الفصل بين اقتصاد التقنية العالية "الهايتك" وبين باقي قطاعات الاقتصاد الإسرائيلي، هو أمر بات يُشغل كثيرا الاقتصاديين ومسؤولي الحُكم في السنوات الأخيرة. فقطاع الهايتك مهم من حيث مستوى المداخيل وكمية الانتاج، ومن حيث الثقافة العالمية والتنافسية، أكثر من أي قطاع محلي آخر.
و"الهايتك" الإسرائيلي هو كإقليم كتالونيا في اسبانيا، منطقة انفصالية ومختلفة، مع مستوى معيشي عال أكثر من أي قطاع آخر. وحتى من ناحية ديمغرافية، تبرز فيه تميزات كثيرة، مثل نسبة الرجال العالية من بين مجمل العاملين فيه (66 بالمئة)، الذين يأتون أساسا من منطقة تل أبيب والمركز (حوالي 60% من اجمالي العاملين). ومن السابق لأوانه معرفة ما إذا صناعة "الهايتك" الإسرائيلي ستطلب استقلالا كما الكاتالونيين، ولكن بالتأكيد فإنه قطاع على مفترق طرق، في كل ما يتعلق بمكانته في الاقتصاد الإسرائيلي.
قطاع "الهايتك" هو محرك للنمو الاقتصادي، وله تفوق نسبي لدينا. عدد العاملين في قطاع "الهايتك" يبلغ حوالي 290 ألفا، وقد تضاعف العدد منذ العام 1995 وحتى اليوم، بحسب معطيات مكتب الاحصاء المركزي الإسرائيلي. ومستوى معدل الرواتب ارتفع، ووصل إلى ضعفي معدل الرواتب في الاقتصاد ككل. ومن ناحية ثانية، فإن هذه المعطيات تبرز التخلف الذي تعاني منه باقي قطاعات الاقتصاد، من حيث الانتاجية ومعدل الرواتب ونسبة نموها الاقتصادي.
والحياة في قطاع "الهايتك" تبدو أفضل بكثير، لكن في الآونة الأخيرة اتضحت مشكلة جديدة: فالهايتك لم يعد يعرف خلق أماكن عمل، كما عرف هذا في الماضي، فإذا في منتصف سنوات التسعين كان بمقدور كل وظيفة في "الهايتك" أن تخلق مكاني عمل اضافيين، ليسا في "الهايتك"، فإن المعدل في العام 2011 هبط إلى 3ر1 وظيفة، وفي العام 2016 هبط إلى 8ر0 وظيفة فقط. بمعنى أن كل وظيفة في "الهايتك" باتت تخلق وظائف أخرى بدرجة أقل حتى في القطاع ذاته، كما أنها لم تعد وظيفة شمولية تؤثر على باقي القطاعات، مثل المطاعم والسفريات.
وهذه قضية تثير التخوف من أن يكون "الهايتك" محرك نمو محدود، هذا إذا بقي محركا للنمو أصلا. وهو قطاع باتت قدرته على خلق أماكن عمل لأشخاص ليسوا تقنيين وفيزيائيين أو مهندسين، تتراجع باستمرار.
ولهذه الظاهرة عدة تفسيرات، ويعتقد البروفسور يوجين كانديل، الرئيس السابق للمجلس الوطني للاقتصاد، ومن يرأس حاليا جمعية "ستارت أب نيشين سنترال" لتعزيز مكانة إسرائيل كقوة هايتك عظمى، أن هذا التراجع نابع من أن نشاط شركات متعددة القوميات في إسرائيل تتركز أساسا في نشاط مراكز الأبحاث والتطوير، وليس في التشغيل والانتاج. ففي العقد الأخير وسّعت الشركات متعددة القوميات نشاطها في مراكز الأبحاث والتطوير في إسرائيل، ويتم سنويا شراء حوالي 30 مركزا كهذا.
وفي العام 2015 عمل في مراكز الأبحاث والتطوير للشركات متعددة القوميات، 2ر45 ألف شخص، 68% منهم عملوا مباشرة في تلك المراكز. ويعمل في هذه المراكز أساسا تقنيون وباحثون ومهندسون، ومن حولهم قلة قليلة جدا من القوى العاملة الأخرى.
ويتابع أهارون أهارون، رئيس سلطة التطوير، عن قرب الظاهرة الأخيرة، وينقل رسائل مفادها أن إسرائيل بحاجة إلى ما يسميه "شركات متكاملة"، شركات لديها نشاط آخر، وليس فقط في الابحاث والتطوير، مثل أن تكون انتاجية ومسوقة وداعمة. وبهذه الطريقة بالإمكان الحفاظ على تنوع تشغيلي في "الهايتك"، وأن لا يكون قطاعا متركزا بالتقنيين والعلماء، وبهذا سيزداد تأثير شمولية صناعة "الهايتك". ونموذج جيد لهذا، هو شركة "إنتل"، التي تزود أماكن عمل لتنوع كبير من أصحاب المهن، مثل أعمال تقنية وإدارية وحتى المختصين بالأبحاث والتطوير.
والظاهرة العكسية لما نراه هو بيع شركات "ستارت أب" إسرائيلية لشركات متعددة القوميات، التي تقرر التركز هنا، في نشاط الأبحاث والتطوير، مثل شركة "أنوفيط"، التي تم بيعها قبل خمس سنوات، لشركة "آبل"، مقابل نصف مليار دولار. والشركة التكنولوجية الضخمة هذه قلصت عمل "أنوفيط" في إسرائيل، لتتركز في مجال الأبحاث والتطوير، وهذا ما أدى إلى خسارة أماكن عمل، ليست في قطاع "الهايتك" كليا. وفي المقابل، في أعقاب صفقة البيع هذه أقامت "آبل" مركز أبحاث وتطوير يشغل 700 عامل وهناك حالات شبيهة أخرى.
