يشهد الشارع الإسرائيلي في الأيام الأخيرة مظاهرات كبيرة، منها ما ضم عشرات الألوف حسب التقديرات، ضد حكومة بنيامين نتنياهو الجديدة، والعنوان الأبرز لهذه المظاهرات هو "الدفاع عن الديمقراطية"، وضد "الانقلاب المخطط على نظام جهاز القضاء"، وفق التعبير. وهذا المشهد يطرح سؤال حول مدى تأثير هذه المظاهرات على ثبات الحكومة؟ وهل هذه المعارضة هي معارضة حقيقية لكل سياسات الحكومة؟ وأولها شكل التعامل مع الضفة والقدس المحتلة، ومبادرات قمع حرية العمل السياسي، أم أنها ستقتصر على معارضة الضرر الذي سيلحق بقطاعات معينة من الجمهور اليهودي؟
من ناحية برلمانية، نحن أمام 4 مجموعات برلمانية: الائتلاف المتماسك الذي يضم 64 نائبا من أصل 120 نائبا، في حين أن المعارضة البرلمانية ليست موحدة، ففي بعض الحالات تكون مجموعتين أو ثلاث، فمن أصل 56 نائبا خارج الائتلاف، هناك 42 نائبا من ثلاث كتل: "يوجد مستقبل" برئاسة يائير لبيد- 24 نائبا، و"المعسكر الرسمي" برئاسة بيني غانتس- 12 نائبا، و"إسرائيل بيتنا" بزعامة أفيغدور ليبرمان- 6 نواب. ثم 9 نواب في كتلتي "القائمة العربية الموحدة"، برئاسة منصور عباس، ولها 5 نواب، وحزب العمل برئاسة ميراف ميخائيلي، وله 4 نواب، وهاتان الكتلتان كانتا ضمن ائتلاف الحكومة السابقة. والكتلة الأخيرة، التي هي معارضة للحكومتين الحالية والسابقة: "الجبهة الديمقراطية والعربية للتغيير"، برئاسة أيمن عودة، ولها 5 نواب.
الائتلاف الحاكم
على صعيد الائتلاف، فإنه متماسك، سياسيا وبرلمانيا، ولا يبدو أن فيه تصدعات تهدّد استمرار بقائه، فالجوانب التي من المفروض أن تكون إشكالية تم الاتفاق عليها في الاتفاقيات الثنائية بين حزب الليكود وكل واحدة من كتل الائتلاف، وأيضا في الاتفاق العام، الذي قامت على أساسه الحكومة الإسرائيلية الـ 37، والسادسة برئاسة بنيامين نتنياهو. ورغم ذلك، هناك محطات افتراضية قد تبدو إشكالية، ويجدر استعراضها:
الجانب السياسي: كما هو واضح، فإن الائتلاف الحاكم يشهد اجماعا حول الموقف من احتلال العام 1967، وهو بصدد سن قوانين، وإقرار مشاريع توسيع استيطان، إذ ورد في أحد بنود الاتفاق العام لتشكيل الحكومة "أن حق الشعب اليهودي هو بسط نفوذه على كامل أرض إسرائيل"، ويضيف أن الأمر سيكون بين يدي رئيس الحكومة، مع الأخذ بعين الاعتبار الظروف الإقليمية والعالمية. وهذا يعني موقف إجماع على ضم الضفة الغربية لما تسمى بـ"السيادة الإسرائيلية". ورغم أن هذا النص يوحي بأنه لن تكون قوانين ضم فعلي في الضفة الغربية، لكن في المقابل هناك اتفاق واضح على سن قوانين وأنظمة لتثبيت عشرات البؤر الاستيطانية، وتحويلها إلى مستوطنات كاملة، بحسب تعريفات الاحتلال، والقانون الأكثر وضوحا هو تعديل قانون ما تسمى "خطة الانفصال"، التي أقرها الكنيست في شهر تشرين الأول من العام 2004، وتم تطبيقها في شهر آب من العام 2005. ويقضي التعديل بشطب بند مستوطنة حومش، بين مدينتي جنين ونابلس، حيث أقيمت في العامين الأخيرين بؤرة استيطانية على أنقاضها، ويهدف التعديل إلى السماح قانونيا بالاستيطان في تلك المنطقة مجددا.
كذلك فإن الاتفاقيات تقضي بتعامل أشد مع مناطق (ج) في الضفة المحتلة، لمحاصرة الوجود السكاني الفلسطيني، في مقابل تسهيل وتوسيع الاستيطان.
