المشهد الإسرائيلي

ملحق أسبوعي يتضمن مقالات صحفية وتحليلات نقدية ومتابعات عن كثب لمستجدات المشهد الإسرائيلي.
  • تقارير، وثائق، تغطيات خاصة
  • 2961
  • وليد حباس

فور وصول وزير الأمن القومي الإسرائيلي إيتمار بن غفير إلى مكان العملية في مستوطنة "نافيه يعقوب" في القدس، يوم 27 كانون الثاني الحالي، توجه مباشرة إلى المستوطنين المتجمعين على أطراف الطرق وسألهم: "هل كان لديكم سلاح؟". قد يبدو هذا سؤالا غريبا يصدر عن وزير الأمن القومي، والمسؤول المباشر عن الشرطة الإسرائيلية، إذ إنه بدل أن يتوجه إلى ضباط الشرطة، وعناصرها، المتواجدين في المكان ويسائلهم عن جهوزيتهم، ويقيم سرعة استجابتهم لاستغاثة المستوطنين، توجه في المقابل إلى المستوطنين المدنيين. يرتبط هذا التصرف بخطة بن غفير لإقامة "حرس وطني" يضم متطوعين من الإسرائيليين المدنيين المسلحين، والذي يعتزم مأسسته خلال العام الحالي. تلقي هذه المقالة الضوء مجددا على مخطط هذا الوزير لتعميق عسكرة المجتمع الإسرائيلي بشكل تدريجي.

عسكرة المدنيين الإسرائيليين

بعد انتهاء عملية "نافيه يعقوب" في القدس، وفي مشهد سريالي حيث كان دم القتلى الإسرائيليين لا يزال على الأرض، وقف وزير الشرطة بن غفير وسط مئات من ضباط الشرطة، ثم توجه إليه مستوطن مدني وعانقه باكيا وقال: "لقد هربت من المكان، لو كنت مسلحا لمنعت قتل 3 أو 4 إسرائيليين على الأقل". لم يكن بن غفير بحاجة إلى أكثر من هذا المشهد الدلالي الذي تم بثه مباشرة على كل وسائل الإعلام، حيث أجاب بن غفير: "سوف نقوم بتغيير سياسات [حمل السلاح وإطلاق النار] قريبا". قد يكون بن غفير هو المتشجع الأبرز لإنشاء ميليشيات من الإسرائيليين المدنيين والعسكريين السابقين، والتي ستعمل إما كجزء هيكلي من جهاز حرس الحدود، أو كبنية موازية تتوزع الأدوار بتناغم بينها وبين حرس الحدود والشرطة والجيش الإسرائيلي. بيد أن فكرة إنشاء "حرس قومي"، أو ميليشيات مدنية مسلحة، قد تحولت تدريجيا إلى شبه إجماع إسرائيلي لا يمكن أن نقتصرها على أجندة بن غفير الكهانية العنيفة وحسب. 

مثلا، على ضوء الاستخلاص الإسرائيلي لأحداث أيار 2021 التي شهدت مواجهات قومية مكثفة بين اليهود والفلسطينيين في "المدن المختلطة" في الداخل (اللد، الرملة، يافا، حيفا وعكا)، أصدر معهد أبحاث الأمن القومي الإسرائيلي تقريرا حول إنشاء "حرس قومي" يضم كتائب من المتطوعين المدنيين، وكتب فيه: "بينما تمتلك إسرائيل نظاماً قوياً ومحكما للتعامل مع تهديدات الحرب من الخارج، إلا أنها لا تملك منظومة أمنية مقابلة للتعامل مع التهديدات المتنوعة المتوقعة في مجالات الأمن الداخلي".[1] قبل هذا التقرير بشهر، وبالتحديد في حزيران 2022، قام رئيس الحكومة السابق نفتالي بينيت (حزب يمينا، من الصهيونية الدينية) بالإضافة إلى وزير الأمن الداخلي السابق عومر بار ليف (من حزب العمل "اليساري")، إضافة إلى مفتش الشرطة العام كوبي شبتاي، بالإعلان عن إطلاق "الحرس الإسرائيلي"، أو ما يسمى "الحرس القومي"، كميليشيا مساندة لحرس الحدود. 

