائد الفعلي للأعمال الحربية في حينها سيكون "جهاز الرقابة التنفيذي" الذي يترأسه مستوطنون، بحيث يتحول الجيش في كثير من الحالات الى أداة (بالمعنى الحرفي للكلمة) بأيدي المستوطنين.
  1. الحاخامات المدنيون والعسكريون. ثمة تأثير كبير من حاخامات المستوطنين، والحاخامات المسؤولين عن المدارس الدينية والعسكرية في المستوطنات على جنود وضباط لواء كفير. في العام 2009، رفع جنود اللواء يافطات كتب عليها "كفير لا يطرد اليهود من أرضهم"، وقد جاء الأمر بعد أن تحولت قواعد اللواء الى وجهة أساسية للحاخامات المتطرفين والذين يزورونها باستمرار، ويلقون "المواعظ" والدروس وهو أمر تقوم قيادة الجيش بغض النظر عنه. 
  1. عدا عن هذا التداخل، لا بد من الإشارة الى دور المستوطنين في التحايل على القوانين العسكرية داخل لواء كفير. لأن العديد من الجنود والضباط يأتون من مجتمع المستوطنين، وتتم "تغذيتهم" ثقافيا ودينيا من قبل حاخامات المستوطنين، فإنهم قادرون (أي الجنود والضباط) على التلاعب بالسلم التراتبي، والأنظمة الداخلية، واللوائح المتعلقة بعمل الجيش نفسه. مثلا، أحيانا يكون بمستطاع جنود وضباط اللواء المنحدرين من أصول استيطانية، "جر" الجيش كله لخدمة قضية معينة لم تتحدد أهميتها داخل الجهاز البيروقراطي للجيش وإنما داخل غرف قيادة الاستيطان المغلقة (وربما يكون هجوم حوارة بمثابة مثل على ذلك). أو أنهم يكونون قادرين على مراوغة أمر عسكري لا يتناسب مع أجندة الاستيطان، بحيث أن مراوغتهم تكون وفق "الأصول" المتبعة داخل الجيش. كما أن وجود هؤلاء المستوطنين داخل الجيش من شأنه أن يحمل تبعات مهمة للمستوطنين تتعلق بتسريب معلومات وغيرها. 

صحيح أن العلاقة العضوية بين لواء كفير والمستوطنين تتأثر أيضا من قبل منظمات حقوقية مثل بتسيلم، يش دين، أو لنكسر الصمت، والتي تحاول ان تردع هذه العلاقة العضوية وتكشف خطورتها، إلا أن المستوطنين باتوا يستوطنون في "الدولة العميقة"، وتحديدا داخل كتائب وألوية الجيش الإسرائيلي العامل في الضفة الغربية تحديدا. ولا بد من القيام بدراسة جدية ومفصلة لمعرفة إسقاطات هذه التداخل على الفلسطينيين، سيما وأن لواء كفير قام بتنفيذ حوالي 70% من الحملات العسكرية ضد الفلسطينيين شملت اعتقالات واقتحامات. فالأمر قد لا يتعلق بقدرة الجيش على إخلاء المستوطنين أو هدم بؤرهم الاستيطانية (وهو أمر غير مطروح أساسا على المستوى السياسي لكي نبحث في ترجماته على المستوى العسكري)، بقدر ما يتعلق الأمر بالكيفية التي يجيّر فيها المستوطنون (كرؤساء مجالس استيطانية، وحاخامات، وحاليا وزراء) الجيش الإسرائيلي في ضرب الفلسطينيين. وهذه قضية أساسية لا يلتفت اليها المراقبون والباحثون والإعلاميون. فعادة ما ينظر إلى العلاقة المتينة بين لواء كفير والمستوطنين من خلال التركيز على الدور الذي يتخذه الجيش في "حماية" الاستيطان والمستوطنين. وقلما يتم الاهتمام بإسقاطات هذه العلاقة المتينة على الفلسطينيين (تحويل الجيش الى أداة للمستوطنين لضرب الفلسطينيين). وعليه، فإن مجموعات شبة عسكرية تابعة للمستوطنين مثل "شبيبة التلال"، أو "تدفيع الثمن" قد تكون هامشية مقارنة بقدرة المستوطنين على تحويل لواء كامل الى أداة تحتكم لرغباتهم. فمثلا كتيبة نيتساح يهودا، التابعة للواء كفير، هي كتيبة أقيمت بالأساس لليهود المتدينين الحريديم، وبالتالي أصبحت الكتيبة الرسمية لجمهور الصهيونية الدينية والتيار الحردلي المتطرف، وهو التيار الذي ينحدر منه الوزير بتسلئيل سموتريتش. 

جدير بالذكر أن عناصر لواء كفير معروفون بقبعاتهم العسكرية "المبرقعة" بالإضافة إلى "الجزمة" العسكرية ذات اللون الأحمر، وهي نفس "الجزمة" التي انتعلها العديد من المستوطنين "المدنيين" الذين هاجموا قرية حوارة (أنظر/ي الصورة).

المشهد الإسرائيلي

أحدث المقالات