وأيضا على مستوى القمع الأشد للشعب الفلسطيني، هناك إجماع في الائتلاف على سن قانون إعدام المقاومين الفلسطينيين، وهو قانون قائم، لكن يلزم بإجماع هيئة القضاة العسكرية (ثلاثة)، ثم موافقة القائد العسكري، في حين أن سن القانون يقضي بأن القرار يؤخذ بأغلبية هيئة القضاة في المحكمة العسكرية، بدون إمكانية الاستئناف. وهذا القانون مرّ بالقراءة التمهيدية في مطلع العام 2017، لكن طواقم الاستشارة القانونية للحكومة ووزارة العدل والكنيست، وقفت ضد القانون، وتم تجميد مساره التشريعي.
ومن المتوقع أن يتقدم الكنيست هذا الأسبوع، في تشريع قانون سحب المواطنة، أو هوية مقيم، من كل مقاوم فلسطيني، أدانته محاكم الاحتلال بما يسمى "الإرهاب"، وفق التعريف الإسرائيلي، ويتلقى مخصصات من السلطة الفلسطينية. وفي هذا القانون تلاقى الائتلاف مع الغالبية الكبرى من المعارضة.
الملف الساخن في هذا المجال أيضا هو شكل التعامل مع القدس، وأولها التعامل مع المسجد الأقصى المبارك/ الحرم القدسي الشريف، إذ تطالب كتل التيار الديني الصهيوني، ونواب من الليكود، بالسماح لليهود بأداء صلوات في باحات الحرم، أو على الأقل عدم معاقبة من يؤدي هذه الصلوات اليهودية.
وهذه نقطة خلاف مع كتلتي الحريديم، إذ إن الحريديم يعترضون من ناحية دينية، على دخول اليهود إلى الحرم القدسي، بموجب ما ورد في التوراة، الذي يمنع اليهود من الدخول الى منطقة "الهيكل"، إلى حين مجيء المسيح لأول مرّة الى العالم وبناء "الهيكل الثالث". لكن أيضا تغيير الوضع القائم في الحرم سيقود إلى مواجهة ليس فقط مع الفلسطينيين، وإنما مع الأردن، وقد تكون أيضا دول من التي تقيم علاقات مع إسرائيل، ما قد يستدعي تدخلات عالمية للجم الحكومة الإسرائيلية. في هذا المجال أعلن نتنياهو عن الحفاظ على الوضع القائم، لكن ليس واضحا مدى تنفيذه لهذا الالتزام.
التعامل مع جهاز القضاء: هذا الملف هو الأكثر سخونة في الجدل الإسرائيلي الداخلي، فهو يشهد اجماعا في الائتلاف، لضرب مكانة المحكمة العليا، لكن يشهد معارضة واسعة وحادة من جهاز القضاء، ومن المستشارين القانونيين السابقين للحكومة، ومن خبراء ومختصين بالشأن القضائي، إلى جانب أحزاب وجمعيات حقوقية وغيرها.
وكما يبدو، فإن مسار تشريع تعديل قانون المحكمة العليا سيبدأ في شهر شباط المقبل، وليس واضحا أي صيغة نهائية ستكون، لكن حسب ما يظهر، فإن الحصيلة النهائية ستكون ضرب مكانة المحكمة العليا، في ما يتعلق بسن القوانين والقرارات الحكومية.
ونشير إلى أن المحكمة العليا لم تنقض في أي يوم جوهر السياسات العنصرية وسياسات الاحتلال الإسرائيلية.
علاقة الدين بالدولة: نصف الائتلاف الحاكم هو من كتل دينية من التيارين: التيار الديني المتزمت- الحريدي، والتيار الديني الصهيوني، الذي يتشدد باستمرار في الجانب الديني، وهناك مطالب وطموح عند هذه الكتل، لتشديد قوانين السبت والأعياد العبرية، وقوانين الحلال اليهودي، إضافة إلى مطالب امتيازات للهيئات الدينية الرسمية وتلك التابعة للحريديم، ومحاصرة التيار الديني الإصلاحي، الذي تقريبا لا وجود له في إسرائيل، لكن القصد محاصرة أطر وهيئات هذا التيار في العالم، وخاصة في الولايات المتحدة، ثم في فرنسا وبريطانيا.
حتى الآن يعد نتنياهو بالحفاظ على الوضع القائم في هذا الملف أيضا، لكن ليس واضحا مدى قدرته على لجم مطالب شركائه، الذين قد يغريهم نتنياهو بأمور أخرى.
