ثمة ثلاثة أنماط من "التطبيع" نشأت وتكرست، حتى الآن، في العلاقات بين إسرائيل والدول العربية على مر السنوات، هي: الأول ـ "تطبيع غير رسمي" يتميز بوجود علاقات ثنائية بين الدولتين، سرّية بصورة أساسية (إسرائيل والدولة العربية المعنية) من دون إقامة علاقات دبلوماسية؛ الثاني ـ "تطبيع رسمي وظيفيّ" (سواء كان جزئياً، مفروضاً أو اختيارياً) يتميز بالتعاون في مجالات الأمن والاستخبارات بشكل رئيس، وربما الاقتصادي في بعض الأحيان. ويستند هذا النمط، أساساً، على وجود مصالح مشتركة وأعداء مشتركين ويجري من وراء الكواليس، رغم احتوائه على بعض المظاهر العلنية الناجمة عن وجود علاقات دبلوماسية بين الدولتين؛ الثالث ـ "تطبيع شرعي وكامل" يتميز بوجود تعاون متعدد الأوجه والمستويات، على الصعيدين الحكومي والشعبي على حد سواء. في هذا النمط، يلعب النظام الحاكم في الدولة العربية المعنية دوراً حاسماً إذ يقود "من الأعلى" سيرورة تعاون متشعب ومثمر مع إسرائيل يجري الجزء الأكبر منها في العلن وبصورة مكشوفة، بينما يجري جزؤها الآخر في الخفاء.
هذا هو الاستنتاج الذي تخلص إليه دراسة مسحيّة جديدة أجراها البروفسور إيلي بوديه، أستاذ الدراسات الإسلامية وتاريخ الشرق الأوسط في الجامعة العبرية في القدس وعضو إدارة "معهد مِتفيم (مسارات) ـ المعهد الإسرائيلي للسياسات الخارجية الإقليمية"، وتقصى فيها تطوّر مصطلح "التطبيع" في سياق العلاقات بين إسرائيل والدول العربية. وقد وُضعت مخرَجات هذه الدراسة ضمن مقال نُشر تحت عنوان "التطبيع ـ أوجه عديدة له: أنماط في العلاقات الإسرائيلية العربية" في العدد الأخير (العدد 1، المجلد 25، آذار 2022) من "عَدكان استراتيجي"، الفصلية المتخصصة في أبحاث الأمن القومي، الصادرة عن "معهد دراسات الأمن القومي" الإسرائيلي. وقد انطلقت هذه الدراسة مما وصفه المقال بـ "النمط الجديد من التطبيع الذي بشرت بظهوره اتفاقيات أبراهام" بين إسرائيل وكل من الإمارات العربية المتحدة، البحرين، المغرب والسودان في النصف الثاني من العام 2020. وهو "نمط سلامٍ أكثر دفئاً" من "السلام البارد" بين إسرائيل وكل من مصر والأردن، القائم بين الحكومات بوجه أساس وليس بين الشعوب. فقد سارع الرئيس الأميركي السابق، دونالد ترامب، ورئيس الحكومة الإسرائيلية السابق، بنيامين نتنياهو، إلى وصف تلك الاتفاقيات بأنها "اتفاقيات تطبيع" ولم يكن استخدام هذ المصطلح "وليد صدفة، إطلاقاً"، كما ينوه المقال، إذ كان يرمي إلى التأكيد على أنه "خلافاً لاتفاقيات السلام مع كل من مصر والأردن ومنظمة التحرير الفلسطينية، فإن اتفاقيات السلام الجديدة هذه ستكون أكثر دفئاً وستتميز بإنشاء وتعزيز العلاقات ليس بين الحكومات فقط، وإنما بين الشعوب أيضاً"، علاوة على أن هذه الاتفاقيات قد شكلت "تطوراً مفاجئاً بشكل خاص"، كما يصفه المقال، "في ضوء حقيقة عدم حصول أي تقدم جدي على جبهة الصراع الإسرائيلي ـ الفلسطيني وبالنظر إلى حقيقة أن مصطلح "التطبيع" بالعربية يحمل دلالات سلبية". وعلى ذلك، جاء هذا المقال "لإجراء مسح لأنماط التطبيع التي تطورت في علاقات إسرائيل مع الدول العربية على مر السنوات". وهو المسح الذي قاد إلى رسم الصورة المشار إلى ملخصها أعلاه ويشكل البحث النظريّ بشأنه وحوله ـ كما يرى معدّه ـ "الأساس اللازم والمناسب لإجراء تحليل تاريخي تجريبيّ لهذه الأنماط في العلاقات بين إسرائيل والفلسطينيين ودول أخرى في الشرق الأوسط".