وهناك تفسير آخر لتقلص عدد الوظائف التي ليست من "الهايتك" كليا، كالتي كان يخلقها هذا القطاع، وهي مرتبطة بالتكنولوجيا. فكلما هذه تتركز أكثر في مجال الحاسوب والأجسام الآلية، وتستبدل نشاط الانسان، فهي تقلص أعداد العاملين. وهذا يوضح أكثر السؤال: كيف ولأي اتجاه يتم تخصيص محفزات الحكومة، من أجل زيادة النجاعة الاقتصادية. فمن الواضح كليا أن المصنع يعرف كيف ينتج أماكن عمل متنوعة، أكثر من مراكز الأبحاث والتطوير.
وفي إسرائيل أيضا ظاهرة الشركات المتكاملة التي تباع وتخرج من الاقتصاد الإسرائيلي، وهي كما يبدو ظاهرة مستمرة. وامكانية أن تفرغ الشركات متعددة القوميات الشركات التي تشتريها من النشاط الاقتصادي العام، لتتركز في مجال الأبحاث والتطوير، تثير السؤال، إذا من الممكن منع الظاهرة من خلال محفزات ضريبية مثلا. وهذه هي خطة سلطة العصرنة، المعنية بأن تحاول زيادة عدد الوظائف من خارج قطاع "الهايتك"، في داخل القطاع ذاته.
لماذا هذا مهم إلى هذا الحد؟ لعدة أسباب: فوظيفة "الهايتك" تخلق مدخولا عاليا، أكثر من أي قطاع آخر، وهي ذات جودة أكثر، من ناحية القدرة على استمرار الوظيفة، وصمودها في الاقتصاد العالمي، مقابل مصانع تقليدية آخذة بالتلاشي. ويوجد سبب اضافي نجده في المجال الاجتماعي، وهو الخوف من انعزالية قطاع "الهايتك" عن باقي قطاعات الاقتصاد، ما سيخلق حالة من أجواء "الضد" تجاهه. وهذا يبدو وكأنه ليس واقعيا، لأن "الهايتك" يحظى اليوم بتأييد واعجاب شعبي، ما لن تجدوه في قطاعات أخرى مثل البنوك وشبكات التسوق وشركات الخليوي. وكل شركة تباع وتخرج من الاقتصاد وما يلحق هذا من ثراء، تحظى بإعجاب وحسد لا يتحول إلى غضب، كما يحدث تجاه حيتان المال والبنوك.
إلا أن الفجوات الاجتماعية والاقتصادية هي آلية ستقود إلى حالة تململ في مرحلة ما. ويحذر البروفسور كانديل من هذا، في مؤتمر عقد في المعهد الإسرائيلي للديمقراطية في القدس قبل بضعة أشهر. فقد ادعى أنه إذا ما واصلت الفجوات الاقتصادية بين "الهايتك" وباقي القطاعات الاتساع، فإن الجمهور الإسرائيلي سينفر من قطاع "الهايتك"، وسيضغط على الحكومة لتتوقف عن تقديم امتيازات ومحفزات لهذا القطاع. ولكن بخلاف عن البنوك وشركات الخليوي، التي لا تستطيع ترك إسرائيل، فإن شركات "الهايتك" قادرة بسهولة وخفة على أن تتنقل من مكان إلى آخر أكبر.
والاستنتاج هو أنه إلى جانب المحفزات في صناعة "الهايتك"، فإن على الدولة أن تعالج الصناعات المحلية، إن كان بمحفزات ضريبية، أو بالاستثمار والتأهيل المهني، وتطوير العصرنة وزيادة مستوى الانتاجية. وهذه اجراءات من المجدي فعلها في كل حالة، دون أي علاقة بتطور "الهايتك". لكن من الواضح أن في صناعة "الهايتك" تحديا كبيرا، وهو أن يبقى هنا أكبر عدد من الشركات المتكاملة- انتاج وتسويق وباقي المهمات، التي ستفسح المجال أمام أناس أكثر للعمل والأكل من ذات الكعكة اللذيذة، في الاقتصاد الإسرائيلي.
حسنا ليس كل شيء هو وردي في صناعة "الهايتك"؛ فعلى الرغم من الهالة حولها، يجري الحديث عن سوق صعبة، مع استقرار وظائفي متدن، فلا لجان عمال، وتوجد نسبة عالية لفشل المصالح، وكثير من رحلات العمل القصيرة الجوية، وساعات عمل أكثر، التي خلقت في ما مضى الكثير من "أرامل الهايتك" و"يتامى الهايتك".
لكن في هذا أيضا، بشرى مشجعة للعاملين في "الهايتك"، فالفجوة بين عدد ساعات العمل لديهم، وبين العاملين في باقي القطاعات تتقلص؛ فإذا في العام 2011 عمل عاملو "الهايتك" ست ساعات أكثر بالمعدل أسبوعيا من غيرهم، فإن الفارق تقلص في العام 2014 إلى 3ر4 ساعة، على فرضية أن هذا نابع من أن عدد ساعات العمل في "الهايتك" قد تقلص، وبالتالي تقلص عدد "أرامل ويتامى الهايتك".
(عن صحيفة "ذي ماكر")