خلافات متوقعة ومحاكمة نتنياهو: على الرغم من كل نقاط التوافق بين أطراف الائتلاف الحاكم، فإن هذا لا يعني أنه لن تكون خلافات وعقبات في الطريق. فمعروف عن الكتل الدينية المتزمتة، والكتل الدينية الصهيونية، التي هي الجسم الأقوى في اليمين الاستيطاني المتطرف، شراهتها في الحكم، وسعيها لتحقيق مكاسب بما يخدم برامجها وجمهورها.
وفي الحالة القائمة في الائتلاف يضاف إلى هذا الجانب عامل المنافسة بين أطراف الائتلاف، فمثلا قائمة "الصهيونية الدينية"، انقسمت بالاتفاق إلى ثلاث كتل برلمانية، وهناك منافسة حادة بين حزب "الصهيونية الدينية" برئاسة بتسلئيل سموتريتش، وحزب "عوتسما يهوديت" (قوة يهودية) بزعامة إيتمار بن غفير، وهذه المنافسة انعكست بشكل واضح في المفاوضات لتشكيل الحكومة، والمنافسة على الصلاحيات التنفيذية في كل ما يتعلق بالاستيطان وقوات الاحتلال في الضفة الغربية المحتلة. ومن المتوقع، كفرضية، أن تأخذ هذه المنافسة أشكالا أخرى لاحقا، في حال تطبقت التوقعات باستمرار هذه الحكومة أربع سنوات، لكن هذه الأطماع قد تصطدم بالعلاقات الخارجية الإسرائيلية، ومحاولة نتنياهو التمدد أكثر في الشرق الأوسط، وأن يصل الأمر إلى حد الاصطدام مع دول كبرى، وخاصة الولايات المتحدة، في حال بقي الحزب الديمقراطي في البيت الأبيض، بعد انتخابات العام 2025.
كذلك ليس واضحا إلى أي مدى سيستمر الحراك الميداني الإسرائيلي ضد الحكومة، وبموازاة ذلك ليس واضحا شكل المواجهة مع الفلسطينيين، وأيضا مع فلسطينيي الداخل، خاصة وأن تحركات تقييد الحريات والعمل والسياسي بدأت تظهر بوضوح، وليس فقط من خلال المحاولة لحظر رفع العلم الفلسطيني في الحيز العام.
يعني هذا أن كل هذه الفرضيات قد تقود إلى تصادم ما مع حزب الليكود، ورئيسه بنيامين نتنياهو.
لكن من جانب آخر، فإن نتنياهو يرى بهذا الائتلاف الجسم الحامي الأكثر متانة، في مواجهة أي ضغوط سياسية وشعبية، مع استمرار محاكمته في قضايا الفساد. وفي شهر شباط المقبل، يكون قد مرّ عامان على بدء المحاكمة في ثلاث قضايا مركزية، التي بدأ التحقيق بشأنها قبل أكثر من ست سنوات.
وما تزال المحكمة في مرحلة شهود الاثبات، ورأينا حتى الآن، بعد الانتخابات، إعلان اثنين من شهود النيابة أنهما واجها ضغوطا في التحقيقات في الشرطة، لاستخراج إفادات ضد نتنياهو، لكن المحللين القضائيين قالوا إن هذه التراجعات لن تؤثر على سير المحاكمة. ما يعني أنه إذا ما استمرت هذه الحكومة أربع سنوات، بموجب الاستنتاج الحالي، فمن المؤكد أن تصل هذه المحاكمة إلى نقطة حسم، ولو أولى، بمعنى قرار المحكمة المركزية (الجنائية)، ومن ثم يكون استئناف في المحكمة العليا، في حال كانت إدانة لنتنياهو تمنعه من الاستمرار في الحكم. وبموجب القانون، فإنه حتى ولو صدر قرار إدانة ضد نتنياهو، فهو ليس ملزما بالاستقالة، إلا بعد صدور القرار الأخير، بعد الاستئناف. والمحاكمة هي عامل مركزي في حسابات نتنياهو.
هناك من يطرح فرضية أخرى، وهي أن نتنياهو معني بإظهار ماذا تعني شراكة "الصهيونية الدينية" و"عوتسما يهوديت" في الحكم، حتى يقنع كتلا في المعارضة بالتراجع عن موقفها ضده، وقبول الشراكة في الائتلاف، والحديث أساسا يجري عن الكتلة التي يترأسها بيني غانتس، وفي الدرجة الثانية الأضعف، حزب "إسرائيل بيتنا" بزعامة أفيغدور ليبرمان. أما بالنسبة لحزب "يوجد مستقبل" فهو مرفوض كليا على كتلتي الحريديم، شاس ويهدوت هتوراة.