يأتي ذلك بالتزامن مع أربعة أحداث لا يجب أن نراها خارجة عن هذا السياق، وكنا قد كتبنا عنها سابقا في المشهد الإسرائيلي:

1) في أوج المواجهات بين الفلسطينيين والإسرائيليين داخل اللد، في أيار 2021، وصلت إلى المدينة ميليشيا مسلحة من مستوطني الضفة الغربية (بالتحديد من المستوطنات الأيديولوجية الأكثر تعصبا وعنفا) بهدف "قمع" العرب. وقد قال أحد قادة هذه الميليشيا فور وصوله لإغاثة الإسرائيليين من "تمرد" العرب: "نحن نستبدل الشرطة والجيش ... نحن في حرب الاستقلال".[2]

2) الدور الذي لعبته ميليشيا "الحرس الجديد" كمقاول للصندوق القومي اليهودي في منطقة النقب في مطلع العام 2022. هذه الميليشيا التي تأسست العام 2007، تقوم بفرض "سيادة ونظام" إسرائيلي مدني على مناطق كبيرة في النقب، وتشارك في أعمال عنف مسترشدة، على ما يبدو، بنموذج العصابات الصهيونية قبل قيام الدولة. لكن طبيعة العلاقة الهيكلية والتنسيق الوظيفي بينها وبين الشرطة والجيش الإسرائيلي ما تزال مبهمة، وغير ممأسسة قانونيا.[3]

3) في آذار 2022، أطلق أحد كوادر حزب "قوة يهودية" الذي يتزعمه بن غفير، ميليشيا مدنية جديدة في منطقة بئر السبع تحمل اسم "دورية بارئيل" (على اسم الجندي الإسرائيلي الذي قتل من مسافة صفر على الحدود مع غزة العام 2021). وتمتلك الميليشيا معدات وأسلحة ودوريات شرطية خاصة بها، وتفتح أبوابها للمتطوعين "اليهود" والذي يعتزمون فرض "الأمن والأمان" في جنوب إسرائيل. على أن هذه الميليشيا، وفور إقامتها، تحولت إلى مصدر الهام للإسرائيليين اليمينيين المتطرفين في منطقة بات يام (جنوب تل أبيب) التي شهدت واحدة من أهم المواجهات العنيفة والدموية خلال هبة أيار 2021.[4]

4) الأحداث الثلاثة أعلاه، هي نماذج عينية لما بات ظاهرة متدحرجة داخل إسرائيل لعسكرة المدنيين، ولعنفنة (من عنف) القومية الصهيونية، تحت مسمى "التهديد الداخلي القومي". بيد أن هذه المساعي التي تقاد من قبل اليمين الصهيوني المتطرف، تستدعي قوننة، وتشريعات خاصة، وتطويراً لمبادئ عمل وثقافة خاصة، وتشبيكا رسميا وغير رسمي مع الأجهزة الأمنية الإسرائيلية، وهذا يقودنا إلى القضية الرابعة التي لا بد من الإشارة اليها: ظهور بن غفير كعراب أخذ على عاتقه مهمة "شرعنة" هذه الميليشيات المدنية وشبه المدنية، وتحويلها إلى جزء أساس من مكونات المجتمع الإسرائيلي اليهودي. وبالنظر إلى الاتفاقيات الائتلافية مع حزب "قوة يهودية"، أصر بن غفير على إيراد البنود التالية:

  • البند 82: في غضون 60 يوماً من تشكلها، ستعلن الحكومة عن تشكيل منظومة قومية شاملة لإعادة الأمن الشخصي في أرجاء إسرائيل... تهدف إلى جمع السلاح غير القانوني [ترخيص حمل السلاح لا يشمل العرب بطبيعة الحال].
  • البند 84: زيادة ميزانية وزارة الأمن القومي التي يترأسها بن غفير (مسؤولة عن الشرطة، حرس الحدود، ومصلحة السجون) بحوالي 45 مليار دولار موزعة على خمس سنوات. وهذا بهدف إقامة منظومة الأمن القومي والحرس القومي، زيادة رواتب عناصر الشرطة، ورفع عدد العناصر.
  • البند 90: في غضون 90 يوماً من إقامتها، ستصادق الحكومة على قرار يقدمه بن غفير كوزير أمن قومي لمأسسة "الحرس القومي" الإسرائيلي. في هذا الإطار، سيتم فصل حرس الحدود عن جهاز الشرطة، وتحويله إلى جهاز مستقل يتبع مباشرة إلى وزير الأمن القومي (وليس إلى مفتش الشرطة كما هو معمول به حاليا) وسن كافة القوانين والتشريعات اللازمة لهذا التحول.

