عندما أعلن رئيس الحكومة الإسرائيلية المكلف بنيامين نتنياهو، أن برنامجه السياسي يقضي بمنح الفلسطينيين "صلاحيات لحكم أنفسهم لكن بدون سيادة ومع إبقاء الأمن بيد إسرائيل"، أي مواصلة الاحتلال في العمق، لم يقُم ضده أي معترض ولا حتى متحفّظ من معسكر معارضيه. مع أن هؤلاء لا يتوقفون عن توجيه النقد اللاذع له ولائتلافه الآخذ بالتشكّل. لكن يبدو أن القضية السياسية المركزية – القضية الفلسطينية – ليست موقع خلاف عميق بين الجهتين.
جاء حديث نتنياهو هذا في سياق مقابلة أجرتها معه الإذاعة العامة الوطنية الأميركية "NPR"، يوم الخميس الماضي. وقال فيها بوضوح إنه يطوي فعلياً صفحة التزامات إسرائيل الموقعة والمعلنة حتى بالصيغة الأضيق للتسوية القائمة على "حل الدولتين". وبكلماته: "أقولها بصراحة، عندما كان جو بايدن نائبا للرئيس الأميركي (باراك أوباما)، زار إسرائيل، وقال لي: ’لكن يا بيبي، هذه ليست سيادة كاملة’، فقلت: أنت على حق جو، ولكن هذا هو الأمر الوحيد الذي سيدوم". لم ينتقده أي سياسي في معسكر خصومه، لم يصدر عنهم أي بيان ولا حتى منشور على صفحات التواصل الاجتماعي. أما الالتفات الصحافي بالعبرية لهذه المقابلة فكان فقط من باب أقواله عن الوزير المكلّف بحقيبة "الأمن القومي"، الكهاني إيتمار بن غفير، الذي وصفه نتنياهو كمن "تم تحديد أهليته من قبل المحكمة العليا، وقام بتعديل الكثير من آرائه".
الصدام بين المعسكرين الإسرائيليين الصهيونيين، ذاك الموصوف باليميني وخصمه الموصوف بالوسطي واليساري، يطال عموماً مسائل داخلية متعلقة بسلامة الحكم واستقلالية القضاء وحرية التعبير بعدد من تجلياتها، وهي مسائل هامة بالتأكيد. لكن دائرة الجدل لا تتسع للسياسة المتعلقة بالسلم والحرب، وفي حالة إسرائيل بالاحتلال في الضفة والقدس والاحتلال بصيغة الحصار الشامل في قطاع غزة. واحدة من ساحات المواجهة متعلقة بجهاز التعليم؛ إذ عيّن نتنياهو زعيم حزب "نوعام" أفيغدور معوز بمنصب نائب وزير في مكتب رئيس الحكومة بصلاحية المسؤول عن وكالة حكومية جديدة لـ "الهوية اليهودية القومية" وصاحب الصلاحيات عن وحدة البرامج الخارجية في وزارة التعليم. معوز هذا قاد حملات ضد ما يسميه "التيارات التقدمية" في جهاز التعليم وداخل الجيش الإسرائيلي. وبرز على نحو خاص رفضه لفتح وحدات قتالية أمام المجندات وللحضور المثلي في الحيّز العام.
المعركة على وزارة التربية والتعليم والمضامين أمام الطلاب
هذه مسائل في صلب المواجهة، حيث تتجند وسائل إعلام اليمين (الصريحة) للمعركة. مثلا نشر موقع المستوطنين "القناة السابعة" مطلع الشهر مقالا جاء فيه أن "وزارة التعليم هي مفتاح الصراع من أجل دولة إسرائيل"، و"هذا هو المكان الذي يبدأ منه كل شيء. يعلم الجميع أن مفتاح التغيير يبدأ في جهاز التعليم"، وهذا ما يفسّر برأي الموقع اليميني رفض المعسكر الآخر هذا التعيين، وهو يهاجم برنامجاً لوزيرة التربية والتعليم المنتهية ولايتها يفعات شاشا بيطون لأنها "تلزم المدارس بإعداد المعلمين لمزيد من التدريب حول موضوع المثلية (...) وبصياغة لوائح لحظر التمييز على أساس الجندر أو التوجه الجنسي". ويدّعي أن "المنظمات اليسارية الراديكالية تعمل منذ سنوات عديدة في نظام التعليم تحت ستار الديمقراطية، بالتعاون مع مؤسسات أجنبية ودول أجنبية، لفرض قيم الأقلية الراديكالية على طلاب المدارس الأبرياء". وبين "المخاطر" الأخرى التي يتوقف عندها الموقع: "برنامج آخر، ممول من قبل وزارة التعليم نفسها، لتعزيز التعايش بين اليهود والعرب" من خلال جمعية تتلقى تمويلاً من الحكومة الألمانية.