بمرور أكثر من سنة واحدة على إبرام "اتفاقيات أبراهام"، يبدو أن "ثمة فوارق جدية حقاً بين اتفاقيات السلام القديمة (مع مصر والأردن ومنظمة التحرير الفلسطينية) وهذه الجديدة". وبالرغم من أن تلك الاتفاقيات "القديمة" كانت قد شهدت "فترات من الدفء في العلاقات"، وخصوصاً لدى تأسيس العلاقات الدبلوماسية وخلال الفترة الأولى منها، إلا أن "هنالك فارقاً عميقاً في شكل تطبيق هذه الاتفاقيات"، ما يدل على أن "السلام البارد ليس النموذج الوحيد الممكن فقط" وأن "ثمة نماذج أخرى من التطبيع قد ظهرت وتطورت على صعيد العلاقات الإسرائيلية ـ العربية".
تعريفات نظرية ونماذج من التاريخ
يخوض المقال في التعريفات النظرية المختلفة لمصطلح "تطبيع" ويسجل أنها "تعريفات مشوبة ببعض الغموض"، لكن بالرغم من هذا الغموض "ثمة لهذه التعريفات دلالتان مركزيتان: الأولى ـ أن التطبيع هو سيرورة من العودة إلى وضع ما كان قائماً؛ والثانية ـ أن الوضع السابق كان استثنائياً أو غير طبيعي". ومع ذلك، تبقى في هذه التعريفات إشكاليتان اثنتان: الأولى، من الذي يقرر ما هي العلاقات الطبيعية؟ فما يبدو طبيعياً تماماً في نظر طرف ما قد يبدو غير طبيعي على الإطلاق في نظر طرف آخر؛ والثانية، قبل حالة الحرب بينها، لم تكن بين إسرائيل وأي من الدول العربية أي علاقات دبلوماسية، ما يعني أن "التطبيع" هنا ليس إعادة وضع إلى سابق عهده، بل خلق وضع جديد تماماً.
في مجال العلاقات الدولية، ارتبط استخدام مصطلح "التطبيع" في الغالب بإقامة علاقات دبلوماسية بين دولتين، على غرار ما حصل في الاتفاق الذي جرى التوقيع عليه بين اليابان وكوريا في العام 1965 أو في سياسة الانفتاح التي اعتمدها المستشار الألماني الأسبق ويلي براندت حيال ألمانيا الشرقية خلال الستينيات والسبعينيات والتي قادت إلى التوقيع على "اتفاقيات التطبيع" بين ألمانيا الغربية وكل من رومانيا (1967)، الاتحاد السوفييتي وبولندا (1970)، ألمانيا الشرقية (1972) وتشيكوسلوفاكيا (1973) والتي كانت ترمي إلى إقامة علاقات دبلوماسية "طبيعية" بين تلك الدول. وكان معنى التطبيع، في إطار تلك الاتفاقيات، تخفيف حدة التوتر الدبلوماسي والسياسي بين الدول على أمل تطوير نمط جديد من التعاون فيما بينها.
ثم يورد المقال نماذج أخرى عن تطبيق مصطلح "التطبيع" في الممارسة، من بينها العلاقات بين الولايات المتحدة والصين، والتي بدأ انفراجها بالزيارة السرية التي قام بها هنري كيسنجر إلى الصين في تموز 1971 مروراً بالزيارة العلنية التي قام بها الرئيس الأميركي ريتشارد نيكسون إلى الصين في شباط 1972 وانتهاء بالبيان المشترك الذي أعلن إقامة علاقات دبلوماسية بين البلدين إبان إدارة الرئيس جيمي كارتر في كانون الأول 1978 الذي أعلن أنه "في غضون أسبوعين من اليوم ستحقق الدولتان تطبيعاً كاملاً للعلاقات الدبلوماسية". ومن بين النماذج الأخرى مثلاً: مساعي التقارب بين الولايات المتحدة وفيتنام، بين الاتحاد السوفييتي واليابان والصين، بين إندونيسيا والصين، بين صربيا وكوسوفو (بعد إعلان استقلالها في العام 2008) ـ والتي وُصفت جميعها بـأنها "تطبيع" بين هذه الدول رغم أنها لم توصل إلى إقامة علاقات دبلوماسية.