خطة بن غفير لإعادة هيكلة حرس الحدود 

حرس الحدود هو جهاز أمني يقع على مسافة بين الشرطة والجيش. من جهة، هو جهاز شرطي يساند الشرطة الرسمية في فرض القانون، ومن جهة ثانية هو جهاز حربي يضطلع ببعض الأعمال القتالية الشبيهة بالجيش. ويرجح البعض بأن هذا الجهاز تطور في الدول التي كانت سابقا تحت سيطرة نابليون، وعليه يحمل جهاز حرس الحدود اسما آخر فرنسياً وهو Gendarmerie (وهو لفظ مستخدم أيضا داخل إسرائيل). في العام 1921، أقام الانتداب البريطاني جهازي "حرس الحدود الفلسطيني" و"حرس الحدود البريطاني"، وكلاهما جهازان مساندان لعمل الشرطة البريطانية، قبل أن يتم الإعلان عن فشلهما وتفريقهما العام 1926. في العام 1926، أقام المندوب السامي في فلسطين جهازاً أكثر تطورا أسماه "حرس التخوم في غربي الضفة" (إشارة إلى فلسطين كاملة)، والذي كان عمله ملهما للمجتمع الصهيوني الذي قام بتأسيس جهاز يحاكيه بعد النكبة. 

في العام 1947، طُلب من غولدا مائير وآخرين الإشراف على خطة لتأسيس جهاز الشرطة الإسرائيلية تحضيرا لبناء الدولة. في المقترح الذي قدمته مائير، تمت التوصية بإقامة جهازين: 1) Gendarmerie، أو حرس حدود، الذي سيعمل خارج المدن الإسرائيلية وفي المواقع الحدودية، 2) الشرطة. وبالفعل، ومنذ ذلك الوقت، كان هناك مفتش واحد للشرطة الإسرائيلية، وتحت سلطته هناك جهازان: الشرطة وحرس الحدود. اليوم، يضم حرس الحدود الإسرائيلي حوالي 7200-7300 عنصر فقط، وهذا يشكل حوالي 23% من قوام الشرطة الإسرائيلية التي يترأسها حاليا كوبي شبتاي (سابقا رئيس حرس الحدود وتابع لمفتش الشرطة الأسبق). يضاف إلى ذلك، جيش من المتطوعين (حوالي 8000 متطوع) والذي تحول إلى كتيبة كبرى (تأسست العام 1989) من المدنيين الذين خدموا سابقا في أجهزة أمنية، ويعملون كمتطوعين، كل في نطاق المجلس المحلي الذي يعيش به. ويضم حرس الحدود حوالي 7 ألوية مناطقية، بالإضافة إلى ألوية وظيفية، أهمها "المستعربون". 

ومع أن حرس الحدود بتركيبته الحالية مقسم إلى ألوية للعمل في كل أنحاء إسرائيل (من إيلات وحتى حدود لبنان) إلا أن النشاط الرئيس لحرس الحدود يتمركز في الضفة الغربية والقدس الشرقية، ويضطلع بالمهمات المصنفة خطيرة على النظام الإسرائيلي. إن إعادة هيكلة هذا الجهاز، وتحويله إلى جهاز أمني مستقل عن الشرطة، ومنتشر بفعالية داخل كل المدن الإسرائيلية، يهدف، بحسب معهد أبحاث الأمن القومي الإسرائيلي، إلى: زيادة الردع داخل إسرائيل، والاستجابة الفعالة والممنهجة للأعمال الإرهابية والكوارث. بالتحديد، يساهم حرس الحدود، الذي سيضم بداخله "حرسا وطنيا"، في توفير الردع على المستوى الوطني ضد أولئك الذين يخططون للفوضى العنيفة، وسيشكل استجابة مهنية مناسبة وفورية لأنواع مختلفة من اضطرابات النظام العام في المجال المدني [سيما المدن المختلطة والقدس]، وسوف يسمح للشرطة بالتركيز على مهامها الأساسية التقليدية والتي كثيراً ما تتم مقاطعتها بسبب حوادث الاضطراب وحالات الطوارئ المتكررة.[5] بالطبع، ليس المقصود هنا منع القيام بعملية فدائية، إنما مواجهة مظاهرات عنيفة مثل هبات القدس (التي خلالها تم الإضرار بسمعة جهاز الشرطة ومكانته بعد أن كسر الفلسطينيون حاجز الخوف تجاههم)، أو هبات المدن المختلطة داخل إسرائيل. 