هنا يجتمع الصراع على المضامين بالحملة على منظمات المجتمع المدني، خصوصاً الناشطة في مجالي الحريات والحقوق. هذه الأخيرة تدرك أنها دخلت مرحلة مواجهة جديدة امام الحكومة المرتقبة. فتحت عنوان "المساس بالمنظمات المدنيّة هو خطر حقيقي على الديمقراطية"، كتب البروفيسور ميخائيل ألموغ- بار والمحامية عنات طهون أشكنازي في موقع "المعهد الإسرائيلي للديمقراطية"، البارز في قطاع المنظمات غير الحكومية، أن "نزع الشرعية الذي تمر به المنظمات التي تمثل أفراد المجتمع المثلي، والتيارات المختلفة في اليهودية، وحتى منظمات الأشخاص ذوي الإعاقة، إلى جانب الخوف من الضرر على هيكل العلاقات بينها وبين المسؤولين الحكوميين، سيضعف قدرة المجتمع على الصمود".
وهما يتوقفان عند الخطوات التي بدأت الحكومة القادمة بتنفيذها في تشريعات برلمانية وبرامج عمل، بالقول "إن الإصلاحات المقترحة في النظام القضائي، بما في ذلك تقييد حق الملتمسين العامين بالتوجه إلى المحكمة العليا في قضايا انتهاكات حقوق الإنسان، ستلحق ضررا كبيرا بمنظمات المجتمع المدني ولا سيما بالعلاقات الحساسة والمهمة بينها وبين المؤسسات الحكومية. الضرر سيلحق خصوصاً بالمنظمات التي يتمثل دورها في حماية السكان. وهي التي حصلت على الحماية في أحكام المحكمة العليا كجزء من الالتماسات التي قدمتها منظمات المجتمع المدني نفسها، لأن التغييرات المقترحة لن تسمح للمنظمات بالمطالبة بمعالجة المظالم وتعزيز العدالة والمساواة لهؤلاء السكان".
ويشيران باهتمام خاص إلى "التغييرات البنيوية المخططة، التي تقصي الهيئات الحكومية المسؤولة عن العلاقة بين منظمات المجتمع المدني وبين الحكومة، مثل الوحدة المسؤولة عن الشراكة بين القطاعات في مكتب رئيس الحكومة".
ويعددان القطاعات التي ستتضرر: الشباب بدون عائلات، المسنون في عزلة، الناجون من الهولوكوست المحتاجون لرعاية طبية ونفسية، والعائلات الفقيرة.
ويوردان نتائج من استطلاع أجراه المعهد الإسرائيلي للديمقراطية بيّن أن غالبية الذين شملهم الاستطلاع، من اليهود (59%) والعرب (77%)، "يعارضون تقييد حق منظمات المجتمع المدني في تقديم التماسات للمحكمة العليا". ويؤكدان: "إن مفتاح نظام ديمقراطي قوي ومجتمع قوي وعادل واقتصاد مستقر هو أولاً وقبل كل شيء مجتمع مدني حرّ، يتسع لمجموعة متنوعة من الآراء، ولا يقوم على خطاب عنيف وعدواني".
"نحن في طريق خطيرة... إلى كارثة دولة أقلّ ديمقراطية"!
