حتى قبل أن يبدأ بنيامين نتنياهو محاولته الرامية إلى إصلاح الأضرار الهدّامة، التي خلفتها حملته الانتخابية الهدّامة- "آسف للعرب، لم أقصد"، و"آسف أوباما، حقيقة لم أقصد"- فُتحت حلبة دامية أخرى بدرجة لا أقل: حلبة الصحافيين الذين يطعن الواحد منهم الآخر، بسكاكين طويلة وحادة. فقد اتهم عميت سيغل من القناة الثانية للتلفزيون، رفيف دروكر من القناة العاشرة للتلفزيون، بأنه قاد القناة التلفزيونية، "في مسيرة تملؤها المشاهد المهووسة"، بسبب توجهات دروكر اليسارية. وردّ دروكر بأن سيغل بذاته ارتكب الخطيئة المهنية بحق المشاهدين، من خلال تستره على مواقفه اليمينية.
ودعا الصحافي اليميني كالمان ليبسكيند لإقالة الصحافيين اليساريين من شركات الأخبار، وادعى أنه يجب "كسر احتكار الأقلية الإسرائيلية الصغيرة لسوق الاتصالات". وتلقى ليبسكيند هجوما مضادا، بالأساس من جانب العاملين في القناة العاشرة. ونشر ضابط إذاعة الجيش مقالا مفاجئا، أغدق فيه المديح على رئيس الوزراء، وأعلن وجود ضرورة لإدخال صحافيين يمينيين أكثر للإعلام المركزي. وجوبه هذا الضابط فورا بمقالات غاضبة من العاملين في إذاعة الجيش، ومن بينهم أوري باز، المنتج السابق في الإذاعة. بينما وصف أفنير هوفشطاين حملة الانتخابات البرلمانية الأخيرة بأنها "نكبة الإعلام"، ولا أقل من ذلك.
الاستنتاج الناشئ والمُعلن من حملة المنتقدين والذين يجلدون أنفسهم، كان واحدا: الفجوة المفاجئة بين نتيجة الاستطلاعات وبين نتائج الانتخابات النهائية، فهذه تدل على فشل الصحافيين في مهمتهم. وأكثر من هذا، أن هذه الفجوة تثبت الشبهة التي تحوم من فوق رؤوسهم: فالفشل نابع من التوجيه اليساري في جهاز الإعلام.. هذا الكيان الضبابي نوعا ما. فالتوجيه اليساري تسبب في أن يوجه الصحافيون في وسائل إعلام معينة، انتقادات حادة لنتنياهو وأبناء عائلته خلال حملة الانتخابات، وهذا ما أعمى بصيرتهم، وتسبّب بعدم رؤية رغبة الشعب.
لكن هذا استنتاج مشوّه ومنفصل عن الأساس. فأولا، وظيفة الصحافة هي الانتقاد، ومتابعة مصادر القوة، وبالتأكيد حينما تكون الشخصيات المركزية في مراكز القوة تسعى إلى كسب ثقة الجمهور من جديد. وفي مسألة الاستطلاعات، فإن الصحافيين تعاملوا مع معطيات محدودة كانت بأيديهم. وتبادل الاتهامات ليس اثباتا على التوجيه، وإنما على الصراع الحاد القائم منذ سنوات بين اليسار واليمين، على السيطرة على الصوت الإسرائيلي المهيمن، فكل طرف يشد اللحاف إلى اتجاهه ويركل الآخر بكل قوته.
والأحاديث عن التوجيه اليساري في الإعلام، لم تنشأ في إسرائيل، بل بالذات في الولايات المتحدة الأميركية، فهناك تُكثر أوساط اليمين في أحاديثها عن سيطرة ليبرالية على وسائل الإعلام. وفي خلفية ادعائها أن وسائل إعلام مركزية- شبكات البث الثلاث- NBC, ABC, CBS- والصحافة الكبرى مثل "نيويورك تايمز"، و"واشنطن بوست"، فيها حركة واضحة لصحافيين ذوي مواقف ليبرالية. وعمليا، فإن إقامة شبكة فوكس نيوز، على يد رجل الإعلام المحافظ روبرت مردوك، يهدف إلى كسر الهيمنة في الإعلام الأميركي، وعرض صوت يميني بديل. وخطوة مردوك هذه شجعت شلدون إدلسون على إصدار يومية "يسرائيل هيوم" المجانية في إسرائيل (الداعمة بالمطلق لشخص بنيامين نتنياهو).
والاتهامات حول توجيهات الصحافيين اليسارية ليست منزوعة عن الواقع، ولكن الصورة معقّدة أكثر مما يخيّل. فالعمل الصحافي يجذب أشخاصا ذوي توجهات ليبرالية، وأنا أكتب هذا بثقة، تقريبا كحقيقة، وليس على أساس بحث أكاديمي معمق، وإنما ببساطة، لأنني أعيش في هذا المستنقع.