هذه المهمات لطالما قام بها الجيش الإسرائيلي النظامي عندما يتعلق الأمر بتهديد أمني خارجي من دول وجماعات مسلحة تقع خارج حدود إسرائيل، أو في المناطق المحتلة (غزة، القدس والضفة الغربية). إن استخدام مفهوم "تحسين الردع ضد المخاطر الأمنية الداخلية" هو تحول مهم جدا في الخطاب الإسرائيلي ومفهوم الأمن القومي الإسرائيلي يستدعي تحليله بشكل مسهب لاحقا. لكن الآن، يكفي أن نشير إلى أن إسرائيل تمتنع عن ادخال الجيش الإسرائيلي للعمل داخلها (أي داخل إسرائيل) لما قد يحمله الأمر من دلالات على عدم وجود أمن وأمان، أو صناعة أجواء حربية داخلية، أو تهديد صورتها كدولة مستقلة "ديمقراطية"، أو ربما حتى بسبب قناعة المسؤولين الإسرائيليين بأن ثقافة الجيش الإسرائيلي تدفع جنوده إلى القيام بأعمال "لا أخلاقية"، مثل البطش والقتل بدون سبب (وهي ثقافة تطورت تدريجيا من عمل الجيش الإسرائيلي في المناطق المحتلة وتم دعمها وتعزيزها من قبل المستوى السياسي). في حال امتدت هذه الثقافة إلى داخل إسرائيل فإن من شأنها أن تتسبب بتصدعات كبرى داخل المجتمع، ودعاوى قضائية، الأمر الذي سينعكس سلبا على منظومة الجيش ومكانته لدى المجتمع الإسرائيلي- وهذا اعتقاد بحاجة إلى تفحص للوقوف على مصداقيته، على الرغم من وجود قرائن ترجحه.

البديل هو تطوير جيش آخر (هو حرس الحدود)، وفصله هيكليا عن الشرطة الإسرائيلية، وتوسيع نطاق عمله ليشمل المدن الإسرائيلية، خصوصا المدن المختلطة ذات الأقلية العربية. إن تشعبات وتبعات أحداث أيار 2021 لم تحظ بعد بحقها من النقاش والتحليل، وربما إطلاق العنان لبن غفير لقيادة هكذا خطة مدفوع، في جزء منه، بصدمة الإسرائيليين مما جرى في أيار 2021. 

بتاريخ 24 كانون الثاني 2023، عرض بن غفير الخطوط العريضة لخطته وهي: 1) تحسين الشرطة: من خلال رفع رواتب جميع ضباط الشرطة بزيادة تتراوح بين 20 و40%. وتجنيد المزيد من ضباط الشرطة، خصوصا في ظل العزوف المتنامي للضباط الذي يستقيلون، إضافة إلى تجنيد حوالي 4000 ضابط شرطة جديد. 2) إقامة "الحرس الوطني": وهي قوة ستضاف إلى حرس الحدود وتضاعفه وسيتحول "الحرس الوطني" إلى قوة توسع من نشاط حرس الحدود

ومن المتوقع أن يمضي بن غفير في هذه الخطة التي تحظى بدعم إعلامي وسياسي. في اليوم الثاني لعملية "نافيه يعقوب"، التي "اشتكى" خلالها أحد المستوطنين المدنيين بأنه لم يكن يحمل سلاحا لمنع العملية، جرت عملية أخرى في البلدة القديمة في القدس. وليس صدفة أن بعض وسائل الإعلام الإسرائيلية- مثلا القناة 12- أوردت في عنوانها للخبر النص التالي الذي يحمل رسائل مبطنة: "أب وابنه أصيبا إصابات خطيرة ولكنها مستقرة... مدني إسرائيلي مسلح كان في المكان قَتَل المخرب".[6]

 

[1] مائير إلران، "حرس قومي إسرائيلي؟"، منشورات معهد أبحاث الأمن القومي الإسرائيلي، 3 تموز 2022. أنظر/ي الرابط التالي: https://bit.ly/3j9WV37

[2] راجع/ي ملحق المشهد الإسرائيلي العدد 526، على الرابط التالي: https://bit.ly/3YmxSZJ

[3] راجع/ي ملحق المشهد الإسرائيلي العدد 536، على الرابط التالي: https://bit.ly/3wDxlGG

[4] راجع/ي ملحق المشهد الإسرائيلي العدد 556، على الرابط التالي: https://bit.ly/3jaVPUC

[5] مائير إلران، "حرس قومي إسرائيلي؟"، مصدر سابق.

[6] عنبار تويزر، "عملية إطلاق نار أخرى في القدس: إصابتان خطيرتان في مدينة داوود"، القناة 12، 28 كانون الثاني 2023. أنظر/ي الرابط التالي: https://bit.ly/3HzNzXH

المشهد الإسرائيلي

أحدث المقالات