هذه المخاوف يؤكدها أيضاً مدير القسم القانوني في جمعية حقوق المواطن، المحامي عوديد فيلر، الذي يحذّر من "جو الملاحقة ضد من ينتقدون السلطة" ويؤكد "نحن عازمون أكثر من أي وقت مضى على رفض نوايا المساس بحقوق الإنسان" في إشارة إلى الوزير المرتقب بتسلئيل سموطريتش الذي اعتبر منظمات المجتمع المدني "خطراً وجودياً" على إسرائيل. ففي مقابلة واسعة أجرتها معه جريدة "كلكاليست" التابعة لمجموعة كبرى الصحف "يديعوت أحرونوت" وصف فيلر الحاصل في ظل مشاريع الحكومة القادمة بأنه "كارثة في الطريق إلى دولة أقلّ ديمقراطية".
تجدر الإشارة إلى أن قرار هذه الصحيفة إجراء المقابلة الواسعة مع المسؤول القانوني في أكبر منظمات حقوق المواطن في إسرائيل، هي مقولة بحد ذاتها من جهة الصحافة المركزية الطاغية نحو الحكومة القادمة. ورداً على السؤال: "الحكومة القادمة تبشّر بتقوية الهيمنة اليهودية وإضعاف الديمقراطية، فما هي المخاطر المباشرة المترتبة على ذلك بالنسبة لحقوق الإنسان؟"، يقول فيلر:"لا نعتقد أننا سنصادف شيئاً لم نكن نعرفه، ولكن توجد الآن إمكانية سياسية للقيام بهذه الأشياء: من فقرة التغلّب إلى تقليل رقابة القضاء إلى تسييس تعيين القضاة. فبالنسبة لنا، المحكمة هي أداة لتغيير وتصحيح مظالم حقوق الإنسان. إذا تعرضت هذه الأداة للمساس فمن المؤكد أن الضرر سيكون صعباً علينا. كلما ضعفت مكانة حقوق الإنسان، وخاصة للأقليات، كلما قلت ديمقراطية الدولة التي سنصبح عليها. ستكون بحوزة الحكومة سلطة مطلقة تقريباً وهذا وضع لا يطاق. مجرّد تصور الأغلبية على أنها القوة الوحيدة لتقرير الديمقراطية هو أمر خطير للغاية. أخشى على العرب وعلى مجتمع المثليين والفقراء والمهاجرين وطالبي اللجوء وعلى المجتمع المدني في إسرائيل. إن قمع المحاكم جزء من قمع كل من ينتقد الحكومة. منظمات المجتمع المدني ووسائل الإعلام يُنظر إليها كعناصر حاسمة يجب تقييدها. من وجهة النظر هذه نحن في بداية فترة خطيرة".
وهو يعتبر "فقرة التغلّب وصفة لاستبداد الأغلبية، مع أنه لا حاجة لها" مفسراً أن المحكمة أصلا لا تسارع بل "تقلّل جداً من التدخل في التشريعات، وحتى بدون فقرة التغلّب، تقوم الدولة، أي الحكومة والكنيست، في نهاية الأمر بكل ما ترغب فيه. وهذا يسمى بلغة مغسولة ’حوار دستوري’". ويورد مثالاً كيف أن المحكمة تبنّت تشريعات الكنيست في التماسين للجمعية حول طلاب المدارس الدينية وطالبي اللجوء. ويقول في مكان آخر رداً على السؤال ما إذا كانت المحكمة العليا تقف إلى جانب حقوق الإنسان: "ليس لديّ رؤى رومانسية بشأن المحكمة العليا كي تحلّ جميع المشاكل. هذه أداة إضافية للتصحيح والتغيير لصالح حقوق الإنسان، أداة أتوجه إليها مسبقاً بتوقعات منخفضة".