إن الربط بين العمل الصحافي، وبين التوجهات الليبرالية، لا يدخل في إطار "التوجيه"، فهذا ربط طبيعي قائم أيضا في بريطانيا والولايات المتحدة ودول أخرى، تماما كما أن من يتجه للعمل في مجال علم النفس، يكون من المهتمين في علم الإنسان، ويتمتع بحالة إنصات وتوجه تعاطفي للآخرين. ولمهنة الصحافة قيم أساسية: الصمود أمام مراكز القوة، والوقوف إلى جانب الضعيف، والإيمان بالحرية كقيمة مركزية، وتبني وجهات نظر إنسانية، والاهتمام بـ "الآخر"، من خلال انفتاح وحب استطلاع.
وهذه ليست مضامين ضرورية، ولكنها بالتأكيد منتشرة بين أوساط العاملين في مهنة الصحافة، ولهذا إذا ما نظرنا إلى المواقف الشخصية للصحافيين، فإن الاتهامات بتوجيه يساري، لا صلة لها بالواقع. ولكن أمام كل هذا، تعمل في العقدين الأخيرين قوى أخرى، تتمتع بقوة كبيرة، وتجر وسائل الإعلام إلى الاتجاه الثاني. بداية مجرد أن تكون وسائل الإعلام تجارية، فهذا يجرها نحو اليمين، تقريبا من دون أن تعرف.
مثلا صحيفة "يديعوت أحرونوت" عرضت على مدى سنين الرواية "اليمينية" المتسترة، فقط لاستخدامها وسائل تسعى للشهرة: زرع الخوف من التهديدات الخارجية. وقد عرض "الآخر" بشكل مُقولب- "حريديم" "فلسطينيين". وتم التركيز على المجموعات التابعة لنمط "نحن بمواجهة العالم". ومحاولة تعريف "الإسرائيلية" وربطها بالصحيفة: "صحيفة الدولة". ولربما أن مالكي الصحيفة لديهم مواقف يسارية على المستوى الشخصي، ولكن على مدى السنين ظلوا يختلقون لقارئيهم صورة عالم منغلق، ونزعات انعزالية وقومجية.
عدا هذا، فإنه تقريبا منذ عقدين تبذل أوساط اليمين جهودا ممولة، من أجل تغيير "التوجيه اليساري"، وغرس كُتّاب وإعلاميين من التيار الديني الصهيوني، في قلب وسائل الإعلام المركزية. وهذا جهد سيغير الخارطة الإعلامية لتصبح شكلا لم يشهده أحد من قبل.
وهذا يبدأ من مدرسة السينما وما فوق، ونشاط صندوق "آفي حاي" الذي أغرق شاشة التلفزيون بمواضيع مرتبطة باليهودية والشخصيات المتدينة، مرورا بسلسلة مبادرات اعلامية، ذات توجهات يمينية- مجلة "مكور ريشون"، وقناة تخيليت (أغلقت لاحقا)، والمجلة الثقافية "تخيليت (أغلقت)، وإذاعة المستوطنين "غالي يسرائيل"، التي تم ترخيصها بوسائل ليس معروفة وليست مفهومة، ثم قناة "20" الجديدة، ثم توجهات صحيفة "معاريف" الجديدة، باتجاه التيار الديني الصهيوني، والقرار الذي اتخذته إذاعة الجيش، التنوع في طابع الإذاعة، ومن فوق كل هذا، صحيفة "يسرائيل هيوم".
تحت مظلة كل هذا، انطلقت بشكل مبرمج أصوات جديدة داخل وسائل الإعلام المركزية، ومن بينهم أوري أورباخ (توفي مؤخرا) وعميت سيغل وحانوخ داوم وأريئيل سيغل وكوبي أريئيل وإميلي عمروسي.
وعلى ضوء هذا يُطرح السؤال: هل في هذه الحال الإعلام الإسرائيلي "يميني" أم "يساري"؟. إن الجدل الذي نشأ بين صحافيين بارزين في قناتين مركزيتين، إن كان من ناحية اليمين أو اليسار، يدل على أن الإعلام ليس يساريا كما يخيل، وإنما حلبة للصراع الحزبي.
ومن بقي مشوشا ومتروكا على الهامش، هو الجمهور الذي يتوجه له الإعلام. فهو بات بحاجة إلى مرشد يخرج من حالة التشوش، في كل مرّة يتم فيها افتتاح نشرة الأخبار المركزية في التلفزيون. وبهذا المفهوم، فإن ذلك الجدل بين الصحافيين هو مهم ويشجع الشفافية، ولكن من المجدي أن نوضح على ماذا يدور الجدل: الادعاء بوجود توجيه يساري هو وسيلة تكتيكية فقط بيد عناصر اليمين. والصراع هو بين جانبين على السيطرة على الميكروفون القومي.