طبيعة المعارضة
في ما سبق هنا استعرضنا تركيبة المعارضة، الموزعة على ثلاث مجموعات. وحتى الآن، كتل المعارضة الخمس، التي كانت تشكل الحكومة السابقة، ترفض العمل مع كتلة "الجبهة الديمقراطية والعربية للتغيير"، وهذا موقف واضح صادر عن ثلاث كتل برلمانية: "يوجد مستقبل" و"إسرائيل بيتنا" و"القائمة العربية الموحدة"، بزعم أنها السبب في سقوط الحكومة السابقة، بينما الحكومة السابقة سقطت بسبب تفكك كتلة "يمينا" بزعامة من كان رئيساً للحكومة، نفتالي بينيت، وأيضا بسبب رفض المعارضة اليمينية تأييد تمديد سريان قانون الطوارئ في الضفة الغربية، ما جعل بينيت يتفق مع شريكه لبيد على حل الكنيست قبل انتهاء يوم 30 حزيران، لأن القانون في هذه الحالة يمدد قانون الطوارئ تلقائيا إلى حتى 6 أشهر من يوم تشكيل الحكومة الجديدة.
وفي الأسبوع الماضي، التقت المعارضة الصهيونية مع الائتلاف الحاكم في تأييد تمديد قانون الطوارئ.
حتى مطلع الأسبوع الماضي، 9 كانون الثاني الجاري، كان قد أعلن عن أن أعضاء الكنيست طرحوا 1531 مشروع قانون، بعد أن صادقت عليها هيئة رئاسة الكنيست، ومن المتوقع إقرار مئات مشاريع القوانين في الأسابيع القليلة المقبلة. وبحسب فرز أجريته، فإن ما لا يقل عن 111 مشروع قانون هي قوانين تعنى بتوطيد الاحتلال وتوسيع الاستيطان، وحتى مشاريع قوانين لضم الضفة، إلى جانب سلسلة من قوانين القمع والملاحقة السياسية وتشديد العقوبات، بضمنها تسهيل فرض عقوبة الإعدام على المقاومين الفلسطينيين، ومشاريع قوانين لتقييد الحريات والعمل السياسي خاصة لفلسطينيي الداخل.
من أصل 111 مشروع قانون كهذا، 45 مشروع قانون قدمها نواب في كتل المعارضة، منها 41 مشروع قانون من النائبة شران هسكيل، من كتلة "المعسكر الرسمي"، بزعامة غانتس، وهي نائبة سابقة في الليكود، انشقت قبل نحو عامين مع جدعون ساعر، الذي أقام حزب "أمل جديد"، وتحالف في الانتخابات الأخيرة، مع حزب "أزرق أبيض" بزعامة غانتس، وبات اسم القائمة "المعسكر الرسمي".
وهذا يعني أن كتل المعارضة الصهيونية المركزية، التي تضم 42 نائبا من ثلاث كتل، ليست معارضة لسياسات الحكومة المتعلقة بالاحتلال والاستيطان، وهذا تأكد، كما ذكر هنا، في التصويت على قانونين في الأسبوع الماضي: تمديد قانون الطوارئ في الضفة الغربية المحتلة، الذي ينظم الاستيطان ومكانة المستوطنين وأيضا أدوات السيطرة على الشعب الفلسطيني، ومشروع قانون سحب المواطنة أو الإقامة من المقاومين الفلسطينيين، والذي سيستمر تشريعه في الأيام المقبلة. وهذه المعارضة سيتركز جانب معارضتها الرئيس للحكومة في موضوع جهاز القضاء، وقوانين علاقة الدين بالدولة. وحتى في مجال القضاء، فإن النائب المعارض حاليا، جدعون ساعر، وحينما كان وزيرا للعدل في حكومة نتنياهو، سعى هو أيضا لتقليص مكانة المحكمة العليا، وتغيير موازين القوى في لجنة تعيين القضاة، لتكون ذات أغلبية للسياسيين، إلا أنه انقلب على موقفه السابق، لغرض الاعتراض كما يبدو.
في خاتمة هذا الاستعراض للحالة البرلمانية، وفق الظروف القائمة في هذه المرحلة، يمكن القول إن الكفة تميل بشكل قوي إلى جانب ثبات الحكومة الحالية لكامل فترة الولاية البرلمانية المؤلفة من أربع سنوات.
المصطلحات المستخدمة:
الصهيونية, بتسلئيل, الكتلة, الليكود, الكنيست, رئيس الحكومة, بنيامين نتنياهو, ميراف ميخائيلي, أيمن عودة, نفتالي بينيت