بدورها، حذرت منظمة "إنسان طبيعة وقانون" من فقرة التغلّب. وقالت في ورقة موقف مطلع الشهر إن "الحكومة لم تتشكل بعد ولكننا نسمع بالفعل عن خطط تهدف إلى إضعاف الديمقراطية الإسرائيلية وتقليل النقد المدني من جهة منظمات المجتمع المدني التي تحمي حقوق الإنسان في إسرائيل. نحن منظمة تعمل من أجل حقوق الإنسان البيئية، وتعمل بشكل حاسم ويومي لصالح الفئات السكانية المحرومة من بين الجمهور الإسرائيلي، والتي تتأثر أكثر من غيرها بالمخاطر البيئية وأزمة المناخ". وتضيف: "إن المحكمة العليا هي شريان الحياة لسيادة القانون في إسرائيل، والجدار الأخير الذي يقف ضد الاعتداء على حقوق المستضعفين وحقوق الإنسان بشكل عام، وهي تتعرض إلى هجوم حقيقي من أولئك الذين سيشكلون الحكومة المقبلة ويتولون مناصب الوزراء. إن فقرة التغلّب وإلغاء مقياس المعقولية والنسبية ليس سوى جزء من الشرور الخبيثة التي تهددنا، وذلك لأن المعنى العملي لها هو إلغاء الاعتبارات المستقلة للمحاكم الإسرائيلية والإخضاع التام للسلطة القضائية لكل نزوة لدى الأغلبية المنتخبة في الكنيست، حتى لو كان ذلك انتهاكاً خطيراً لحقوق الإنسان، بما في ذلك حقوق الإنسان البيئية".
أصوات قليلة تتناول السياسات المرتقبة لتعميق قمع الشعب الفلسطيني
هناك أصوات قليلة تتناول بالنقد السياسات المرتقبة للحكومة الرامية إلى تعميق قمع الشعب الفلسطيني وتعزيز الفوقية الاستيطانية اليهودية، من خلال التعديلات القانونية الجارية والمتواصلة. فقد أعلنت منظمة "غيشا- مسلك" الناشطة ضد تضييق حرية حركة الفلسطينيين، أن ممثلة عنها شاركت في اجتماع لجنة الكنيست الخاصة التي ناقشت اقتراحات لتعديلات على قانون أساس: الحكومة. وتوقفت عند مشروع القانون الذي يهدف إلى نقل صلاحيات الإدارة المدنية ومنسق عمليات الحكومة في المناطق الفلسطينية إلى وزير من حزب "الصهيونية الدينية" سيكون في وزارة الدفاع. وقالت ممثلة المنظمة: "التعديل الذي انعقدت اللجنة من أجله هو تعديل شخصي يثير مخاوف جدية بشأن تعميق انتهاك حقوق الفلسطينيين، بما في ذلك مليونان من سكان غزة، نصفهم أطفال. فبحكم سيطرتها الواسعة في غزة، يفرض القانون على إسرائيل مسؤولية عن سير الحياة السليم للفلسطينيين. الإدارة المدنية مكلفة، رسمياً وافتراضياً، بإدارة ’السياسة المدنية’ لإسرائيل في الضفة الغربية وقطاع غزة. لكن، عملياً، تدير هذه الهيئات وتنفذ سياسة الاحتلال، بما في ذلك الحصار الخانق الذي تفرضه إسرائيل على غزة، ونظام التصاريح المرعب والقاسي الذي تفرض إسرائيل من خلاله الإمكانيات الضيقة لحركة الفلسطينيين، ويهدف بشكل أساس إلى منع تنقلهم تماماً".
وحذرت من أن اقتراح تعديل القانون سيجعل من الممكن نقل صلاحيات الإدارة المدنية من وزير الدفاع إلى وزير شؤون "الاستيطان" نيابة عن الصهيونية الدينية. وهذا القرار يؤثر بشكل مباشر على حياة ملايين الأشخاص الذين يعيشون في قطاع غزة والضفة الغربية، بما في ذلك القدس الشرقية، وكذلك في إسرائيل. وقد يؤدي نقل السيطرة إلى حزب الصهيونية الدينية لمزيد من الضرر للحماية، القليلة جداً أصلاً، التي يتمتع بها الفلسطينيون حالياً ضد نظام الاحتلال، ويعمّق الأذى غير القانوني ضدهم.
المصطلحات المستخدمة:
الصهيونية, القانون في إسرائيل, بتسلئيل, يديعوت أحرونوت, القناة السابعة, لجنة الكنيست, باراك, الإدارة المدنية, الكنيست, نائب وزير