تدل جميع هذه النماذج على أن التطبيع في الحلبة الدولية تجسد في صورتين اثنتين: الأولى ـ إقامة علاقات دبلوماسية "طبيعية" بعد حالة من الصراع، سعياً إلى إعادة العلاقات إلى سابق عهدها في الغالب؛ والثانية ـ تسويات ثنائية في مجالات الأمن و/ الاقتصاد والتجارة، لكن من دون إقامة علاقات دبلوماسية "بينما المفهوم الذي ترسخ في إسرائيل، والذي تحدث عن تسويات لاحقة على إقامة علاقات دبلوماسية كان الهدف منها توثيق العلاقات الثنائية، كان غير معروف في الحلبة الدولية"، كما ينوه الكاتب.
"التطبيع" الإسرائيلي و"التطبيع" العربي
في إسرائيل، ظهر مصطلح "التطبيع" للمرة الأولى في منتصف ستينيات القرن الماضي في سياق المفاوضات حول إنشاء علاقات دبلوماسية بين إسرائيل وألمانيا الغربية. ففي الرسالة التي وجهها رئيس الحكومة الإسرائيلية آنذاك، ليفي أشكول، إلى المستشار الألماني كونراد أديناور، حول هذا الموضوع، كتب أشكول أن "اتفاقاً كهذا سيكون بمثابة تطبيع للعلاقات بين الدولتين، لكن ليس بين الشعبين"، موضحاً أن "ثمة درجات من التطبيع، أعلاها هي المصالحة بين الشعوب" وأنه "من غير الممكن فرض التطبيع في العلاقات بين الألمان واليهود، لأن هذه العلاقات ينبغي لها أن تنبت من أسفل، وهي عملية مؤلمة قد تستغرق أجيالاً عديدة".
ثم احتل مصطلح "التطبيع" مكاناً مركزياً في عملية المفاوضات الإسرائيلية ـ المصرية لتحقيق السلام بين الدولتين، بعد أن سبقها تعريف محدد لـ "التطبيع" ورد في بيان انتخابي لأحد الأحزاب الإسرائيلية ("الحركة الديمقراطية للتغيير") خلال الانتخابات العامة في أيار 1977، إذ جاء أن الحزب مستعد لإجراء تسويات في إطار اتفاقية سلام تحقق تطبيع الحياة في المنطقة "بما يعني إلغاء المقاطعة العربية ضد إسرائيل والدعاية المعادية لها، الملاحة البحرية الحرة، الحدود المفتوحة، تبادل السفراء، إقامة علاقات تجارية وسياحية والتعاون الاقتصادي الإقليمي". بعد ذلك، تحدثت اتفاقيات "كامب ديفيد" عن "إقامة علاقات طبيعية" بين إسرائيل ومصر؛ هو مصطلح أصرت عليه مصر فيما اعتبرته إسرائيل "مطابقاً لمصطلح التطبيع"، وهو ما عبر عنه رئيس الحكومة الإسرائيلية آنذاك، مناحيم بيغن، في خطابه في الكنيست لدى زيارة الرئيس المصري، أنور السادات، حين قال: "نحن نريد إقامة علاقات طبيعية بيننا، كما هي الحال بين جميع الشعوب حتى بعد كل الحروب". كما طُرح مصطلح "التطبيع" في سياق إقامة العلاقات بين إسرائيل والصين (1992) وبين إسرائيل وبولندا (1990) وكان يعني في كلتا الحالتين: إقامة علاقات دبلوماسية.
أما في الخطاب العربي، فقد ظهر مصطلح "التطبيع" للمرة الأولى في نهاية سبعينيات القرن الماضي في أعقاب اتفاقيات "كامب ديفيد"، حسبما يشير المقال قبل أن يخوض بتوسع في التعريفات والتفسيرات المعجمية العربية لهذا المصطلح لينتقل، من ثم، إلى استخدامات المصطلح وتأويلاته العربية في السياقات السياسية والثقافية، وخصوصاً ما أثاره الإصرار الإسرائيلي المتكررة على "إعطاء معنى حقيقي للعلاقات وترجمتها في واقع العلاقات" من معارضة ورفض في أوساط الشعوب العربية وأحزابها السياسية المعارضة وشرائح واسعة من المثقفين والمشتغلين في المجالات الثقافية المختلفة.
بعد ذلك، ينتقل المقال ليورد عرضاً تفصيلياً موسعاً لنماذج / أنماط "التطبيع" الثلاثة التي خلص إلى تشخيصها، كما أشرنا إليها في بداية هذه القراءة، مشيراً إلى أن النموذج العيني من التطبيع يتحدد حسب الاختيار/ القرار العربي لأن "إسرائيل كانت معنية على الدوام بتحقيق تطبيع كامل، غير أن عوائق مختلفة ـ مثل المعارضة الشعبية بين منظمات المجتمع المدني وعدد من الدول العربية والإسلامية ـ شكلت صعوبات في وجه الحكومات والأنظمة (العربية) التي اضطرت، مرغمة، إلى تقييد نطاق التطبيع". ويؤكد الكاتب على أن تحليل مصطلح "التطبيع" في سياق العلاقات الإسرائيلية ـ العربية يفضي إلى أن ثمة تفسيرات مختلفة ومتناقضة قد ظهرت وتطورات لهذا المصطلح في كل من إسرائيل والدول العربية وأن هذه التفسيرات لم تكن منسجمة بالضرورة مع ما ذهبت إليه التفسيرات السائدة والمقبولة إجمالاً على الساحة الدولية. فبينما فُهم التطبيع هناك بأنه شكل من أشكال إعادة وضع ما إلى سابق عهده بعد حالة من الصراع، وأن هذا الفهم يعني، إلى حد بعيد، إقامة علاقات دبلوماسية، اعتبرت إسرائيل أن التطبيع هو "مجمل الإجراءات والخطوات المتَّخَذة في المجال السياسي، الاقتصادي والثقافي على الصعيدين الحكومي والشعبي بعد التوقيع على اتفاقية سلام وإقامة علاقات دبلوماسية". وبدون الاعتراف والعلاقات المتقدمة، فليس ثمة إعادة وضع إلى سابق عهده. في المقابل، يرى الكاتب أن "الجانب العربي، بصورة تعميمية، ينظر إلى التطبيع باعتباره مصطلحاً سلبياً ويفضل بدلاً منه استخدام مصطلح "علاقات طبيعية" أو مصطلح "علاقات عادية" واللذين يقصدان العلاقات بين الحكومات، لا بين الشعوب".
وفي الختام، تبني الدراسة على ما قدمته من عرض وتحليل للتطبيع الإسرائيلي ـ العربي لتخلص إلى الاستنتاجات التالية:
• من الممكن أن تنتقل دولة من وضع إلى آخر، مثلما حصل مع المغرب التي انتقلت من التطبيع غير الرسمي إلى التطبيع الرسمي (1995 ـ 2000) ثم عادت من التطبيع الرسمي إلى التطبيع غير الرسمي (2000 ـ 2020) ثم من التطبيع غير الرسمي إلى التطبيع الشرعي (2020)؛ بينما انتقلت السلطة الفلسطينية من التطبيع الشرعي إلى التطبيع الرسمي منذ العام 2000. كذلك قطر، عُمان، تونس وموريتانيا ـ مرت بتجربة تغيير وانتقال مماثلة. هذا التغيير هو نتاج الأحداث والتطورات على صعيد العلاقات الإسرائيلية ـ العربية عموماً (في السياق الفلسطيني غالباً وبشكل خاص ـ انتفاضة أو عدوانات عسكرية ضد قطاع غزة) و/ أو تطورات على الساحة الدولية، مثل مؤتمر مدريد وانهيار الاتحاد السوفييتي في بداية تسعينيات القرن الماضي، الربيع العربي والمحفزات التي قدمتها إدارة الرئيس الأميركي دونالد ترامب.
• كان التطبيع مع مصر والأردن في بداياته شرعياً ودافئاً، إلا أنه تراجع وتدهور بوتائر سريعة إلى تطبيع رسمي ("سلام بارد"). هذه السيرورة ذاتها قد تحصل مع المغرب، الإمارات العربية المتحدة والبحرين أيضاً، رغم أن هذا الاحتمال يبدو الآن بعيداً وغير واقعي.
• على ضوء النشاط المكثف الذي تقوم به منظمات معارضة ورافضة للتطبيع في مصر والأردن وعلى ضوء اللامبالاة التي تبديها الإمارات، البحرين والمغرب تجاه القضية الفلسطينية، يجدر بإسرائيل إشراك مصر والأردن بالذات في مساعي دفع الحوار مع الفلسطينيين، في محاولة للتخفيف من حدة الرفض والمعارضة بين منظمات المجتمع المدني في هاتين الدولتين.
• على ضوء ما للسعودية من مكانة وأهمية في العالمين العربي والإسلامي، ثمة أهمية كبرى لضمها إلى دائرة الاتفاقيات، لأن من شأن ذلك أن يعزز التطبيع في مصر والأردن وأن يساعد على إقناع دول عربية أخرى بالانضمام إلى هذه الاتفاقيات. لكن مع ذلك، ينبغي تذكر حقيقة أن القضية الفلسطينية لا تزال تشكل عائقاً مهماً في الطريق نحو السلام والتطبيع أمام أوساط المجتمع المدني في العالمين العربي والإسلامي.